نوافذ: حكايات المرضى والأطباء
مريض يقتحم عيادة الطبيب رغم أن دوره لم يحِنْ بعد، والذريعة أنه مريض، وكأن الآخرين الذين ينتظرون الدور وسبقوه في الوصول إلى العيادة جاؤوا للطبيب متنزهين!. مريض آخر يُملي على الطبيب ما يفعل: أريد سقّاية، لا أريد حقنة، لستُ مقتنعًا بالإنسولين، وكأنه داخل إلى بقالة. مريض ثالث يطلب من الطبيب تقريرًا طبيّا ينصّ فيه على الإعفاء من السفر، لأنه لا يود الانتقال من مقرّ عمله إلى مقرّ آخر أبعد عن منزله، ويغضب إن لم يخالف الطبيب ضميره. هذا غيضٌ من فيضِ ما تسرده الطبيبة بدرية المحروقية في كتابها "إتيكيت العيادة" من تصرفات المرضى في عيادات الأطباء التي تخلو في بعض الأحايين من اللياقة والتهذيب.
نستطيع أن نعتبر هذا الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار نثر العُمانية دليلًا لأخلاقيات التعامل بين المريض والطبيب، فالمحروقية لا تكتفي بسرد حكايات المرضى الذين يقترفون تصرفات غير مهذبة أو غير لائقة بحقّ الطبيب، بل تتناول في القسم الثاني من الكتاب تصرفات الأطباء أيضا، تلك التي يُمكن عدُّها غير ملتزمة بضوابط وأخلاقيات المهنة، وتتسبب في إثارة حفيظة المرضى أو فقدانهم الثقة بالأطباء. منها مثلًا إفشاء أسرار المرضى، والجمود وعدم السعي للتطور في مجال المهنة أو تحديث المعلومات الطبية، والانشغال عن المريض بمكالمات هاتفية أو مشاغل أخرى، والتطويل في وقت استراحة الطبيب بينما المرضى ينتظرون متألمِين، وتشخيص مرض أو نفي وجوده بتسرّع دون فحص أو تيقن، وفي مقدمة هذه العيوب كلّها انطفاء الشغف بالمهنة، بل إنها تتجرأ وتنصح الطبيب الذي "يخرج متثاقلًا إلى عمله كمن يجرّ للموت" بالقول: "إذا فقدتَ شغفك فاعتزِلْ، فإن مهنة الطبيب لا تحتمل الخطأ ولا تحتمل الثقل والزحف".
من أطرف ما سردته الطبيبة في كتابها من تصرفات المرضى أن طبيبًا كان يشرح لمريضه البدين الخطة العلاجية لإنقاص الوزن، التي ستحتوي على حِمية غذائية وممارسة للنشاط البدني. ولأن هذا الطبيب هو الآخر من ذوي الوزن الزائد فقد بادره المريض بالقول ساخرًا: "حتى إنته يحتاج لك دكتور"!. كما تروي حكايةَ طبيبة استدعتْ زميلتَها الطبيبةَ المشرفة لاستشارتها في حالة إحدى المريضات، وعندما دخلتْ هذه الطبيبة المشرفة كان واضحًا على المريضة القلق والتوتّر، ليس من المرض وإنما من شيء آخر خارج المستشفى، حيث طلبتْ من الاستشارية قبل أن تدلي بدلوها في مرضِها الاتصال بزوجها (أي زوج المريضة) لإقناعه أنها لم تتأخر في المستشفى من تلقاء نفسها!.
أما حكايات الأطباء فقد خلتْ من الطرافة، لأن الجانب الإنساني المفقود في أكثر من حكاية يجعل القارئ يستقبلها بامتعاض من هذه التصرفات، منها مثلًا رفض أحد المستشفيات استقبال مريض محوّل إليه "بصفة عاجلة لأن وضعه لا يحتمل الانتظار" بحجة عدم اكتمال الفحوصات المخوِّلة للتحويل، ولأن هذه الفحوصات تستغرق أسابيع، نصح الطبيب أهل المريض الذي كان قد حوّله للمستشفى بإجراء هذه الفحوصات في عيادة خاصة بشكل سريع، وهو ما كان، لتكون نتيجة الفحص لهذا المريض الذي رفضه المستشفى ورمًا سرطانيًا في الكبد!. حكاية أخرى تسردها المحروقية عن حامل توجهت للطبيبة وهي تشعر بآلام شديدة أسفل البطن وكانت قلقة من إمكانية فقدان جنينها، لكنّ الطبيبة ودون أن تكلّف نفسها بفحصها طمأنتْها أنه لا داعيَ للقلق، وعندما توجهت إلى مستشفى آخر أكد لها الأطباء أنه حملٌ خارجَ الرحم!.
تقول بدرية المحروقية في مقدمتها للكتاب إنها كانت مترددة في الكتابة، ربما لأن هناك من سبقها في تأليف كتب عن أخلاقيات مهنة الطب وواجباتها، أو عن يوميات المرضى في المستشفيات وتصرفاتهم الغريبة، ولكنها في النهاية حسمت أمرها وقررت أن تكتب. وحسنًا فعلتْ. فلا يمكن لمريض أو طبيب أن يقرأ "إتيكيت العيادة" دون أن يشعر أن شيئًا ما فيه يتغيّر إلى الأفضل، وأنه يحسّ بالنفور من هذه التصرفات التي سردتْها حكايات الكتاب، حتى وإن كان هو نفسه متورطًا باقترافها.
