هوامش... ومتون: عربات متعدّدة وحصانٌ واحدٌ
إذا كان "الممثل روح العصر، وخلاصة التاريخ" كما يرى شكسبير على لسان هاملت، فهو روح العرض المسرحي وركيزته الأولى، وحجر الزاوية الذي يستند عليه في بنائه على الخشبة، فلا يمكن أن يقام عرض بدون ممثل، يؤدي دورا بكل جوارحه الشعورية، متتبّعا مجموعة من المبادئ التقنية في عملية التدريب والإدارة الذهنية، والوجدانية والحركية، حدّدها قسطنطين ستانسلافسكي في كتابه "إعداد الممثل"، حتى لو كان ممثلا يقف بمفرده على الخشبة، هذا الممثل الواحد، قادر بموهبته، وإيمانه "أن يحوّل خشبة المسرح إلى كائن حيّ "كما يرى ستانسلافسكي، ومسرح المونودراما الذي يقف على أكتاف ممثل واحد، يغدو به، هذا الممثّل، حصانا يجرّ عربات، وربّانا يقود سفينة حتى يوصلها برّ الأمان، وقائد مركبة يتنقل بها بين المدارات.
ومسرح (المونودراما) ليس وليد اليوم، بل يعود إلى قبل ظهور المسرح اليوناني أي المرحلة التي كان المسرح فيها لا يعدو أن يزيد عن طقس تعبدي، ثمّ حدثت الانتقالة التي جعلت المسرح يعبر من مرحلة الأداء السردي إلى مرحلة الأداء التمثيلي، كما يؤكد الدارسون، مع ظهور أول ممثل في التاريخ هو ثيسييس"، ثم وقف ممثلون آخرون، فالمسرح نتاج عملية تفاعل بين أفراد، هذه العملية تؤسس للفعل الدرامي على الخشبة، ومن هنا فالمخرج والمنظّر المسرحي (بيتر بروك) يتحفّظ على مسرح المونودراما، لافتقاره للتفاعل المطلوب، وهو الأمر الذي جعل أحد الكتّاب يخرج المونودراما من دائرة المسرح، فيقول "المونودراما شخص يقف على الخشبة ويكلم نفسه"، لأن المونودراما بالنسبة له تجميع لعدد من المونولوجات وفي هذا الفهم تبسيط كبير، والكثير من التجني، فهناك ممثلون يجعلون الخشبة مليئة بالشخوص من خلال التلوين الحركي، والصوتي، والتعبيرات على الوجه، والسينوغرافيا، خصوصا إذا كان الممثل صاحب خبرة، والمخرج يمتلك مخيلة خصبة، وقد ظهر هذا النوع في وطننا العربي بمنتصف القرن الماضي، ويرى الباحثون أن أول عرض مونودراما عربي قدّم على مسرح معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1950، حمل عنوان (مجنون يتحدّى القدر) كتبه، وأخرجه، ومثّله الفنان العراقي الراحل يوسف العاني، بعد ذلك تواصلت العروض، والمهرجانات الخاصة بالمونودراما، ومن بينها " أيام المسرح المونودرامي" الذي أقامته جامعة السلطان قابوس افتراضيا، وقد عدّت الدكتورة رحيمة بنت مبارك الجابرية رئيسة قسم الأنشطة الفنية بعمادة شؤون الطلبة هذا المهرجان رائدا على مستوى السلطنة، فعروض المونودراما التي قدمت في السلطنة قليلة، ومن أولى التجارب التي شاهدتها، وعلقت في ذهني كان "مجرّد نفايات" للكاتب الراحل قاسم مطرود، الذي أخرجه خالد العامري، ومثّله الفنّان عبدالحكيم الصالحي، وقدّم ضمن عروض مهرجان المسرح الجامعي الخامس الذي أقيم عام 2009م، وبعد فوزه بعدّة جوائز، من بينها أفضل ممثل، وأفضل مخرج، جرى تقديمه في لندن بحضور كاتبه الراحل قاسم مطرود، ثم خصّص النادي الثقافي ملتقى للمونودراما قدّم منه دورتين، الأولى في مسقط ٢٠١٨ والثانية في صلالة ٢٠١٩ وننتظر مهرجان الممثل الذي أعلنت عنه الجمعيّة العمانية للسينما والمسرح، وتقتصر المشاركة على عروض المونودراما، التي تقدّم في مبنى الجمعية بدون حضور الجمهور مقتصرا على المنفّذين للعرض فقط وحددت موعد إقامته في الفترة من 10 لغاية 18 نوفمبر المقبل.
وتكمن أهميّة هذه الأنشطة أنّها تقام في ظرف استثنائي يمرّ به عالمنا اليوم، خلّف شحوبا على وجهه، فالجائحة أوقفت أنشطة الحياة، وطال الضرر المسارح، فأدّت إلى إغلاق الكثير من قاعات العرض المسرحي في مناطق متعدّدة من العالم، ولأن المسرح فعل قائم على التقارب، وتفاعل الممثلين على الخشبة، وهذا يخالف الاحترازات الواجب اتّباعها، لذا، فليس أمام المسرحيين سوى الاستعانة بمسرح المونودراما، وممثّل واحد يكفي لتحريك عجلة المسرح بعد (هبوط اضطراري)، وذلك يأتي بهمم الشباب الذين أمضينا وقتا طيّبا مع رؤاهم، وأحلامهم، وأفكارهم المجنّحة، ويكفي أن أيّام المسرح المونودرامي كشفت عن طاقات شابّة، لم تتردّد بصعود صهوة هذا الحصان الجامح، فأسلم لها القياد، وقدّمت ممثلين، بعضهم يقف على خشبة المسرح للمرّة الأولى، ومخرجين لم يسبق لهم تقديم عروض خارج كلّيّاتهم، واقتصرت اشتغالاتهم على دوائر ضيّقة، وجاءت ( أيّام المسرح المونودرامي) لتمنحهم فرصة معانقة هذا الفضاء الساحر، ولو عن بُعد.
