غسان كنفاني والشاب العُماني

07 أغسطس 2021
07 أغسطس 2021

ماذا لو أن نضج القصة القصيرة في عُمان بكّر قليلًا ولو بعشرين عاما؟ ماذا لو أن التعليم النظاميّ بكّر أيضًا ولو بعشرين عاما؟ ماذا لو أن المهاجرين العُمانيين إلى الخليج أو شرق إفريقيا بحثا عن لقمة العيش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كانوا قد نالوا حظَّا يسيرًا من التعليم يتيح لهم في الأقل القراءة والكتابة؟ أما كنا سنقرأ اليوم كتبًا أدبية فاتنة تسرد حكاياتهم في بلاد المهجر على شكل مذكرات أو يوميات أو سير ذاتية أو قصص أو روايات؟ هذه الأسئلة تقافزت إلى ذهني وأنا أُعيد قراءة قصة غسان كنفاني التي لا تُمَلّ "موت سرير رقم 12" التي كتبها في الكويت سنة 1960، ونشرها في مجموعته القصصية الأولى التي صدرت بعد ذلك بعام.

أتصوّر أنه لا يُمكنُ لعُمانيّ محبٍّ للأدب أن يقرأ هذه القصة دون أن يشهق إعجابًا، ليس فقط لأنها من أجمل قصص المجموعة إلى الدرجة التي استحقت معها أن تحمل اسم الكتاب، وليس فحسب لأنها تطرح أسئلة الإنسان الوجودية ومكابداته مع الحياة، وليس فقط لفنّية كتابتها العالية التي يشتبك فيها الواقعي بالخيالي بحيث يصعب الفصل بينهما، ولكن أيضًا، إضافة إلى كل ذلك، لأن بطلها شاب عُماني مكافِح مات في أحد مستشفيات الكويت "وهو ينزف عرقًا نبيلًا في سبيل لقمة شريفة"، كما كتب كنفاني في مقدمته المقتضبة للمجموعة.

هذه المقدمة بدورها تثير الحيرة والتشوش، ليس لأن كنفاني أكد فيها على مسلَّمة مفروغٍ منها لم يكن بحاجة إلى قولها، وهي أن الكتاب يجب أن يقدم نفسه بنفسه بلا حاجة إلى تقديم من كاتب مشهور، بل أيضًا لأنه قدم التعزية إلى "العائلة المجهولة التي فُجِعتْ بموت ابنها" بطل قصة "موت سرير رقم 12"!، وكأنه يقول ضمنًا إن هذه القصة لها جذر واقعي، وأن الاسم الذي اختاره لبطله (محمد علي أكبر) جاء بسبب صدفة الواقع، وليس لاعتباراتٍ فنية. غير أن صدفة الواقع هذه (إن كان واقعًا حقًّا) جاءت لصالح القصة، فالاسم هو الأنسب لقصة تعتمد حبكتها السردية على تشابه الأسماء، حيث سيدفع بطلها بائع قِرَب الماء في مدينة بخا العُمانية ثمنًا فادِحًا لتشابه اسمه مع اسم لص الخراف (محمد علي الشقي)!. وأقول الأنسب، لأنه حين يتأمل المرء المشاهير الذين يحملون اسم (محمد علي) فإنه بالفعل لا يمكن تمييزهم دون إضافة اسم ثالث، تمامًا كما كان بطل القصة يصرّ على الممرضات في المستشفى الكويتي أن يخاطبنه باسمه الثلاثي هذا (محمد علي أكبر) وإلا فإنه لن يرد. فعلى سبيل المثال سنحتاج إلى إضافة اسم "كلاي" إلى "محمد علي" لنعرف أن المقصود هو الملاكم الشهير، و"باشا" لنتأكد أن المقصود هو مؤسس مصر الحديثة، و"جناح" لنعرف أنه مؤسس دولة باكستان، و"شمس الدين" لنتيقن أنه الشاعر اللبناني المعروف، و"سليمان" لنتثبّت أنه الملحّن المصري والدُ الفنانة أنغام، إلى آخر هذه الأسماء التي لا يمكن تمييزها إلا بإضافة اسم ثالث للاسمين الأولين.

ولكن ماذا لو فقد الإنسان اسمه، وتحول في ضعفه وهشاشته في هذه الحياة إلى مجرد رقم؟. هذه واحدة من مقولات القصة الرئيسة، حيث يرثي السارد في رسالته لصديقه حال الشاب العُماني المريض بسرطان الدم الذي تحوّل في المستشفى إلى مجرد رقم، وعندما يموت فإن الممرض يبلغ الطبيب بالوفاة قائلًا: "مات سرير رقم 12"، دون أن يسمي صاحب هذا السرير!. هذا المصير البائس كان محمد علي أكبر يقاومه منذ بداية احتضاره، بتلك النظرة الأسيانة للشاب الذي توسم فيه أنه سيروي قصته بعد موته، "لم أستطع أن أتحرر من عيون محمد علي أكبر وهي تحدق إليَّ قبل أن يموت"، هكذا يقول السارد، الذي لم يملك إلا أن يسرد قصة الشاب الميت مرتين؛ مرة كما حدثت في الواقع، وأخرى كما نسجها هو في خياله. فهل كان الشاب العُماني يحلم بأكثر من ذلك؟ أن يجد من يسرد حكايته للعالم؟. لذلك تمنيت في بداية هذا المقال أن يكون ثمة قصاصون عُمانيون متحققين في تلك الفترة من خمسينيات وستينيات القرن الماضي الملأى بالحكايات والقصص الإنسانية لعُمانيين يبحثون عن لقمة العيش في المهاجر الخليجية والإفريقية. كنا سنقع اليوم على كنز كبير من القصص.