No Image
ثقافة

مرفأ قراءة... هل اقتنيت نسختكَ من سيرة إدوارد سعيد؟!

11 يونيو 2022
11 يونيو 2022

- 1 -

منذ زمنٍ ليس بقليل، لم نعد نعاين الكتب التي يقبل القراء على شرائها واقتنائها والبحث عنها؛ إما لموضوعها وإما لمؤلفها وإما لاسم المترجم، وقيمة الكتاب المترجم.. إلخ.

ولقد حدث هذا الإقبال بصورة بارزة ولافتة خلال الأشهر القليلة الماضية؛ فما كاد يُطرح كتابٌ يتناول سيرة المفكر والناقد والمنظر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد حتى صار حديث الناس في معظم الدول العربية التي طرحت فيها ترجمة الكتاب من المشرق إلى المغرب.

الكتاب عنوانه «إدوارد سعيد ـ أماكن الفكر»؛ بقلم الباحث ومدرس العلوم الإنسانية بجامعة مينيسوتا الأمريكية، تيموثي بيرنان، وقد صدرت الترجمة العربية للكتاب بتوقيع أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة الأردنية الدكتور محمد عصفور، وتقديم الدكتور محمد شاهين، وذلك عن سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية العريقة التي ما زالت تمارس دورها الثقافي التنويري باقتدار وكفاءة رغم مرور ما يقرب من 45 عاما على إطلاقها (صدر الكتاب الأول من السلسلة في يناير من العام 1978).

لفت انتباهي بشدة منذ طرح نسخ الكتاب في الأسواق العربية (وبخاصة في مصر والمغرب ودول الخليج) الإقبال الشديد على الكتاب للدرجة التي أصبح من الصعب فعلًا -بعد أسبوعين أو ثلاثة من طرحه- الحصول على نسخة منه! أنا شخصيا اجتهدت وبحثت عن نسخة منه حتى تمكنت من العثور على نسخة وصلتني قبل أسابيع قليلة!

وكنت قد قرأت الكثير من المقالات والعروض عن الكتاب فور صدوره بالإنجليزية في 2021، ويكاد يكون هناك شبه إجماع مما قرأته عن هذا الكتاب (قبل قراءته هو ذاته) بأنه يكاد يكون السيرة الأتم والأكمل لإدوارد سعيد (مع سيرته الذاتية الشهيرة «خارج المكان»).

- 2 -

الكتاب في ترجمته العربية ضخم جدا، يقع في 530 صفحة من القطع المعروف لسلسلة (عالم المعرفة)؛ وهو مزود بملحق للصور، والهوامش، ومفتاح للمصادر بالعربية والأسماء الأجنبية، وببليوجرافيا تفصيلية ثرية للغاية، تتضمن قائمة كاملة بكتب إدوارد سعيد، والكتب التي اشترك فيها مع آخرين، أو كتب ساهم في تحريرها، بالإضافة إلى المقدمات والكلمات الافتتاحية والتمهيدية والختامية.. إلخ التي كتبها إدوارد سعيد، والمقالات والمحاضرات والأعمال غير المنشورة، وقائمة أفلام من صنعه، وقائمة قصيرة أخرى بمحاضرات ألقاها سعيد ومقابلات مصورة أجريت معه.. إلخ.

أما عن سعيد عن نفسه، فقد تضمنت الببليوغرافيا الملحقة قائمة بأفلام عنه، ومقدمات تعريفية بمفهوم "الاستشراق" بالفيديو. بالجملة يمثل الكتاب دائرة معارف مصغرة بعالم وحياة وإنتاج إدوارد سعيد؛ عبر تمهيد واثني عشر فصلا، تغطي مراحل حياة سعيد منذ الميلاد والنشأة والارتحال إلى القاهرة وبيروت والتلمذة في مدارس الصفوة، ثم الانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومرحلة التخصص الأكاديمي وبزوغ العقل الناقد المفكر، وصولا إلى التباس وتداخل الفكري بالسياسي، والثقافي بالمتغير الدولي والعالمي واختتاما برحيل سعيد في 2003.

الكتاب بهذه الصورة يقدم مدخلا رائعا ووافيا وتفصيليا بالمفكر والناقد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.. لكن هل هذا هو السبب الوحيد للإقبال الشديد على الكتاب بهذه الصورة؟ لقد سبقته كتب كثيرة عن سعيد، ربما تفوق في منهجيتها وتناولها الكتاب الذي نتحدث عنه.. فما السبب الحقيقي وراء هذا الإقبال اللافت الذي تناولته أقلام كثيرة في الفترة الماضية، بالتحديد خلال العام بين صدور الكتاب في طبعته الأولى بالإنجليزية في مارس 2021 وبين صدور الترجمة العربية في مارس 2022؟

- 3 -

في ظني أن هناك مجموعة عوامل وأسباب وراء هذا الإقبال الكبير، وهذه القراءات المكثفة التي طُرحت للكتاب في مدى زمني لم يتجاوز الأشهر الثلاثة فقط.. أول هذه الأسباب، وأهمها، وعلى رأسها، من وجهة نظري، هو سيولة وسهولة شراء الكتاب في أي دولة من الدول العربية التي تطرح فيها أعداد وكتب سلسلة (عالم المعرفة). هذا هو هدفها الأول منذ تأسيسها؛ توفير كتابٍ قيِّم يحمل معرفة رصينة بموضوعه (مؤلفا أم مترجما) للقارئ العربي في كل مكان بسعر معقول وفي المتناول.

أما السبب الثاني، وربما كان يحمل في طياته أهمية خاصة؛ فهو موضوع الكتاب نفسه، ومؤلفه تيموثي بيرنان، الذي كان تلميذًا من تلاميذ سعيد، ومن أقرب ملازميه، وظلَّ صديقا مقربا له حتى وفاته في 2003، وهو يعطينا في كتابه هذا أول سيرة كاملة وتفصيلية للمشرف على أطروحته الأكاديمية، ذلك المشرف "إدوارد سعيد" الذي يتبين لنا من هذا الكتاب أنه كان مدافعًا، برقةٍ وبلاغة، عن التأثير الذي يتركه الأدب في السياسة والحياة المدنية.

استفاد بيرنان، كما يوضح عصفور، من شهادات وأوراق حصل عليها من أسرة سعيد، ومن أصدقائه وتلاميذه وخصومه، على حد سواء، كما استعان بسجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي، وبكتابات سعيد غير المنشورة، ومسودات رواياته (أو مشروع روايات) ورسائله الشخصية، وبذلك "يرسم الكتاب من المجال الفكري والثقافي الواسع لسعيد، ومن التأثير الذي خلفه صورة ذات حميمية لا سابقة لها لصاحب واحد من أعظم العقول في القرن العشرين"، كما يقول مترجم الكتاب.

يصف محمد شاهين في تقديمه للترجمة العربية جاذبية هذه السيرة الضخمة التي كتبها بيرنان بقوله:

"لا تكاد تفرغ من قراءة السيرة، حتى تشعر بأنها رواية توثيقية أو فيلم وثائقي حصل فيه المخرج سلفا على أسرار شخصية الفيلم، وبلغة كونراد، الروائي الذي عاش إدوارد سعيد معجبا به طوال حياته، تجعلنا هذه السيرة نتصور تيموثي كأنه شريك سري secret sharer، عنوان أشهر القصص القصيرة التي كتبها كونراد، والتي ظلت بنيتها تسري في عديد من كتاباته أو شخصيات رواياته".

- 4 -

صدرت الطبعة الأولى من كتاب بيرنان بالإنجليزية في مارس 2021، ومنذ صدوره والكتاب يشغل جمهورا حقيقيا في العالم كله؛ أصبح موضوعًا لعشراتٍ من المقالات والعروض والتحليلات في كبريات الصحف العالمية والمواقع المعروفة.. ووصلت أصداء الكتاب إلى الصحافة العربية، والمواقع المتخصصة في الشأن الثقافي، وعُرض على حلقات في أكثر من موقع اهتم بترجمة بعض المقالات العارضة والمحللة لمحتواه (ترجم موقع "كيوبوست" الإماراتي ما كتبه المحرر الأمريكي آدم شاتز عن الكتاب على ثلاث حلقات بعنوان «الفلسطينية».. إدوارد سعيد).

وقد كان هذا الأمر -فيما أظن- دافعا لتبني السلسلة العريقة لمشروع ترجمة الكتاب وإنجازها في زمنٍ قياسي، وبهذه الدرجة من الجودة والإتقان والقدرة على الانتشار والتوزيع والوصول بالكتاب إلى أوسع وأكبر جمهور ممكن.

أما السبب الثالث والأخير، من وجهة نظري، لهذا الإقبال منقطع النظير (وهو ما ألمحتُ إليه إلماحًا في مقالي الأسبوع الماضي) فهو الحضور اللافت لإدوارد سعيد وأفكاره رغم رحيله في العام 2003. ما زال إدوارد سعيد يستقطب أجيالًا وأجيالًا من القراء والباحثين والدارسين في كل مكان في العالم، وبالأخص في عالمنا العربي. ولعل هذا ما قصده بالضبط مترجم الكتاب حين يقول في مقدمته:

"كان إدوارد سعيد شخصية محبوبة يختلف الناس بشأنها، وكان رائدًا لدراسات ما بعد الاستعمار، وناقدًا أدبيًا واسع الثقافة، لا تزال كتبه، ولا سيما كتاب «الاستشراق»، تترك أثرًا بليغًا في الطلبة والمفكرين في هذه الأيام".

هذا المعنى بذاته هو الذي ألح عليه مؤلف الكتاب، بيرنان، حين يؤكد في مقدمته للكتاب أن سعيد يظل بعد زمان طويل عقب وفاته في عام 2003 شريكًا فاعلًا متخيلًا في كثيرٍ من جلسات النقاش الحقيقية، وبالنسبة لمن عرفوا سعيد عندما كان حيًّا، فإن نقاشاته المفعمة بالحيوية والإثارة صارت شيئًا باتوا يفتقدونه، مثلما يفتقدون شخص سعيد ذاته بعينيه السوداوين الداكنتين، وتعاطفه المشحون على الدوام بالقلق، وروحه المجبولة على المرح والحساسية التي تكاد تقترب من أن تكون حساسية مبالغة في إفراطها.

(وللحديث بقية...)