قراءة انطباعية :« جوع العسل » لزهران القاسمي.. بين الذاتية والبحث اللانهائي
بدرية البدري -
حين قرأت العنوان، ظننتُ أنه مجرد فخ، وابتسمت لأني لن أقع فيه؛ فأنا أعلم أن الروائي يختار عنوان روايته ليشد القارئ إلى حيث يريد، ثم يتركه يواجه الضياع في متاهات السرد الذكي، باحثًا عن إشارةٍ ما توصله إلى العنوان، أو حتى كلمة سرٍّ يستدل بها طريقه، دون أن ينفلت منه تسلسل الأحداث.
اتّبع الكاتب تقنية (الراوي العليم) ليسرد أحداث روايةٍ بطلها (عسل النحل) بكل أنواعه، لم يكن الزمان ولا المكان ولا أهل القرية، ولا حتى (عزان بن سعيد) ورفيقيه (عبدالله بن حمد) و(الحطاطي) بطلًا في الرواية، والعنوان لم يكن فخًا، بل كان عنواناً دقيقًا ومباشرًا للرواية.
يأخذك الراوي مع عزان بن سعيد، وصاحبة العيون العسلية، راعية الغنم (الشّاويّة) وهو لقب يُطلق على ساكني الجبال، ممن يتنقّلون بينها دائمًا (ثمنة) التي سحرته بعينيها العسليتين الصافيتين من أول لقاء جمعهما، والتي أول ما جذبه إليها لون عينيها الذي أخذه إلى العسل، المرأة الغامضة التي لا يلقاها إلا مصادفة؛ إذ تغيب كلما بحث عنها، وتظهر كلما فقد الأمل في ظهورها، وما عاد ينتظرها؛ مُجيبة على سؤاله:
- (وين ألقاش؟
- بتلقاني في كل مكان يوم غايته)
تتداخل قصة (عزان بن سعيد) أو (حلّيْه) لقبه الذي اكتسبه ذات يومٍ - أترك للقارئ محاولة اكتشاف سبب تلقيبه بهذا اللقب الغريب - مع قصة رفيقيه عبدالله والحطاطي، ثم تتداخل قصص الثلاثة مع أهل القرية، في سرد متناغم، غير مشتت، ولا رتيب.
جوع العسل أو رحلة البحث عن خلايا العسل في الجبال والوديان، رواية تتعرف من خلالها على أنواع النحل، والاعتناء به، وشروط بقائه على قيد الحياة والأمراض التي تُصيبه والحشرات التي تهاجمه، وطرق حمايته، والفرق بين نحل أبو طويق – الذي لم يتمكن أحد من ترويضه وتربيته - والفارسي - الذي تمكنوا من تربيته - بعد أن أدخله اليعاربة إلى عمان.
كما تتعرف في الرواية على أنواع العسل، وطريقة جنيه، لدرجة أنك كقارئ تفكر للحظة بتربية النحل، مستمدًا من هذه الرواية كل ما تحتاجه من معلومات، ولكنك سرعان ما تتراجع عن الفكرة، عندما تعرف حجم المشقة، والخسارة التي قد تتعرض لها على حين غرة وفي لمحة بصر.
في رحلة البحث هذه يتنقل عزان بن سعيد وحده تارة، ومع رفيقيه عبدالله والحطاطي تارة أخرى.
في ترحاله وحيدا يذهب إلى إحدى الصحارى الممتدة، يتعرف على حياة البدوي الذي لا يترك الصحراء ولا (العزبة) ولو امتلك ما يكفيه من المال ليعيش حياة المُترفين.
نتعرف معه على عادات البدو، وكرمهم المبالغ فيه. كما تتعرف على حفلاتهم المختلطة، ورقص الرجال والنساء، تحيط يد أحدهما خصر الآخر، ليأخذك فكرك إلى رقصات (الفالس) تلك الرقصة الإيقاعية المعروفة عالميا، وتبادل الشم (شم الأنف) أو (المخاشَم) كما يُطلِق عليه البعض نظرًا لأنه يتم بالتقاء أنف (خشم) الرجل بأنف الرجل الآخر، وهي عادة تكون بين الرجال فقط لدى أغلب قبائل عمان، وقد تكون بين الرجال والنساء من المحارم.
ثم تضيع معه ورفيقيه في الجبال والأودية؛ رفيقاه اللذان لم يجمعه معهما إلا (جوع العسل) يعود كل منهما لحظة افتراقهما للبحث عن العسل في أحد الجبال، لتذكر بعض ذكرياتهما، كأن يتذكر عبدالله بن حمد مغامراته مع النساء، ونزواته التي طالت أغلب نساء قريته بسبب لسانه المعسول، والذي لم يجد رجال القرية من يشكونه له سوى صاحبه الحطاطي؛ ليرد عليهم الأخير: (لأنه رجّال، وانتو لو رجال ما تروح حريمكم صوبه)
هذه الصراحة، أو الجرأة التي قد تصل لدرجة الوقاحة في رد الحطاطي، تمثل شخصيته البعيدة تماماً عن رفيقه عبدالله بن حمد - معسول اللسان - ورغم ذلك يلتقي الضدّان في رحلة البحث تلك.
الحطاطي أيضاً له حكايته، بدءا من اسمه، أو لقبه (الحطاطي) والذي له حكايته أيضاً، وهنا أنوّه أن الكثير من العمانيين اكتسبوا ألقاباً إلى جانب أسمائهم، وغالباً هذه الألقاب يتم اكتسابها نتيجة حدث أو موقف معين.
أعترف لزهران بقدرته السردية، ونفسه الطويل، وإمساكه بخيوط السرد من بداية الرواية إلى نهايتها، ولكني ظللت طوال الرواية أتمنى أن تتحول رحلة البحث تلك، من بحثٍ عن العسل إلى رحلة للبحث عن الله، والذات المفقودة والطمأنينة الغائبة. أن يتحول عزان بن سعيد من نحّال إلى ما يشبه الصوفي في محراب يمتد باتساع الصحراء، وعُلوّ الجبال، وأن يُشبَعَ (جوع العسل) بارتواء روحي، ولكن الرواية انتهت دون أن تتحقق أمنيتي تلك.
أنهي قراءتي لهذه الرواية الجميلة بجملة وردت بها تختزل كل معنىً للفراق
(لم يهل عليهما التراب، كان يرفعهما بعينيه، ويدخلهما في قلبه).
