No Image
ثقافة

غرباً برفقة الليل

17 أبريل 2023
رحلة بين دفتين
17 أبريل 2023

"غربا برفقة الليل" عنوان السيرة الذاتية التي وثقت فيها الطيّارة بِرِل ماركم حكاياتها، وتفاصيل الأميال الطويلة التي قطعتها في سماء أفريقيا، وشغفها بالخيول والعناية بها، والرحلة الجوية الجريئة التي قامت بها من إنجلترا إلى أمريكا الشمالية دون توقف، وحدها في طائرتها "النورس" منشغلة بأفكارها وأحلامها وسط الليل الدامس، حيث عُرفت بعدها بأول امرأة تطير بلا توقف في رحلة من الشرق إلى الغرب عبر المحيط الأطلسي.

توثق الكاتبة في سيرتها هذه قصة الطفلة الأوروبية التي تتسلل من الكوخ الخشبي فجرا باتجاه أكواخ القبيلة الأفريقية لترافقهم بصحبة كلبها في رحلة صيد الخنازير البرية، وتكتب عن المغامرات التي عاشتها امرأة متفردة في أرض مليئة بالأسرار، بعيدا عن الوطن البارد، والحياة الروتينية التي تعرفها المرأة الأوروبية آنذاك، وتكشف أمامنا الطريق الشاق الذي سارت عليه حتى تحقق حلمها بالعمل كمدربة خيول.

الطفولة الأفريقية:

ولدت ماركم في انجلترا عام ١٩٠٢م، وهاجرت برفقة والديها وهي في الرابعة إلى الشرق الأفريقي البريطاني، حيث عاشت طفولتها في كينيا بمزرعة والدها، وقد أسهبت في كتابها بالحديث عن طفولة قضتها بين الغابات والأحراش حول مزرعة والدها، واستكشافها لعادات وتقاليد القبائل الأفريقية من خلال الاحتكاك بصغارهم والخروج معهم في رحلات الصيد.

لم تكن طفولة ماركم بأكملها لطيفة ومليئة بالمغامرات، حيث غاب ذكر الأم في الكتاب، وتذكر بعض المصادر أن والدتها لم تتحمل حياة العزلة في أفريقيا فهجرت العائلة وعادت إلى إنجلترا، كما تعرضت ماركم للهجوم من قبل أسد امتلكته عائلة إنجليزية، كانت تسكن بجوار مزرعة والدها، ولولا عامل والدها الهندي الذي انتبه لها لقُضِي عليها.

اعتبرت شرق أفريقيا في ذلك الوقت أرضا جديدة زاخرة بالثروات المدفونة، وهو ما شجع والدها على البدء في إنشاء مشروع (معمل نشارة) الذي اعتبر آنذاك أول معمل نشارة في شرق أفريقيا البريطانية، لقد استفاد السيد تشارلز بالدون كلتربك والد ماركم من التعطل العام الذي طال القطارات في المنطقة، فقام بشراء محركي قطارين؛ ليبدأ بذلك مشروعه التجاري الذي شهد ازدهارا اقتصاديا كبيرا قبل تردي الأوضاع التجارية؛ بسبب تأثر الحقول الأفريقية بموجة جفاف كبيرة أثرت على المحاصيل، وهو ما أثر على أعمال مطحنته، الأمر الذي دفعه إلى ترك كل شيء والتوجه إلى أمريكا الجنوبية وتحديدا بيرو. وقد خيرها والدها أثناء تلك الأزمة بين الذهاب برفقته أو البقاء في شرق أفريقيا بمفردها، وهو ما يكشف مدى ثقته بماركم، وإيمانه بقدراتها على تحقيق ما تريد، حيث اختارت البقاء في أفريقيا ورعاية الخيول وهي في الثامنة عشرة.

كانت علاقتها بوالدها تقوم على الثقة، وتفهمَّ كلا منهما أحلام الآخر وتطلعاته، وهو الرجل الذي أتقن اليونانية واللاتينية، ونال عددا من الجوائز لترجماته، كما برع في مسابقات الحواجز، حيث تميز برعايته واهتمامه بالخيول في أفريقيا، وأُعتبر في إحدى فترات حياته من أفضل الخيالة بإنجلترا.

الشغف بالخيول:

حلمت ماركم بالعناية بالخيول منذ طفولتها، حيث راقبت والدها وعماله أثناء عملهم، وتمنت احتراف مهنة ترويض الخيول، فتصف علاقتها بالخيل قائلة:" باتت الخيول جزءا أصيلا في حياتي، حتى أنني أتذكرها أكثر مما أتذكر أعياد ميلادي، فتراني أقسم مراحل طفولتي على عدد الخيول، فأربط كل مرحلة بالحصان الذي كنت أرعاه حينئذ، أو كان والدي يرعاه.". وقد تحول حلمها إلى حقيقة، حيث حصلت ماركم على رخصة تدريب الخيول في عام 1968م، وأصبحت الفتاة التي تحول حصان عنيد جامح إلى حصان سباق سريع ومتميز وهي في الثامنة عشرة، وقد عملت ماركم برعاية الخيول بصحبة "عرب روتا" الرجل الأفريقي الذي عاشت طفولتها تركض معه وسط الأجمة باحثين عن صيد ومغامرة، لقد دخلت ماركم عالم الخيول تدريجيا، حيث راقبت عمل والدها، ومن ثم أدارت إسطبل خيول أحد جيرانها قبل احترافها الطيران.

استحضرت ماركم البيئة الأفريقية في كتابها بشكل تفصيلي، واصفة غاباتها والعشب المتحرك، والبحيرات الممتدة، ومنظر الغروب، والحيوانات التي تدرسك بعينيها وكأنها تحتار بين مهاجمتك أو العفو عنك.

التحليق في السماء:

دخلت ماركم عالم الطيران صدفة حيث التقت ذات نهار وهي في جولة على خيلها بـ(توم بلاك) الرجل الذي أشعل بداخلها جذوة الطيران، ويعد توم بلاك مؤسس أول خطوط جوية تجارية في شرق أفريقيا، حيث قال لها بلاك في أحد لقاءاتهم:" والحق أني متيقن من أنك ستصيرين طيارة ذات يوم، هذا لا شك فيه، فإنني أرى قدرك وأعرف مستقبلك." وقد كتبت ماركم عن توم الصديق الذي علمها أن حدسها، وشعورها أثناء قيادة الطائرة أهم من كل المهارات الأساسية التي ستتعلمها، فقالت عنه:" لقد سلَّحني بكلمة ومنحني مفتاحاً لباب لم أتصور وجوده يوماً."

عملت بلاك في النقل التجاري، ومن ثم تعاونت مع صيادي الفيلة في فترة عملها، حيث كانت تحلق بصحبتهم فوق الغابات للبحث عن الفيلة الذكور من أجل أنيابها، وقد تحدثت في كتابها عن المرة الوحيدة التي كانت ستفقد فيها حياتها بسبب هذه المهنة، لم تخجل ماركم من تعاونها مع الصيادين، حيث تذكر في سيرتها بأنها أول طيارة تصطاد الأفيال من الجو، ولم تكن ترى ما تمارسه جريمة أو فعل وحشي، حيث تساوي موت الفيل بموت العجل، فتقول في كتابها:" قد يكون صياد الأفيال وغدا قاسي القلب، ولكنَّ الاعتقاد بأن الفيل حيوان مسالم ووادع، خطأٌ فادح."

بعد عملها كطيارة وانخراطها في عالم تدريب الخيول عاد والدها من بيرو إلى أفريقيا، حيث قام في منطقة " إلبرغن " بأوغندا، فقام ببناء مزرعة صغيرة يدرب فيها الخيول وأنشئ فيها مهبطا لطائرة ماركم.

قامت ماركم بأربع رحلات فردية من نيروبي إلى لندن، وقد حصلت في عام 1933 على "رخصة الطيران الثانية" التي اعتبرت أول رخصة طيران تُمنح لامرأة في كينيا آنذاك، وفي عام 1963م قامت بأول رحلة فردية من إنجلترا إلى الولايات المتحدة الأمريكية عبر المحيط الأطلسي على متن طائرتها " النورس".

توفيت ماركم في عام ١٩٨٦م، ولم تتطرق الكاتبة في سيرتها إلى حياتها الخاصة بعد رحلتها العظيمة، إلا أن المصادر تشير إلى أنها تزوجت مرتين ورُزقت بابن واحد. صدر الكتاب عن ترياق للنشر والتوزيع بترجمة عماد العتيلي، وقد زود الكتاب بملحق صور توضح لمحات من حياة برل ماركم.