رحلة بين دفتين : مكانة الأدب بين القارئ الأدبي والقارئ غير الأدبي
يدين معظم العلماء والمفكرين والفلاسفة والمثقفين للقرن التاسع عشر، قرن النهضة العلمية والفلسفية لتأصيل العلوم وجدية المعارف، حيث تخلص أهل الثقافة والعلم من تأثير اللاهوت الذي ظلوا تحت رحمته طوال العصور الوسطى أو ما يسمى بعصور الظلام حتى ولوجهم لعصر التنوير الأوروبي الذي حظي فيه الكتّاب بمكانة رفيعة، وصار كل ما يصدر منهم يؤخذ بعين الاعتبار، وتنامى الوعي لدى شريحة واسعة من القراء الذين يستدعون التأويل في ماهية الأشياء وما وراء المعاني، في الوقت نفسه هناك قراء متزمتون، ميالون للواقع، ينظرون للشخصية الحكائية بجدية صارمة، وهذا تحديدا كلف عددا من كتاب الروايات، لدرجة تعرض الكاتب للمساءلة القانونية والمثول أمام المحاكم لنيل العقاب؛ كون الشخصية التي اخترعها من معين خياله صورت الواقع بشكل خادش للحياء أو بالغ الكاتب فألبس البطل الفقير لبوس الأثرياء، ولعل أبرز كتّاب القرن التاسع عشر تعرض لمثل هذه المحاكمات وهو «غوستاف فلوبير» الذي عوقب في محكمة واقعية نظير شخصية ورقية مخترعة من لب مخيلته؛ فشخصية «إيما بوفاري» تلك المرأة التي انتحرت في النهاية، وخلّفت قضية انتحارها ضجة هائلة في عصر سعى فيه «فلوبير» إلى صهر الأدب الخيالي بالواقع، وإلى إلغاء التراتيبية في مجتمع طبقي لا يسمح فيه للبسطاء والمعدمين حق التمتع بالمتع الذهنية. لذا وجب على بطل «فلوبير» المرأة المدعوة «إيما» وهي ابنة فلاح فقير أن تدفع ثمن سعي دمجها تلك الروايات الخيالية المفرطة التي قرأتها في الدير، ومحاولة إلى خلق تكافئها في الحياة التي تعيشها مع زوج بائس يعمل طبيبا في قرية بائسة!
أستذكر هذه المحاكمة الهزلية الصارمة التي تظهر مدى تأثير جمهور القراء على أفكار الكتّاب أثناء قراءتي لكتاب المؤلف «سي. أس. لويس» المعنون بـــ«تجربة في النقد» الصادرة عن معنى. من الكتب النقدية التي كشطت نفسيات القراء وأنماطها ومدى تأثيرها على الأوساط الثقافية، متناولا تباين أذواق القراء وفقا لطبيعتها. فهناك ما يسمى «بالقارئ الأدبي» والنوع الذي يقابله «القارئ غير الأدبي»، موضحا على امتداد فصول الكتاب أوجه التباين بينهما على صعيد الروايات والشعر والأسطورة وأدب الفانتازيا والموسيقى أيضا.
ونكتفي هنا ببيان تأثيرهما على تناول أدب عموما. يذهب «لويس» أن القارئ غير الأدبي له علامات تدل عليه؛ لعل من أكثرها كشفا، هو أنه لا يقرأ العمل ذاته مرتين إطلاقا، ما قرأه سلفا لا يعود له مرة أخرى؛ فالكتاب يصبح ميتًا له كعود ثقاب محروق أو تذكرة قطار قديمة، بينما القارئ الأدبي لا يرى غضاضة في قراءة العمل نفسه مرتين بل عشرات المرات، صانعا متعته مع كل إعادة قراءة.
وتخضع عملية القراءة نفسها لأهواء؛ فالقارئ غير الأدبي يلجأ للقراءة كملاذ أخير لتبديد الملل أو تزجية الوقت، القراءة له مجرد بديل في الرحلات الطويلة أو وقت المرض أو لحظات العزلة أو القراءة ما قبل النوم. بينما القارئ الأدبي فدائما ما يبحث عن أوقات فراغ والهدوء ليقرأ، يصرف كل انتباهه لعملية القراءة، بل حين يمتنع عن القراءة لأسباب خارجة عن الإرادة يشعر بالإقفار والخواء الروحي.
أما من حيث نوعية القراءة وسلوكياتهم حول أنواع الأدب؛ فيرى أن القارئ غير الأدبي نادرًا ما يطالع شيئًّا ليس سرديَّا، ويميلون للأحداث الواقعية لدرجة لا يستطيعون التفكير في الابتداع. يميلون للروايات المصورة والأفلام شبه الخالية من الكلمات، ويطلبون سردًا سريع الحركة، فالروايات البطيئة أو المطنبة لا تثير انتباههم، لا يلتفتون للأوصاف، أو طبيعة الشخصيات ولا لبلاغة حواراتهم، بل ما لا يثير اهتمامهم أو يعكر صفو قراءاتهم السريعة يقلبون الكتاب ويضعونه جانبًا.
ومن العلامات البارزة أيضا للقارئ غير الأدبي أن القراءة نفسها لا تكاد تؤثر فيهم، فالقراءة كما يرى المؤلف تشكل تجربة فريدة عند بعض القراء، تؤثر على أفكارهم ومشاعرهم ورؤيتهم للحياة وذواتهم مهما اختلفت المعايير المؤثرة كالحب والفقد ولكن بوادر هذا التغيير والتأثير لا تكاد تظهر لدى هذه النوعية من القراء.
ثم يطرح الاختلاف في سلوكيات القراءة بين قراء القلة وقراء الكثرة؛ فقراء القلة يظل ما قرأه حاضرًا وبشكل مستمر في أذهانهم على عكس قراء الكثرة، تتغنى القلة باقتباساتها ومقاطعها الشعرية المفضلة في عزلتهم ويقدمون المشاهد والشخصيات، يبدون لهم كأيقونات من خلالها يحللون ويلخصون تجربتهم ويتحدثون مع بعضهم البعض حول الكتب مرارًا وبشكل مطوّل.
أما العديد، فنادرًا ما يفكرون أو يتكلمون حول قراءاتهم، هنا تحديدًا يركز المؤلف على مسألة تباين الأذواق بقوله: «من الواضح تماما أن الغالبية إذا تحدثت بلا حماس ولكن بشكل بليغ فإنهم لن يتهمونا بمحبة الكتب الخطأ وحسب بل بإثارة الضجة حول الكتب أساسا. ما نعده مكونا رئيسا لصحتنا هو هامشي بالنسبة لهم». فإذا كان للقلة « ذائقة جيدة» فقد يتعين علينا القول بعدم وجود شيء اسمه ذائقة سيئة؛ لأن ميل العديد لنوع الكتب المفضلة لهم ليس الشيء نفسه، وفي حال استخدمت المفردة بشكل أحادي المعنى، فلا يمكن تسمية ذائقة على الإطلاق.
ولتأثير ذائقة هؤلاء الكثرة جعلهم ضمن دائرة المغضوب عليهم من قبل بعض النقاد؛ بحيث يرونهم ضمن الرعاع ويتهمونهم بالأمية والبربرية وأنهم تافهون وفظون ودون استجابة اعتيادية تصيرهم إلى خرقى ومتبلدي الإحساس في كل جوانب الحياة مما يجعلهم يشكلون خطرًا على الحضارة. لكن المؤلف يرى أن من بين هؤلاء الكثرة من هو مساوٍ للقلة أو أفضل منهم من حيث الصحة النفسية والفضيلة الأخلاقية والحكمة والأخلاق الحسنة والقدرة العامة على التكيف. لا يكتفي المؤلف بجلد أصناف القراء غير الأدبيين والكثرة بل أيضا تحدث عن القارئ الأكاديمي أو ما يسمى بالناقد الأكاديمي، الذين يرون العملية النقدية عموما مجرد وظيفة، ويسرفون في القراءة كغرض وظيفي، فهذا الأكاديمي التعيس الحظ الذي لا يستطيع أن يستمر في وظيفته إلا إذا استمر في نشر المقالات محاولا إضافة شيء جديد بما يخص الأعمال الأدبية أو كتابة مراجعات سريعة كطالب يؤدي فرائضه، فهم بحكم الكثرة، القراءة محض وظيفة والنص مجرد مادة خام.
وكان لقراء الموضة نصيب من النقد أيضا، هؤلاء الذين يسعون إلى القراءة عموما لإظهار وضع اجتماعي معين، فالقراءة هنا تنزل بمنزلة الاهتمامات الترفيهية الأخرى كالصيد أو دوري المباريات وغيرها. وهناك نوع آخر من قراء الموضة، هم مثقفون ولا يسعون لإظهار المكانة الاجتماعية بقدر سعيهم لاستعراض قدراتهم في نقد الكتب، هؤلاء هم «المفرطون في الموضة» كما نعتهم «لويس» عندما يلتقطون كتابا يقومون بالتركيز على ما يسمونه «الأسلوب» الكتاب أو لغته لا من حيث إيقاعه ومدى توافقه مع القراء بل من حيث توافقه مع بعض القواعد التعسفية، يتصيدون دائما استخدامات اللغة وقواعدها؛ هذا القارئ تحديدًا هو ضد الأدبية إنه يخلق في أذهان غير الأدبيين كراهية لكلمة الأسلوب وارتياب عميق تجاه النصوص، إنهم ببساطة يسلبون بريق المتعة في مطالعة الأعمال الأدبية.
هذه النظريات وغيرها طرحها « لويس» في كتابه الرصين، وهو الساعي كغيره إلى قنص «المعنى» الذي يخلّفه «الأدب» عند كل من المؤلف والنص والقارئ.
