No Image
ثقافة

رحلة بين دفتين : عندما يسقط الجميع على حجر الأرض

02 أبريل 2023
02 أبريل 2023

«ارتفعت الطائرة إلى مداها، فأزلت حزام الأمان وأخرجت محمولي وفتحته على كتاب في تاريخ أفغانستان. خيل إلي وأنا أقرأ الكتاب أنه يتحدث عن الأحداث التي عايشتها قبل أيام. أطبقته وفكرة واحدة تثقل ذهني. لم ينجح الأفغان دوما في طرد الغزاة، ثم يفشلون بعد في إقامة دولة العدل والاتفاق ؟ ينجحون نجاحا باهرا في إبطال الباطل، لكنهم يكبون حين يصلون لإحقاق الحق؟»

بهذا التساؤل العميق يختم أحمد فال بن الدين كتابه الماتع (حجر الأرض) الصادر عن دار عرب والذي فتح فيه ومن خلاله نافذة مغايرة – على الأقل – بالنسبة لي عن أفغانستان بكيانها الأعم وعلى حركة طالبان خصوصا، حيث سبر الكتاب الذي هو عبارة عن مزج رشيق بين يوميات صحفي ومراسل حرب داخل أفغانستان وبين سرد موجز لتاريخ الحروب التي عاشتها هذه البلاد منذ مئات السنين ابتداء بالإسكندر الأكبر والأكاسرة ثم جيوش جنكيز خان وتعرضها في العصر الحديث إلى الاحتلال البريطاني واستقلالها في العام 1919م وتلا ذلك الغزو السوفييتي في العام 1979م وانتهاء بالغزو الأمريكي في العام 2001م.

أقول هنا جازما بأنه ( أي الكتاب ) ضروري جدا لأولئك الذين لا يفضلون النظرة الأحادية للأشياء والأحداث من حولهم وخصوصا إذا كان المنظور هنا هو حركة جهادية كطالبان، حيث يمنحك الكتاب منظورا آخر ومن الداخل الأفغاني عن هذه الحركة الوطنية التي قادت المقاومة الصلبة للوجود الأمريكي في أفغانستان ويخصص فصلا قصيرا عن بعض من تفاصيل وحياة قائدها الملا عمر، ولا شك هنا أن القارئ سيجد شيئا مغايرا عما عمدت وسائل الإعلام الغربية وربيباتها في الشرق وعلى مدى عقود من بثه وترويجه عن طالبان ورسم صورة قاتمة لعناصرها جعلتنا ننظر إليهم وكأنهم كائنات متوحشة خرجت من الكهوف، ولكن أحمد فال بن الدين يقول لك: توقف فهناك وجه آخر للحقيقة عليك أن تلقي النظر عليه.

يبدأ الكتاب من اللحظة التي لا مست فيها طائرة الطيران القطري أرض مطار كابول تحمل فريق الجزيرة الذي يقوده المؤلف والمكلف بتغطية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ومن الوهلة الأولى تأسرك تلك اللغة العميقة والجميلة التي يصف ابن الدين بها الوضع، فتشعر بأنه يأخذك عنوة ويضعك في وسط المشهد حتى لتكاد تلامس أنفاس أرتال البشر الضخمة وهي تتدافع أمام بوابات مطار كابول علها تجد مقعدا فارغا تهرب من خلاله من الجحيم الذي تخشاه حين يؤول الأمر في البلاد بعد خروج القوات الأمريكية إلى حركة طالبان. يخرج المؤلف من المطار بعد معاناة متوقعة ثم يبدأ بعد ذلك في إجراء سلسلة حواراته وتغطياته لمشهدين أحدهما كان في آخر مراحل أفوله بينما الثاني كان لتوه قد بدأ يتشكل ويعلن عن نفسه، ولأن محمد الصحفي لم يستطع في هذا الكتاب أن يتجرد من كونه روائيا فذا نجده يتكئ على تقنياته السردية في الربط بين الوضع السياسي في البلاد وتلك الأحداث التي ساهمت وبشكل كبير في رسمه وتكريسه، فبينما نحن ندخل في نهاية المشهد في صباح الثامن عشر من أغسطس 2021 نجده وبطريقة سلسلة ودون أن نشعر يعيدنا إلى صبيحة الحادي عشر من سبتمبر حين ضرب برجا التجارة العالميان وبدأ حينها رسم واقع جديد لأرض خراسان تمثل في الغزو الأمريكي لهذه البلاد التي كانت قد أنهكتها الحروب والفقر.

ثم يقدم بعد ذلك شرحا ديموغرافيا مختصرا لأهم المدن الأفغانية -(هراة، وبلخ، وكابل، وقندهار)- والتي أسهمت بشكل رئيس في صنع الأحداث العسكرية والسياسية لتغدو مادة إعلامية لا تكاد تخلو منها أي نشرة أخبار في العالم.

في الفصل الثاني من الكتاب بسط أحمد فال الدين الرواية المدهشة عن قصة تشكل حركة طالبان على يد الملا محمد عمر ثم يسرد قصة تحول الحركة من مجرد مجموعة من الشبان الذين أوقفوا أنفسهم للدفاع وحماية الضعفاء من بطش الجماعات الحاكمة إلى مكون سياسي ملأ الدنيا وشغل الناس بعد ذلك ولسنوات طويلة.

ولأن حركة طالبان هي الابنة الشرعية لتلك الشخصية الفذة فلم يكن هناك من خيار أمام الكاتب إلا أن يأخذ القارئ في مشوار سردي قصير وشيق لصعود نجم الملا عمر وتزعمه الميداني والروحي للحركة ولمناصريها، ثم مطاردته من قبل القوات الأمريكية وأذنابها في البلاد مما اضطره للاختباء لفترة طويلة، ثم توالي إصابته بالأمراض نتيجة مكوثه الطويل في أماكن معتمة بعيدا عن الشمس والهواء المتحرك، الأمر الذي أدى إلى وفاته في نهاية المطاف.

في الفصل الثالث يتحدث أحمد فال الدين بتعاطف وود لا يخفيه عن عودة العمائم المظفرة كما يسميها إلى الساحة الأفغانية بعد انسحاب القوات الأمريكية ويحاول من خلال مجموعة من اللقاءات الصحفية مع مجموعة من الشخصيات أن يبحث عن ذلك السر الذي ساعد حركة طالبان على الصمود طوال هذه السنوات والذي كللته بسيطرتها الأسطورية وتحكمها بمفاصل البلاد في فترة وجيزة جدا بمجرد أن أنهكت القوات الأمريكية وقررت الخروج من المشهد ومغادرة البلاد.

ولأن الحركة باتت تتصدر المشهد فإنها كانت بحاجة إلى بث دفقات من الطمأنينة والشعور بالأمل في المستقبل للمواطنين المتعطشين للأمن، وعليه عمد الكاتب من منطلق مهمته الصحفية إلى محاولة تفنيد القلق الذي يعتور الناس من موقف طالبان من المرأة والتي أكدت عناصرها أن مرحلة جديدة أكثر انفتاحا سوف تشهدها علاقة طالبان بالمرأة.

يغادر أحمد فال الدين كابل عائدا إلى قطر واللحى العنيدة ترتب كل أوراقها لتضع أياديها على كل شيء في أفغانستان، ويتمنى لها ألا تكرر أخطاءها السابقة وتستغل هذه الفرصة التاريخية لقيادة البلاد والعباد إلى مستقبل أجمل.