جاسم الصحيح: ما لدينا من حداثة يمثِّل هيمنة المستعمِر على العالم !
الأشكال الشعرية انتهت وجميعها رسخت في المشهد الثقافي -
منجزات المبدعين الحقيقيين تحتاج من القُرَّاء إلى ثقافة عالية توازي ثقافتهم -
إعادة القصيدة بتقليديتها أو حداثتها أمر متروك للتاريخ وهو من ينتقي السمين من الغث -
النقد الأكاديمي لم يترك أثرا جوهريًّا على المنجز الإبداعي الحديث وهو تطبيق للنظريات فقط!
جاسم الصحيح شاعر سعودي كوّن أسلوبه الفريد في الكتابة وتميّز على نطاق واسع بأسلوبه الشعري الخاص.. أكسبه استخدامه المعقد المتقن للكلمات بتقليديتها ومعاصرتها -أي الكلمة- إشادة من النقاد على صعد ومستويات مختلفة.. ألّف «الصحيح» أربع عشرة مجموعة شعرية، وظهرت كتاباته على نطاق واسع في الوسط الثقافي الخليجي والعربي.. حصل ديوانه «كي لا يميل الكوكب» على جائزة الشاعر محمد الثبيتي عام 2014، وهو الحاصل على الكثير من الجوائز الأدبية من بينها جائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح 2018، وجائزة أفضل ديوان شعري في مسابقة البابطين للإبداع الشعري 2012 عن ديوانه «ما وراء حنجرة المغني»، وجائزة مؤسسة البابطين لعام 1998م عن أفضل قصيدة على مستوى العالم العربي عن قصيدته «عنترة في الأسر»، والمركز الثالث في مسابقة أمير الشعراء 2007م، وغيرها الكثير من المسابقات والجوائز الأدبية المختلفة على مستوى النص الواحد أو المجموعة الشعرية. في هذه المقابلة نستكشف رحلة «الصحيح» الإبداعية، ونستشف أفكاره حول المشهد الثقافي المتغير، ورؤيته لمستقبل الشعر في المنطقة..
أشرت في أحد لقاءاتك إلى أننا في زمن ما بعد الحداثة بينما البعض يرى أن الحداثة لم تتجلَ بكمالها بعد .. وقبل ذلك: هل هنالك حداثة ولدت من واقع تجربة أم أنها تقليد من واقع غربي رغم أنه لم يفرض؟
أعتقد أن ما لدينا من حداثة يمثِّل هيمنة المستعمِر على العالم، لذلك هي شكل من أشكال العولمة المادية التي تتمركز من خلالها القوى العظمى بكل منتجاتها في أنحاء العالم بناءً على ما تقتضيه مصالحها، وإن زعمتْ أنها تعمل من صالح الإنسانية جمعاء.
هذا إذا تحدثنا عن عموم الحداثة، أما الحديث عن الحداثة الفكرية والوعي الحديث بالكون، فأعتقد أننا بوصفنا مجتمعات عربية لم نتغير، ولم نتجاوز النظرة التقليدية المتوارثة تجاه العالم، وإن كان لدينا مفكرون تقدُّميون سبقوا المجتمعات، إلا أنّ الغالبية محكومون بالماضي وأغلاله.
في الحديث عن الشعر، هناك بالتأكيد حداثة شعرية، وهناك شعراء عرب استطاعوا أن يحضروا عالميا حضورا مبهرا، وقد أكَّد الشاعر العربي الكبير أدونيس في محاضرة ألقاها بمعرض الكتاب في أبوظبي عام 2022م، أنّ الشعر العربي الآن لا يقلّ أهميَّةً على الصعيد العالمي عن الشعر الفرنسي.. وهذا يعني أن العرب استطاعوا أن يدخلوا عالم الحداثة في أهمّ قيمة أدبية توارثوها وهي الشعر.
هل تؤمن بزمنية الحداثة في النص الشعري؟
في الشعر، (الحداثة لا زمنية) وهذه مقولة منسوبة إلى الشاعر الفرنسي بودلير. وهذا حقيقي جدا، فنحن أحيانا نقرأ قصائد من منجزات العصر الجاهلي كما يسمونه، ونكتشف حداثة شعرية في تلك القصائد. أعتقد أن كل نصّ يسبق عصره على صعيد الوعي والتحقُّق الفني في الكتابة، هو نصٌّ حديث.
هنالك قول لعبدالرحمن الأبنودي: إن شعراء الحداثة ضيعوا القصيدة العربية حين جعلوها قصيدة بلا جمهور، وأكد على أن الزمن القادم سيرد الاعتبار إلى الشعر!
في البداية، أنا لا أتفق مع فكرة أنّ شعراء الحداثة قد ضيعوا القصيدة العربية. بل على العكس تماما، الحداثة صنعت فتوحات شعرية منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي إلى الآن. وما كان بوسع الحركة الشعرية في الوطن العربي أن تتطور وتواكب الحركة العالمية لولا مغامرات الحداثة الشعرية عبر شعرائها الأفذاذ، لا أنكر أنّ البعض ممن كتبوا النصوص الحديثة قد مرّوا بمرحلة التخبُّط في البدايات، وهذا أمر طبيعي يلازم البدايات في كل شيء، ولكنهم استطاعوا أن يخلقوا ذائقة جديدة في عشرات السنين، وأن يتغلبوا على ذائقة تقليدية بقيت راسخةً في أرواح الأجيال أربعة عشر قرنا من الزمن. وهذا في حد ذاته يُعد إنجازا كبيرا للحداثة الشعرية وشعرائها.
قد يكون كلام شاعر العامية المصرية دقيقا في عودة الجماهير إلى الشعر، ولكن بذائقةٍ جديدة تنتمي إلى هذا العصر وتواكب إيقاعات الزمن الحالي.
مسألة تقييد الشعر في الأوزان والقوافي من عدمه مسألة جدلية.. ورغم أنك تقول إنها قضية أكل عليها الدهر وشرب إلا أن الواقع ما زال محتدما تجاهها وإن لم يبدُ ذلك ظاهرا في صراعات (الظاهر) إن سميناه ذلك.. لكن في الواقع القضية مستمرة والصراع محتدم؟ فعلام أثبتت كلامك؟
بالنسبة للشعراء الحقيقيين الذين يتعاملون مع الشعر من جوهره، قضية الأشكال الشعرية انتهت ورُفعت آخر جلساتها، والنتيجة هي أنّ جميع الأشكال استطاعت أن تجد لها قدما راسخة في المشهد الثقافي، بعد أن استطاع كل شكل أن يقدم أوراق ثبوته في ذائقة الأجيال. ولا أدلَّ على ذلك من أنّ هذه الأشكال تتجاور على طاولة واحدة في الأماسي الشعرية، ويتلقى الجميلُ منها الإعجابَ من المتلقي النوعي على حدٍّ سواء.
هل تعتقد أن الوعي بالقراءة هو المنطلق الحقيقي للكاتب سواء كان شاعرا أو روائيا أو غيره؟
أعتقد أن المنطلق الأول هو الشغف بالكتابة، ولكنه لا يكفي إذا لم يكن مصحوبا بموهبة حقيقية. والموهبة تتجلى في الوعي بما نقرأ، فنحن مثلا نتحدث عن فكرة الوحي في الشعر، وما الوحي إلا الوعي بالوجود وتفتُّح الحواسّ على مشاهد الجمال في الحياة، والتأمل العميق في أسرار الكون حتى ملامسة الجوهر.
هناك تعبير قاس أطلقه قاسم حداد على القارئ بوصفه «إرهاب القارئ» وأنه المتسبب في إرغام كاتب معيّن للنزول إلى مستواه وتقديم ما يرغبه الجمهور.. وهذا ما أسقط الكاتب في فخ ألا يعنيه الإبداع بقدر ما يسطّح التجربة؟
ـ فعلا.. هذا تعبير قاسٍ جدا من شاعرٍ رقيق جدا.. ولكنه شكل من أشكال الحب الذي يحمله هذا الشاعر الكبير لقُرَّائه، فهو يدعو من خلال هذه القسوة إلى أن يعمل القارئ على تثقيف نفسه باستمرار، بدلا من أن يتَّهم المبدع بالغموض والتعالي والعيش في الأبراج العاجية.. تُهمة بمرتبة الإرهاب.
إنَّ متابعة منجزات المبدعين الحقيقيين مثل الكبير قاسم تحتاج من القُرَّاء إلى ثقافة عالية توازي ثقافة المبدعين، ولا نستطيع أنْ نحمل قسوةَ هذا القاسم الكبير إلا على محمل الحب الذي فسَّره (أبو تمام) في قوله:
وقسا ليَزدجِروا، ومَنْ يكُ راحمًا
فَلْيَقسُ أحيانا على مَنْ يرحمُ
هل القصيدة نقل للواقع فعلا أم هي تمرد عليه من خلال بناء واقع جديد كما ترى؟
عندما نتحدث عن القصيدة بوصفها نقل الواقع، نستحضر (المحاكاة) التي تحدَّث عنها أرسطو في كتابه (فنّ الشعر)، ونذهب إلى فكرة العالم الموازي في اللغة مقابل عالم الواقع. ولكنَّ القصيدة بالتأكيد تذهب أبعد من هذا التناظر اللغوي، فهي تبدأ من أعماق أرض الواقع عبر التأمل، وتمتد في فضاءات بعيدة من التخييل ــ وما بين التخييل والتأمل، تتخلَّق أمشاج القصيدة، وتنمو، وتولد، وتكبر مثل شجرة تُؤتي أُكُلَها من مجازات وصور وحكمة.
أما فيما يخصّ التمرد على الواقع، فهذا من شؤون مضمون القصيدة، حيث إنها دائما ما تستبطن في ذاتها بذرةَ احتجاج ضدَّ السائد والمألوف سواءً على صعيد الألفة مع اللغة، أو مع الوضع الاجتماعي، أو مع كل محاولةٍ لتدجين الإنسان عبر كل أشكال السلطة.
إلى أي مدى ترى أهمية الجوائز الشعرية أولا .. وإلى أي مدى أسهمت المسابقات الشعرية في إعادة القصيدة إلى المشهد بتقليديتها وحداثتها؟
الجائزة الشعرية مهمة للمبدع من حيث هي محطة إعلامية تزوِّده بوقود الثقة والتقدير المعنوي، وتجعله ينطلق ويواصل رحلته على طريق الإبداع. وقد تتجلى الجائزة في كلمة إعجاب يهمس بها أحد القرَّاء فتترك أثرها العميق في المبدع، وكما قال الشاعر الكبير سليم بركات: (إننا نحتاج لهذا الإعجاب كي نشعر بجدوى ما نكتبه).
لكن، على هذا المبدع ألا يحبس نفسه في زنزانة الجائزة عبر الشعور بأنه أصبح أكبر من الإبداع، فهذا من مساوئ الجوائز التي يسقط بعض المبدعين في فخاخها.
أما المسابقات الشعرية التي تقام منذ عقد من الزمن فلها حسناتها كما لها سيئاتها، ولكن أهم حسنتين كما أرى هما أولا.. الربط بين الشعر والجمهور بعد قطيعة طويلة امتدت عشرات السنين خلال تكوين الذائقة الحديثة. وثانيا.. تقديم جيلٍ من الشعراء الرائعين الذين ما كان لهم أن يظهروا بهذه السرعة لولا هذه المنصات الإعلامية. أما مسألة إعادة القصيدة بتقليديتها أو حداثتها، فهذا أمر متروك للتاريخ الذي سوف يستصفي السمين من الغث.
حدثنا عن تجربة «الإصدار الأول» التي تبنيتموها في أحد مشاريعكم؟
لقد نشأ مشروع (خيمة المتنبي) التي أنتمي إليها، قبل عامين تقريبا، في غمرة (تسونامي) المطبوعات الذي يجتاح المشهد الثقافي بأمواج الكتب المتلاطمة. وقد لاحظنا أن كثيرا من الموهوبين الأُصلاء يفضلون النموّ في الظلال، بعيدا عن أضواء الإعلام الكاشفة، الأمر الذي جعل منجزهم الإبداعي رهين الأدراج.
ومن باب المسؤولية الوطنية تجاه الثقافة الشعرية، قامت (الخيمة) كمرحلة أولى من نشاطها الثقافي، بالبحث عن المواهب الشابة في مجال الشعر، وطباعة أعمالها بعد خضوع هذه الأعمال لرقابة فنية دقيقة، والحصول لها على فسح من وزارة الثقافة السعودية. وقد وقعنا على مجموعة من التجارب الإبداعية «الأحسائية» التي يزهر في قصائدها الوعد الشعري، وأدخلنا هذه التجارب في مختبر الإبداع عبر لجنة خاصة وَضَعَتْهَا على محكّ الفحص، وهكذا تم اختيار الدواوين الأولى التي تمَّت طباعتها، وما يزال باقي الدواوين خاضعا للفحص في ذلك المختبر.
كيف تقيّم تجربة النقد في الشعر الفصيح في الخليج إذا ما اعترفنا بغزارة الإنتاج المغاربي له؟ وهل ترى أن حركة النقد موازية للتطور الكبير الذي يشهده النص الشعري الحديث؟
النقد في المملكة العربية السعودية والخليج لم يعد كما كان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث كان النقَّاد يطاردون الإبداع الأدبي وعلى رأسه الشعر، ويتسابقون للكتابة عن الحركة الشعرية الحديثة التي انبثقت في تلك الفترة، الأمر الذي دفع بالشعر والنقد للتطور معا.
ومنذ أن جاء النقد الثقافي إلى المشهد وتقهقر النقد الأدبي، تقلَّصت مساحة الحضور النقدي، خصوصا للشعر، وبدأ بروز الدراسات الأكاديمية، حيث إنَّ طلبة الدراسات العليا في الجامعات بدؤوا يعتنون بالمنجز الشعري والروائي والقصصي للعمل على أطروحات الشهادات العليا. ولكن هذا العمل الأكاديمي لم يترك أثرا جوهريًّا على المنجزات الإبداعية الحديثة، لأنه لا يمثِّل نقدا عضويا مرتبطا بالحياة، وإنما مجرَّد تطبيق للنظريات دون الاقتراب من حياة المبدعين، وسبر أغوارها، وملامستها من الأعماق.
