التشيك بلد تطرب على إيقاعات المسارح (1 - 2)
عندما وصلتني الدعوة لحضور (Showcase) في جمهورية التشيك، تملكتني مشاعر مضطربة ومتداخلة جعلتني أشعر وكأنني أمام تحديات جديدة تكتنفها مشاعر مضطربة، أبرزها عودة أخرى إلى منتديات المسرح العالمية بعد انقطاع دام أكثر من خمس سنوات بسبب انشغالي في تدريس المسرح في كلية المجتمع في قطر وصعوبة انقطاعي آنذاك عن الطلاب، وبسبب جائحة كورونا التي اجتاحت العالم كله، وقلصت إن لم نقل أوقفت تماما الفعاليات الثقافية على مدى سنتين أو ثلاثة متواصلة.
وثانٍ تلك التحديات أن جمهورية التشيك بلد لم أزرها من قبل، ولا أكاد أعرف عن المسرح فيها إلا النزر القليل، وإن كانت الهواجس داخلي تشي بمشهد درامي مثير ينتظرني هناك بحكم تاريخ التشيك وتقلبات الأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية فيها.
وثالث تلك التحديات أنني غالبا ما أكون في تلك الفعاليات العربي الوحيد، وأحيانا المسلم الوحيد، وهذا يدخلني بشكل غير مباشر بل ومباشر أحيانا في اختلاف وتقاطع الثقافات، وإن كان هناك اتفاق ضمني غير معلن على المهادنة وتجسير الأمور نحو اللعبة المسرحية وإشكالياتها وتداعياتها الآنية والمستقبلية، وفي هذه مساحة كافية من الإنصاف إلا فيما ندر من مواقف استثنائية تمرست على التعامل معها بحذر، وبحكمة أحيالنا كما أزعم.
وقبل التوغل في تفاصيل المسرح التشيكي، يجدر أن نلقي الضوء على مفهوم الـ (Showcase) في المجال المسرحي، وأهميته لدى الدول الأوروبية ولا سيما في أوروبا الشرقية التي كانت من عداد الاتحاد السوفيتي سابقا، وكذلك تنتمي لدولة كان لها ثقلها العظيم يوم ذاك تدعى تشيكوسلوفاكيا، وكما تفكك الاتحاد السوفيتي كذلك تفككت تشيكوسلوفاكيا، والتشيك، واحدة من الدول التي بزغت على أطلالها 1993 كجمهورية مستقلة عضوا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
فما هو إذا (Showcase) مسرحيا؟ ولماذا تنظمه الدول؟ ومن يتم دعوتهم له؟
باختصار هو مجموعة من العروض المسرحية والفاعليات ذات الصلة تنظمها جهة مختصة، في دولة ما، للترويج للمسرح وعروضه وأنشطته، وعادة ما تكون البرنامج فيه مكثفة متنوعة مدمجة في أيام معدودات، يتم خلالها أيضا التعريف بفناني تلك العروض ومنتجيها على الضيوف الذين يتم اختيارهم بعناية من مختلف دول العالم من المتخصصين في المجال المسرحي بغية تحقيق التواصل المعرفي، وتبادل العروض والخبرات المسرحية.
الـ (Showcase) في جمهورية التشيك تم تنظيمه من قبل معهد الفنون والمسرح وهي مؤسسة أنشأتها وزارة الثقافة للتعريف والترويج للفنون والمسرح في التشيك، أخبرتني مديرة قسم المسرح فيه الدكتورة مارتينا بيكوفا سيرنا بالمهام الكبيرة التي يضطلع بها المعهد لخدمة الفنون والمسرح في التشيك لا سيما على مستوى تأسيس قاعدة بيانات عامة شاملة، وعلى مستوى بناء العلاقات الدولية مع المؤسسات والمراكز البحثية والمسارح المضاهية عبر العالم كله، خلاصة القول أن المركز نافذة ثقافية حضارية مهمة، وجدتها فرصة أن أسألها عن مدى معرفتها عن المسرح في الوطن العربي، وكنت شبه موقن من الإجابة، أجابت أنها معرفة محدودة لا تعدو حضورها اجتماعات الجمعية الدولية للمسرح في الفجيرة، دولة الإمارات العربية المتحدة، لبضعة أيام مؤخرا حيث اقتصر الأمر على الاجتماعات دون مشاهدة لأي من العروض المسرحية، ثم استدركت وأعربت عن تطلعها لمعرفة المسرح العربي والتفاعل معه بشكل أفضل وأوثق، والحقيقة لا أدري إن كان مثل هذا التطلع حقيقيا أم أنه جاء في سياق الكلام من باب اللباقة أو المجاملة، إذ أنني دائما ما أسمع مثل تلك التطلعات لدى الفنانين والمسؤولين الغربيين، ولكنها تطلعات تبقى دون فعل يؤكدها، على أنني أغلب حسن الظن دائما وأبدا، وفي الوقت ذاته أرى أنه من المناسب أن تنطلق المبادرة منا في بعض الأحيان.
مع خطواتي الأولى في براغ عاصمة التشيك، وقد بدأ الجو باردا قارصا في أواسط شهر مارس الماضي، كان ملفتا للانتباه ألق المدينة وتنظيمها وروعة عمائرها وعراقتها، وذلك المزج الرهيب ما بين الأصالة والمعاصرة. على أني لست هنا بصدد الحديث عن المدينة، أترك تلك المهمة لمؤشرات البحث على الشبكة العنكبوتية، وأمضي مباشرة إلى غايتي الأولى المسرح ثم المسرح ثم المسرح في التشيك.
هل أقول أن براغ هي مدينة المسرح، مدينة تحتضن المسرح في أعماق أعماقها، لو قلت ذلك لما جانبت الحقيقة مقولتي، أذهلني الصرح العظيم للمسرح الوطني في براغ، فهو واجهة حضارية للبلد بكل معنى الكلمة بفخامته وروعة تصاميمه وتقاليده العريقة، ولكن ما أذهلي أكثر تلك المسارح الصغيرة المتناثرة في حارات وأزقة ومناطق العاصمة النائية نوعا ما، في أماكن وطرقات ضيقة لا يخطر على بال الساري فيها أنها ستقوده إلى مسارح، مسارح صغيرة محدودة الإمكانيات والتجهيزات، بعضها لا يعدو أن يكون غرفة صغيرة ومقاعد قليلة، ولكنها مفعمة بالحيوية وروح الشباب العالية الوثابة، يقدم في تلك المسارح كل ما يعن الفنانين من رؤى، وما يخطر لهم على البال من ارتجال، عروض تتمرد على التقليد والنمط والواقع المحدود نحو مساحات رحبة من الحلم والخيال المتناهي واختراق الحقيقة من زوايا استثنائية غير منظورة أو غير مطروقه.
كان السؤال الذي يحيرني: من يحضر كل تلك العروض في كل تلك المسارح، خصوصا وأن عدد سكان التشيك محدود نسبيا، حوالي عشرة ملايين في عموم البلد، فأتى الجواب جليا عندما حضرنا العروض، هنالك احتضان مهول من سكان المدينة وجمهورها الذي يتفاعل مع العروض تفاعلا مثيرا للدهشة، وهو جمهور يمثل كافة الأعمار والمستويات الاجتماعية.
ولكن السؤال ظل عالقا؟ لماذا يحظى المسرح بهذه المكانة العالية في التشيك؟ عندما توالت العروض بدت الإجابة أيضا واضحة على مثل هذا السؤال، الغرس في الصغر!!! فلا نكاد نحضر عرضا مسرحيا في مسرح ما إلا ورحلة مدرسية جماعية من عشرات الطلاب، من مختلف المراحل الدراسية حسب نوع العرض، يحضرون العرض معنا، هناك استراتيجية ثقافية واضحة، المسرح هو نقطة انطلاق للوعي، ذلك الوعي المتكامل مع المعرفة المنهجية النظامية التي يتلقاها الطالب في المدرسة.
ذلك الوعي الذي يكسب الطالب مهارة التذوق الفني الرفيع، وإبداء الرأي الحر، واتخاذ الموقف المتزن، والتفكير من خارج أطر الصندوق المغلق بروح ديدنها الابتكار والتصميم والإنتاج.
ومن هنا يأتي حرص الفرق المسرحية على التجريب والتنويع واستخدام لغة العصر وأساليب الحداثة بما يتواءم وتطلعات الأجيال الحديثة ومفرداتها المتجددة.
ملاحظة مهمة يجدر أن أذكرها هنا، عندما قارنت فارق مظاهر وطبيعة الاستضافة في التشيك لنا كضيوف مع مظاهر الاستضافة عندنا في عُمان ودول الخليج العربية عموما وجدت أن البون شاسعا، اعتدنا في دولنا أن نبذل الكثير الكثير من باب كرم الضيافة، فنادق فخمة، تذاكر طيران غالية، موائد غذاء مفتوحة، مواصلات في حافلات فاخرة، أما في التشيك كانت كل الأمور عكس ذلك تماما، كل شيء في حدود المعقول وفي حدود ما يفي بالغرض أو في حدود الاقتصاد المحمود، لا إسراف ولا تقتير، السكن حجرة اقتصادية في فنادق متوسطة، الأكل في مطاعم أو كافتيريات متنوعة متوسطة المستوى بينها وبين المسارح القريبة منها حميمة ملهمة، التنقل في المواصلات العامة بتذاكر وفرتها الجهة المنظمة، كما يتنقل معظم سكان المدينة في مشاوير حياتهم اليومية، كل شيء يمضي ببساطة وسلاسة والكل متقبل لها بامتنان.
