No Image
ثقافة

أنساغ "أفلام الغرب الأمريكي": تواريخ، ومتكآت، وتساؤلات (2--3)

02 نوفمبر 2021
02 نوفمبر 2021

... ومع ذلك فقد تدبَّر نوع أفلام الغرب الأمريكي طريقه بصورة مستمرة لأن يكون نوع الأفلام الأمريكية "الواضح بصورةٍ زائدةٍ" (“excessively obvious”) إذا ما أنتم سمحتم لي باستعارة عبارة ديفد بوردوِل David Bordwell في سياق محاججاته ذائعة الصيت حول سينما هوليود الكلاسيكية.

والحقيقة هي أن ذلك "الواضح بصورة زائدة" إنما يرتبط بنيويّاً بصورة لا تستحيل على التحليل بعلاماتٍ أيقونوغرافيَّة مثل الخيول، والعربات، والبنادق، والقبَّعات، والطبوغرافيا السهليَّة والصحراويَّة، وكذلك باهتمامات ثيماتيَّة يرتبط فيها التوتُّر الذي يميِّز "السرد المحض/العالم السردي الداخلي في النص" في أفلام الغرب الأمريكي بصراعات ممهورة بالتناقض الحاد بين تقابلات جذريَّة: "الصالح" في مقابل "الطالح"، و"الحضارة" في مقابل "الهمجيَّة"، و"النَّبيل" في مقابل "الوغد"، و"النار" في مقابل "الماء"، و"الصحراء" في مقابل "المروج"، و"السماء" في مقابل "الأرض"، وهكذا (هذا وإن كان هناك قليلٌ نادرٌ من أفلام الغرب الأمريكي يخلط هذا بذاك، فتلك نزعة محدودة لم تتطور كثيراً في هذا الجنس من الأفلام).

والحقيقة هي أن الخط الدقيق المُفتَرَضُ الفاصل بين "الصالح" و"الطالح" قد يصيبه الغَبَشُ أحياناً كما في حالة فيلم كلاسيكي هو "الباحثون" (الذي أخرجه من لا يمكن الحديث عن أفلام الغرب الأمريكي من دون ذكر اسمه: جون فورد John Ford، 1956) وذلك من حيث إن الشخصية التي قام بدورها جون وين John Wayne إنما تتبدى وتفعل ما تفعل بوصفها شخصية سايكوباثيَّة وفصاميَّة من الطراز المتطرف، ولا أمل يرجى في احتمال شفائها. والحقيقة هي أن أستاذي تومَس شاتز Thomas Schatz قد أورَدَ، بصورة كلاسيكيَّة، في الأدبيات الأكاديمية الأمريكية، قائمةً منهجيَّة للصراعات التي تدور في أفلام الغرب الأمريكي التي يَسِمها بـ " نوع/ جنس النظام" (“genre of order”)، وذلك في أمثلة من قبيل: الفرد في مُقابِل المجتمع، الشرق الأمريكي في مقابل الغرب الأمريكي، رُعاةُ البقر في مقابل الهنود الحُمر، المدينة في مقابل البريَّة، الحديقة في مقابل الصحراء، القانون والنظام الاجتماعيين في مقابل الفوضى وانعدام القانون، المعلِّمة الوقور المُحْتَرَمة في الفصل الدراسي مقابل الراقصة الرخيصة في قاعة الرقص، وهكذا. وبصورة معروفة فإن الصراع يُحْسُمُ أخيراً في التقليد الأكثر نموذجيَّة ومألوفيَّةً في أفلام الغرب الأمريكي: إطلاق النار (العنيف في الغالب، والذي فيه أيضاً مَكْرٌ ومخاتلة شديدان) بين الخصوم اللَّدودِين لحسم موضوع الحسابات والتصاريف المؤجَّلة في نهاية الفيلم بطريقة ينتظرها المُشاهدِ بتحَرُّقٍ شديد يضمن له أن سعر التذكرة الذي أنفقه لأجل مشاهدة الفيلم لم يذهب هباء منثورا.

والحقيقة، في نظري، أن المؤسسة الزمانيَّة (temporal) والميثولوجيَّة (بالمعنى الذي قصده رولان بارت) لأفلام الغرب الأمريكي إنما ترتبط على نحوٍ مباشر بسرديَّةٍ ثنائيَّةٍ هي "الترويض" والانطلاق في تنفيذ مهمة "القَدَرُ المُتَجَلِّي" (“manifest destiny”)، التي غرضها النبيل هو "حَضْرَنَة" الهنود الحُمر (حتى وإن تطلب الأمر إبادتهم بأبشع الطرق الممكنة)، وذلك في زحف الرجل الأبيض نحو الغرب (بين نهر المِسسيبي وساحل كاليفورنيا)؛ وهذا خَطْبٌ جَلَلٌ حَدَثَ منذ نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وحتى بدايات القرن العشرين. حسن جداً: لقد تم نقل الهنود الحمر إلى "الحضارة" بتوفيقٍ ونجاح باهرين؛ وذلك لأنهم، ببساطة شديدة، لم يعودوا موجودين إلا في الكتب وبعض المحميَّات المبعثرة.

وفي هذ الإطار فإن أفلام الغرب الأمريكي قد واصلت وصقلت تقليداً بدأ أصلاً في أشكال ثقافية متعددة مثل الأدب الشعبي، والموسيقي الكولونياليَّة الفولوكلوريَّة، و"قصص الأَسْر الهنديَّة" (نسبة إلى سكان أمريكا الأصليين الذين أسماهم كرِستُفر كولومبُس Christopher Columbus "الهنود الحمر" زوراً وبهتاناً)، والتي أسسها وجذَّرها – أي "قصص الأسر الهنديَّة-- جيمس فِمِنور كوبرJames Fenimore Cooper (1851—1798) في أعماله التي منها في مثال شهير "آخر المهيقانيُّون" (الذين هم من شعوب السكان الأمريكيين الأصليين). ولذلك فإن هالة أفلام الغرب الأمريكي مرتبطة مباشرة بالطريقة التي كُتِبَت بها الهويَّة الأمريكيَّة في صفات وخصائص من قبيل الحذق، والبراعة، والاعتماد على النفس في مسعى تنفيذ مهام "القَدَر المُتَجَلِّي" المَنوط بها نقل "الهنود الحُمر" إلى "الحضارة".

أما تْشَكْ بيرغ Chuck Berg فإنه يتتبع جذور أفلام الغرب الأمريكي ليجد أنها ضاربة في الحرب الإسبانيَّة—الأمريكية وإغراق المدمرة الأمريكية "مين" في مرفأ هافانا الكوبي في 15 فبراير1998، وفي الصور الفوتوغرافية التي تم التقاطها للحدث الجَلَل، والتي ستشكل لاحقاً أفلام الغرب الأمريكي حيث "المشهد الساحر والغريب لمكان بعيد.. المشهد المثير لرجال يمتطون صهوات الخيول.. الانطلاق للقيام بالإنقاذ.. صورة [الرئيس الأمريكي] روزفِلت Roosevelt [الذي كان قد شارك في الحرب الإسبانيَّة—الأمريكية في العمليات التي دارت عقب إغراق المدمرة الأمريكيَّة مين] باعتباره رجلاً أكبر من الحياة ويجسِّدُ الحقيقة، والعدالة، ونشر طريقة الحياة الأمريكية".

وفي مرحلة السينما الصامتة كان نتاج أفلام الغرب الأمريكي مرتبطاً كثيراً بممثلين من قبيل وِلْيَم إس هارتWilliam S. Hart وتوم مكس Tom Mix اللذين كانت الشخصيات السينمائية التي أدَّيا أدوارها على طرفي نقيض؛ فأسسا بذلك الثنائية الضديَّة لهذا النوع السينمائي الأمريكي. أما في الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن الماضي فقد انسحبت أفلام الغرب الأمريكي لصالح العروض النهاريَّة لأفلام من ذات النوع، ولكنها أفلام تقع تحت التصنيف "فيلم من الدرجة الثانيَّة" (B Movie) الأقل كلفة واحترافاً.