98563
98563
ثقافة

أضاميم: «دلالة الحيران» للصايغي تتنفس الحياة في المخطوطات منذ مئتي عام

30 أكتوبر 2021
30 أكتوبر 2021

منذ قرنين من الزمان، وتحديدا في الثاني من شهر رمضان، عام 1217هـ/ 1802م، أتمَّ الشيخ سالم بن سعيد الصايغي المنحي منظومته: «دلالة الحيران الجامعة للأحكام والأديان» تختال كلماتها على موسيقى بحر الرَّجز، بما يزيد عدد أبياتها عن 12 ألف بيت، فملأت الصفحات، وحفظتها الصُّدور، ووعتها الألباب، وأخذت تنتقل مخطوطاتها من يد إلى أخرى، وتسكن معاني أبياتها المُهَج، وعلى اسمها المثير إلا أنها عُرفت بين الناس بـ«أرجوزة الصَّايغي»، وتعريفاً بها أحاول في هذه الإضمامة أن أقترب منها، مأخوذاً بضَوْع أريجها، الذي سرى في الأفق العُماني، قبل قرنين من الزَّمان.

شرع الصَّايغي في نظم أرجوزته، أثناء إقامته في مكة المكرمة، لأداء فريضة الحج، هناك في تلك الرِّياض المقدَّسة، طاب له أن ينظم أرجوزته، مستعيناً بما يحفظه من أحكام شرعية علقت في ذهنه، فاستهلها بمقدمة من خمسة أبيات، تتضمن حمد الله وشكره وتسبيحه، والصلاة على رسوله وآله، وأزواجه والمقتدين به، ثم يدخل باب العلم وفضل حامله، ومنه إلى مسائل الدين، والسنن والصلاة، الخ:

أحْمُدُكَ اللهُمَّ حَمْدَاً دائِمَا

واجْعَلْنِ بالشُّكْرِ إلهي قائِما

فأنتَ ذُو الآلاءِ والأفضَالِ

تَعِزُّ عَنْ نِدٍ وَعَنْ مِثالِ

سُبحَانكَ اللهُمَّ أنتَ الصَّمَدُ

ليْسَ لنا رَباً سِوَاكَ نعْبُدُ

ثمَّ صَلاةُ اللهِ تَغشَى أحْمَدَا

ما عَسْعَسَ الليلُ وما صُبْحٌ بَدَا

والآلِ والأزْوَاجِ أجْمَعِينا

وَمَنْ بهِ فِي الدِّينِ مُقتَدِيْنا

فسارت في الوجود الثقافي، أشبه ببوح فقيهٍ راقَ له النظم، بعد أن راقت أيامه بالعلم الشرعي، فقد كان ينظم ما يعنُّ في رأسه ويخالج ذهنه، في الأحكام والمسائل الفقهية، وما أن شرع في نظمها حتى برعمت أوراقها، وكبرت غصونها أمام ناظريه، وأخذ يغذِّيها بفكره، حتى اكتملت وأصبحت ضميمة المتعلمين.

وظلت دلالة الحيران باسمها المثير، دليلَ السائر في درب العلم، وسراجه المشع بأنوار الحكمة والمعارف، فنظر إليها اثنان من كبار الفقهاء في عُمان نظرة إجلال، وانشغلا بها سنوات من عمريهما، فحين بزغ في الوجود فجر السَّعد، بظهور الشيخ جميِّل بن خميس السَّعدي، فقيهاً وأديباً، لامست وجدانه، وتعانقت أبيات الأرجوزة بشجرة معارفه، فقام (بترتيبها وفق الأبواب الفقهية، وجعلها في 63 باباً، أولها في فضل العلم، وآخرها في الإمامة)، و(أورد كثيراً منها) في كتابه الموسوعي الكبير: «قاموس الشريعة»، وهذا العمل على أهميته وتكراره بين المشتغلين بالتأليف، واعتيادهم على النقل من مؤلفات الآخرين، إلا أنه من قبل الشيخ السَّعدي لا يخلو من إعجاب بها، ولمسة وفاء لناظمها، والسؤال: هل التقى الشيخان جميل السَّعدي وسالم الصايغي في الحياة؟، وهل جمعت بينهما علائق؟، لم يتضح لي شيء من هذا فيما لديَّ من بحوث ودراسات، لكن لربما كان لقاء بين تلميذ وشيخ، في سانحة ميمونة، قبل أن تغرب شمس الحياة على الشيخ الصايغي، والذي كان يجرُّ على وَهَنٍ أسمالَ كهولته، متكئاً على عكازه فيما تبقى له من عُمْرٍ بين نزوى ومنح، بينما كانت أيام السَّعدي مورقة بنضارة الشباب.

وتمضي الحياة في تسارعها المُعتاد، حتى تمر مائة عام على دلالة الحيران، ويأتي البصير بعيون قلبه، الشيخ عبدالله بن حميد السالمي، فينظر إليها نظرة فقيه متمرِّس وأديب متذوِّق، ويجد فيها أشياء تستوجب الإصلاح والتحرير وتستدعي التقويم، فسارع في مشروعه التأليفي الجديد، في زمان ومكان يتوافقان مع التوقيت الذي بدأ فيه الصايغي منظومته قبل مائة عام، إذ كانت الرحلة السالمية إلى بيت الله الحرام، لأداء فريضة الحج عام: 1323هـ/ 1906م، بداية مباركة للنظر في أرجوزة الصَّايغي، بتلك العين الفاحصة التي ينظر بها للمؤلفات والكتب، فأعاد سبكها، مدفوعاً بإعجاب معرفي خاص، وبلا شك أنها الأم الحقيقية التي أنجبت الجوهر، بعد أن تعانقت الروح الفقهية للسَّالمي، بالرُّوح الأدبية للصَّايغي، ليتخلَّق جوهر النظام من تلك السلالة النجيبة، وياله من جوهر فريد، متلألئ بدرره، يصدق فيه قول ناظمه: (كالبَدْرِ إذ يَسْفرُ فِي الظَّلامِ)، ولكنه بدر حجب النور عما سواه، حتى عن أمه الرؤوم.

ثم تأتي مائة عام أخرى بعد وفاة الشيخ السالمي، فيها يُغاث الناس بجمع المخطوطات من مضانِّها وفيها يَنْشُرون، وتدبُّ الحياة في مخطوطة هذه المنظومة الصايغية من جديد، فهناك من قام بتوثيقها في كتبه، وهناك من كتب عنها وعرَّف بها من الكتَّاب والباحثين، في دراساتهم ومؤلفاتهم ومعاجمهم، وخصصت الموسوعة العمانية مدخلين للمؤلف والكتاب، وفيهما معلومات أولية مهمة، لتدخل منظومة دلالة الحيران ضمن النسيج الثقافي المعاصر.

ومع الإشادة بها، إلا أن الصايغي لم يكن منظماً في نظمه، كان ينظم ما يتذكره من مسائل فقهية وحِكم وآداب، لتتمازج معاً في نسيج شعري واحد، بحسب ما يفيض به عفو الخاطر، واتخذ من الأسلوب الحِوَاري منهجاً، مُكثراً من الألفاظ القولية: (وقالَ لي، قلتُ له)، وكأنه يحاور تلميذاً مُتخَيَّلاً في مسائل مختلفة، يدور فلكها بين الأحكام والأديان:

وقالَ لي خُلاصَةُ الإخوَانِ

مَاذا أصُولُ الدِّينِ والإيمَانِ

قلتُ له ما نَصَّهُ الكِتابُ

وَسَنَّهُ نبيُّنا الأوَّابُ

قلتُ له فالحَقُّ مِمَّا يُعْرَفُ

فقالَ لِي مِنْ أوْجُهٍ قد توصَفُ

وإذا كان لأرجوزة الصايغي ما يشابهها في النثر الفقهي العماني، فإني أرى كتاب «الدلائل في اللوازم والوسائل» للشيخ درويش بن جمعة المحروقي، شبيهاً لها في الأسلوب الحِواري، لأنك تقرأ أرجوزة الصايغي، وتستشعر به في كل بيت، وكأنه يقرأه عليك، وتحس بالمحروقي يحدثك ويلاطفك، كقوله المتكرر: (اعلم أخَيَّ يرحمك الله)، فأنت لا تقرأ كتابه بل يقرأه عليك، وهما معاً في غيابة الموت وكنه الغيب، رحمهما الله.

ويُحْمَدُ للأرجوزة روحها الأدبية، والتفات ناظمها إلى نظم الحِكَم والأخلاق الإنسانية، تظهر بين قطعة وأخرى، وختامها يفوح بمسك الذوق الرَّفيع من النظم البديع، بل إن قارئها يشعر بناظمها وهو يحدثه كصديق، يشكو إليه همه وأحزانه، بفقد أقرانه وخلانه ووالديه:

نظمْتُها والقلبُ يا إخوانِ

قد ارتدَى بالهَمِّ والأحزانِ

من فقد أصحابٍ لنا أعوانُ

في الله رَبِّ العِزَّةِ الدَّيانِ

والوالدينِ وجَميعِ الآلِ

لم أنسَ ذكرُهم مَدَى الليالي

وتمر الأيام والليالي على كتابة الشيخ الصايغي حرد المتن في نهاية منظومته، أما الزمان الفاصل بيننا وبينه فيلامس 220 عاماً، وهو زمن طويل، وقد آن الأوان لتحقيقها ونشرها، بعد أن عاشت في كهف النسيان قرنين من الزمان، آن الأوان لتخرج منظومة الصايغي محققة ومطبوعة في حلة فاخرة، حتى وإن كان الإمام السالمي قد أدخلها في معمله الفكري، فأصلح ما وجد من بنائها ضعيفاً، وأبقى على ما كان بناؤه قوياً، وأبدع منها جوهر النظام، ولا يضير الجوهر طباعة الدلالة، لأنه ابن القرن العشرين، ويحوي فكر ناظمه وذوقه التأليفي، أما الدلالة فابنة القرن التاسع عشر، وما تزال تتنفس الحياة فيما تبقى من مخطوطاتها.

عُرف سالم الصايغي بكثرة مؤلفاته، من بينها: «كنزُ الأديب وسُلافة اللبيب»، و«لبابُ الآثار»، و«المَضنونُ به على غير أهله»، والعنوان الأخير مشابه لكتاب يضم مختارات شعرية لعبدالوهاب الزنجاني، كما يتشابه اسم الأرجوزة بكتاب شهير للفيلسوف موسى بن ميمون القرطبي، والمسمى: «دلالة الحَائرين»، وهكذا الكتب كالبشر، في التشابه والاختلاف.