أجراس ..صورة جماعية لوحيد
آثرنا في هذه الزاوية (أجراس) أن نسلط الضوء على تجارب إبداعية مهمة، من وجهة نظرنا، ولكنها لم تنل حظها من الشهرة والذيوع والانتشار، أسوة بغيرها من التجارب الإبداعية التي حظيت بالكثير من الضوء والحضور والدراسة. وجريًا على هذا المسعى نتوقف اليوم عند ديوان (صورة جماعية لي وحدي) للشاعر والقاص والمسرحي الأردني الفلسطيني إبراهيم جابر إبراهيم.
إبراهيم الذي ولد في مخيم عقبة جبر بأريحا الفلسطينية، خرج لاجئًا مع أبويه بعد نكسة 67، ليعيش في مخيم الوحدات للمشردين اللاجئين في الأردن من أبناء فلسطين الذين شردهم الاحتلال الصهيوني وصادر منازلهم وأماكنهم وذكرياتهم وأحلامهم، تحت ذرائع دينية واهية. عاش إبراهيم جابر إبراهيم تجربة الاغتراب والترحال والمنافي منذ بداية حياته، وظل متنقلا بين المخيمات والمدن والعواصم بحثًا عن وظيفة وموطئ قدم في هذا العالم الشاسع.
يتسم شعر إبراهيم جابر إبراهيم بالمرارة والسخرية المؤلمة اللاذعة. ويبتعد إبراهيم عن التراكيب اللغوية الرنانة، ولا تبهره بهرجة اللغة وإيقاعاتها الصاخبة، بل يمضي متسللا إلى كوامن الكلمات ومجساتها العميقة ليبتكر منها عوالم شعرية ذات دهشة خاصة لا يتقنها سوى قلة من الشعراء المختلفين والمغامرين.
في شعر إبراهيم جابر إبراهيم مزيج من الفوضى والجنون والسخرية والحزن الهاجع في الأعماق، ما يجعل قصائده مرايا كونية عاكسة لشعره ومشاعره التي تجسد أطواره وحالاته وتشظياته الحادة.
يكتب إبراهيم جابر إبراهيم عن الفقد بمعانيه الواسعة، الذي يبدأ بفقد الذات مرورًا بفقد الأم والأب والعائلة والذكريات، صولًا إلى فقد الوطن. يتجلى ذلك في عدد كبير من قصائد الديوان مثل قصيدة (في الطريق من البيت) التي يقول فيها:
بعد أن أنهيت مهمتي في المنفى
لا شيء الآن أخضر،
أو أن كل شيء الآن أخضر،
لا عَلَم، لا أقارب
ولا حكمة شعبية.
سوى اسم أبي
فأتبعه مغمض الفم!
في خضم هذا الفقد العظيم يعيش الشاعر حالة من التيه الدائم، فلا ثمة علم ولا إشارة ولا طريق، ولا بلد يأوي إليه الكائن الذي لم يعد يعلم حتى البقعة التي ولدته فيها أمه حينما جاء إلى هذا العالم. يقول في قصيدة (خانة الاسم):
أمشي إلى أريحا حافيا،
لا عَلَم على بيت أهلي
وحده اسمي يقودني من يدي الضريرة.
أقلب وجهي في السماء
كلما رأيت بلدا مضاء قلت:
هنا ربما ولدتني «هند»،
ولم تلقّني اسم عاصمتي!
تتميز قصائد إبراهيم جابر إبراهيم بالقصر والتكثيف، فهو يأتي بجوار الفكرة ويلامسها دون أن يفسدها بالشرح والإطالة، وإنما يمنح القارئ مفاتيح النص ويتركه ليعيد اكتشافه بطريقته الخاصة. كما تتكشف نصوص الديوان عن سوريالية وصور غرائبية مدهشة، مثلما هو الحال في قصيدة (في محطة الحافلات) التي قول فيها:
في الخامسة فجرا،
أخرج إلى محطة الحافلات،
أختار مسافرا وسيما،
أتدبر له اسما،
ثم أودعه بحرارة.
أعود للبيت وأنتظره!
وإلى جانب الفقد تبرز لدى إبراهيم جابر إبراهيم عدة ملامح أساسية في كتابته الشعرية مثل الانتظار والموت والغياب والحنين والوحدة. يكتب إبراهيم جابر عن الانتظار، ولكنه ليس متيقنًا من الشخص الذي ينتظره، إذ يبدو الانتظار هنا فكرة ذات طابع حنيني تجريدي محض، إذ أن الشخص الذي يعيش كله هذا الفقد، لا يوجد ثمة من ينتظره، ولكنه يهيئ كل أسباب الانتظار ويعد طقوسه، كما في قصيدة (انتظار) التي يقول فيها:
كأنني أنتظر أحدًا
أنظر للساعة كل خمس دقائق مرتين
أقوم لأطمئن على نظافة الأكواب، وأتفقد صحن الفاكهة
أجرب ابتسامتي أمام المرآة
أرفع رماد السيجارة، الذي وقع قبل قليل، عن السجادة البيضاء
أفتح الباب وأقرع الجرس (لأكون أكيدا أن الكهرباء لم تتعطل اليوم)
أجلس باسترخاء لأبدو أمام نفسي (الفضولية) هادئا
وأقول لي: كنت تنتظر أحدًا ولسبب ما ربما لن يجيء!
فأهز رأسي موافقًا..
وأعيد صحن الفاكهة للثلاجة
هكذا أطرد الوحشة كل يوم، فأنا لست وحيدًا،
إنما لسبب ما أجلس وحدي.
وعلى النحو الذي يمارس فيه الانتظار، يمارس إبراهيم جابر أيضًا الغياب، فهو يمارسه على نحو شخصي، وفي حضوره التام، كما في قصيدة (غياب) التي يبدو فيها الشاعر سائسا لهذا الذئب الصغير الأليف الذي يقاسمه عيشه في المنزل ويوقظه في الليل لينادي أباه الغائب أيضا:
أربي «الغياب» في منزلي
مثل ذئب صغير
لا يعضني
لكنه يوقظني عواؤه في الليل»:
يا أبي، أنا وحيد مثل ذئب صغير.
وفي السياق ذاته يقول في قصيدة (ستارة بيضاء):
في طفولتي لم أكن أشتم أحدًا
كنت منطويًا وهادئًا مثل ستارة بيضاء في غرفة الضيوف.
ومثلها أبدو كمن يخبئ دائمًا شيئًا.
لم أشتم أحدًا، حتى أولئك الذين أصغر مني
أو الذين لا يشتغل آباؤهم في الحكومة.
كنت أخبئ كل شتائمي البذيئة لهذا الغياب،
الذي حين عرفته كان قد صار أكبر منس سنا.
وكشأن كل الأدباء والشعراء والفلاسفة يبدو إبراهيم جابر إبراهيم مشغولا بفكرة الفناء والموت، ولكنه لا يبدو مرعوبًا من هذا المصير الحتمي الذي ينتظر الكائن في نهاية المطاف، بل هو يعده نومة أخيرة طويلة، ربما تباغته وهو يقبض على حفنة ضوء وثيرة في انتظار حبيب يدق الباب، فيطلب منه أن يكون لطيفًا في فتح الباب، لئلا يزعج سكينته النهائية. يقول في قصيدة (حفنة الضوء الأخيرة):
يوما ما سأظل نائمًا يا حبيبي!
حفنة الضوء الأخيرة في يدي كانت لك.
تعال وافتح البيت، وافتح برفق.
فأنا الليلة سأظل نائمًا يا حبيبي!
وفي قصيدة (20 سنتيمترًا) يقسم مشهدًا آخر لهذه النهاية التي ستحدث على نحو بسيط وهامشي في الوجود مثل غيمة تبددها الشمس، أو ماء ينفضه طائر عن ريشه. بهذه البساطة سيغادر العالم، دون أن يكترث أحد أو يتغير شيء في نظام الكون. حتى الطاولة التي يجلس عليها ستعيش بعده بسعادة وتستقبل أناسا آخرين، وحتى ركاب الحافلة التي يتسلقها لن ينتبهوا للفراغ الصغير الذي كان يشغله عند ركوبه معهم. صورة فيها الكثير من المرارة والمأساة، يرسم من خلالها الشاعر هوان الإنسان وضعفه وهشاشته:
هكذا، مثل غيمة صغيرة بددتها الشمس
مثل ماء نفضه طائر عن ريشه، أمضي.
ستعيش الطاولة السعيدة سنوات أخرى كثيرة،
والسجاد الصفراء
حتى الركاب على موقف الباص
لن ينتبهوا أن الزحام خف عشرين سنتيمترًا!
يشار إلى أن ديوان (صورة جماعية لي وحدي) لإبراهيم جابر إبراهيم يقع في 159 صفحة من القطع الصغير، ويشتمل على ما يقرب 130 نصًا شعريًا، وهو صادر عام 2015م، عن مجلة دبي الثقافية، ضمن سلسلة كتاب المجلة التي توقفت عن الصدور منذ عدة سنوات.
