إنهاء الركود التكنولوجي في أوروبا
مع اشتداد عنفوان الثورة التكنولوجية، تجد أوروبا نفسها على الهامش، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي. وهذه مشكلة ليس فقط لأوروبا، بل وأيضا التحالف الغربي في عموم الأمر. فمع انطلاق مناطق أخرى إلى الأمام حاملة طموحات تتمحور حول التكنولوجيا، تزداد احتمالية تلاشي أوروبا في حالة من انعدام الأهمية الرقمية. نحن بحاجة ماسة إلى إعادة تنشيط العلاقات عبر الأطلسي، بحيث تتمحور حول أجندة تكنولوجية جريئة وإيجابية.
وكما أبرزت تحليلات أخيرة، بينما تهيمن شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة على مشهد الذكاء الاصطناعي الحالي، يتضاءل عدد الشركات الكبرى في أوروبا وتتباعد المسافات بينها. والقارة التي قادت الثورة الصناعية تواجه صعوبة شديدة الآن في رعاية شركات التكنولوجيا العملاقة القادرة على المنافسة عالميا ــ ليس بسبب نقص المواهب أو روح الإبداع، بل بسبب مزيج معقد من الأسواق المفتتة، والمناخ الاستثماري الحذر، والبيئة التنظيمية التي تخنق الإبداع عن غير قصد. والنتيجة هي الاعتماد المتنامي على تكنولوجيات خارجية وتضاؤل القدرة على تشكيل المستقبل الرقمي وفقا لقيم أوروبا ومصالحها. هذا التأخر الرقمي يشكل ضعفا استراتيجيا بقدر ما هو مشكلة اقتصادية. يجب أن يثير العجز التكنولوجي في أوروبا قلق الولايات المتحدة بقدر ما يقلق الحكومات الأوروبية.
ففي نهاية المطاف، تمثل أوروبا الضعيفة تكنولوجيا شريكا أقل قدرة على مواجهة التحديات العالمية، من التنافسية الاقتصادية إلى الأمن. علاوة على ذلك، تعلم الولايات المتحدة أيضا أنها لا تستطيع صد المد التكنولوجي الصيني بمفردها. ويعلم الأوروبيون أنه لا يوجد بديل للقوة الأمريكية. فكل منهما لا يزال في احتياج إلى الآخر. بينما تسعى أوروبا والولايات المتحدة إلى إقامة علاقة تكنولوجية جديدة، تخطو دول شرق آسيا مثل ماليزيا، المدعومة بالاستثمارات الحكومية والقطاعات الخاصة الديناميكية، خطوات هائلة. ويستفيد الشرق الأوسط أيضا من موارده ليصبح مركزا جديدا لتطوير الذكاء الاصطناعي والإبداع التكنولوجي.
الطريق نحو الهيمنة العالمية
يُعَد صعود مراكز القوة التكنولوجية الجديدة على هذا النحو تطورا إيجابيا في حد ذاته، حيث يعزز المنافسة والإبداع على مستوى العالم، لكنه يؤكد على ضرورة استعادة أوروبا لمكانتها. بيد أن التحدي الأعظم آت من الصين، التي لا تخفي طموحاتها في تحقيق الهيمنة العالمية على مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
تعمل مبادرة "طريق الحرير الرقمي" الصينية بالفعل على نشر نفوذ الصين وبنيتها الأساسية التكنولوجية في مختلف أنحاء أوروبا، وأفريقيا، وخارجهما. وهذا لا يتعلق بالحصة السوقية فحسب؛ بل يدور أيضا حول ترسيخ المعايير التقنية، وقدرات المراقبة، وفي النهاية، النموذج الاستبدادي الصيني في الحمض النووي الرقمي للبلدان. وإذا فشلت الولايات المتحدة وأوروبا في تقديم بديل مقنع وديمقراطي، فسوف يكون قسما كبيرا من البنية الأساسية الرقمية في العالم تحت سيطرة منافس استراتيجي.
يتمثل الحل في استراتيجية واضحة الرؤية ــ ميثاق تكنولوجي عبر أطلسي صالح للقرن الحادي والعشرين، بأفق عام 2030. ويجب أن تتمحور هذه الاستراتيجية حول أجندة إيجابية في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، أجندة تتجاوز محاولات تنظيم أو احتواء المخاطر. نحن في احتياج إلى صياغة رؤية مفصلة للكيفية التي قد يعمل بها الذكاء الاصطناعي كقوة من أجل الخير ــ النهوض بالعلوم، وتحسين الرعاية الصحية، ومعالجة تغير المناخ، وخلق فرص اقتصادية جديدة. كانت هذه هي الروح التي حركت مشاريع البنية الأساسية المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا أثناء الحرب الباردة، لبناء أسس عالم غربي مترابط ومزدهر. يجب أن نستعيد هذا الطموح.
وأوروبا تدرك هذا: الواقع أن تقرير دراجي عن القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي، وقمة باريس للذكاء الاصطناعي، وقمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخيرة في لاهاي، تُظهِر جميعها وعيا بالحاجة إلى تغيير جذري. ينبغي لهذا الميثاق الجديد أن يركز على رعاية البحث والتطوير المشترك في نماذج الذكاء الاصطناعي التأسيسية والتكنولوجيات التمكينية الحرجة. وهذا يعني تجميع الموارد والمواهب للتنافس على نطاق واسع. يتعين علينا أن ننظر في قوة العمل في المستقبل وربما حتى استراتيجيات الهدف منها استيراد رأس المال البشري اللازم.
ومن الممكن أن تعمل آليات قائمة مثل المبادرة الأوروبية المشتركة للإبداع المعطل للنظم القائمة، وصندوق الناتو للإبداع، ومسرّع الإبداع الدفاعي في شمال الأطلسي، كمنصات للبحث والتطوير المشترك في مجال التكنولوجيات الاستراتيجية المزدوجة الاستخدام. إن الجهد المنسق الذي يركز على التكنولوجيات الخارقة وترعاه نظم الإبداع ــ من المشتريات إلى أَسِرّة الاختبار ــ كفيل بضمان بقاء الولايات المتحدة وأوروبا في سباق التكنولوجيا العالمي. لذا، يجب أن يُقَدَّمَ التمويل المناسب وفقا لمنهجية تركز على خوض المجازفات الجريئة، والسرعة القصوى، والمقاييس الواضحة.
يجب أن نؤكد أيضا على قابلية التشغيل البيني، خاصة في التكنولوجيات المرتبطة بالدفاع. يوفر تحول البلدان على جانبي المحيط الأطلسي نحو إعادة التصنيع فرصة استراتيجية لمواءمة الجهود حول أنظمة رقمية ومعدات قابلة للتشغيل البيني، وتعزيز سلاسل التوريد الدفاعية، وتجنب الازدواجية. وسوف تضمن المعايير المشتركة والتطوير المشترك للقدرات الحرجة مثل السحابة، ونماذج الذكاء الاصطناعي، والفضاء السيبراني، وقدرات الحوسبة الكمية، المرونة عبر الأطلسي في مواجهة النزاعات في المستقبل.
سوف يتطلب هذا الاستثمار في البنية الأساسية الرقمية المشتركة الصالحة للمستقبل، من شبكات الجيل التالي إلى مراكز البيانات الآمنة. وسوف تفرض أنظمة الذكاء الاصطناعي والذكاء الاصطناعي العام متطلبات هائلة على الطاقة، والقوة الحاسوبية، والتخزين.
يجب أن تضمن الولايات المتحدة وأوروبا أننا نمتلك العمود الفقري المادي والرقمي لدعم طموحاتنا في مجال الذكاء الاصطناعي، والتنسيق حول أشباه الموصلات وسلاسل توريد الحوسبة المتقدمة. وهنا من الممكن أن تضطلع الشراكات بين القطاعين العام والخاص بدور حاسم، فتجمع بين الحكومات، والصناعة، والأوساط الأكاديمية. يجب أن يكون أمن البنية الأساسية الحرجة، بما في ذلك في المواقع الاستراتيجية مثل تايوان، أولوية مشتركة، حيث يكون الارتباط بين الاستقرار الرقمي والجيوسياسي وثيقا.
يجب أن يكون أحد الأهداف المهمة من التعاون عبر الأطلسي تقديم بديل للتوسعية الرقمية الصينية، وخاصة في البلدان النامية. هذا يعني توفير التمويل التنافسي، والتكنولوجيات المفتوحة المصدر، والتدريب الذي يتماشى مع المبادئ الديمقراطية ويعزز الأنظمة المفتوحة القابلة للتشغيل البيني. لن يتسنى للولايات المتحدة وأوروبا تزويد الدول ببديل مقنع للنموذج الصيني القائم على المراقبة إلا بالعمل معا. أخيرا، يجب علينا أن نعمل على تجديد شباب ديمقراطياتنا لجعلها ملائمة للعصر التكنولوجي. الواقع أن القرارات التي نتخذها ــ أو نفشل في اتخاذها ــ في السنوات المقبلة ستحدد ما إذا كان بمقدور الولايات المتحدة وأوروبا قيادة الموجة التالية من التقدم التكنولوجي، أو ما إذا كنا لنتفاعل مع عالم يشكله آخرون.
بصرف النظر عن الإدارة في واشنطن، فإن وجود أوروبا مزدهرة ومتقدمة تكنولوجيا يصب في مصلحة أميركا، في حين تستطيع أوروبا أن تكسب كثيرا من التعاون التكنولوجي عبر الأطلسي. فأوروبا التي تكتفي بالاستهلاك، بدلا من أن تكون مُبدِعة للتكنولوجيات الحرجة، ستكون أوروبا المتضائلة الصوت والنفوذ.
يلي باجراكتاري رئيس أركان سابق لمستشار الأمن القومي الأمريكي والمدير التنفيذي السابق للجنة الأمن القومي الأمريكية للذكاء الاصطناعي، هو الرئيس التنفيذي لمشروع الدراسات التنافسية الخاصة.
أندريه لوسيكروج-بييتري رئيس ومدير علمي للمبادرة الأوروبية المشتركة للأبحاث المتقدمة، وهي وكالة المشاريع البحثية الأوروبية المتقدمة.
