الدماغ باعتباره حاسوبا معقدا!

04 أكتوبر 2023
04 أكتوبر 2023

يصعب علينا اليوم التفكير ووصف ما يعنيه الدماغ دون استخدام استعارات قادمة من علوم الحاسوب. نقول مثلا: إن الشيء محفوظ في الذاكرة، ونقول أن علينا أن نعالج المعلومات، أو نستعيد المعارف.

هذه الاستعارة لها -بالطبع- جذور تاريخية تعود لاختراع الكمبيوتر، وتزداد شعبيتها بازدياد شعبية مجال الذكاء الاصطناعي. علماء الوعي، الأعصاب، النفس، وكل من لهم علاقة بالسلوك البشري يستخدمون هذه اللغة للتعبير عن الدماغ، بل ويؤمنون بعمل الدماغ مثل حاسوب.

في كتابه (In Our Own Image - 2015) الذي يُمكن أن يترجم إلى «صورتنا الخاصة» يتتبع جورج زركاداكيس (George Zarkadakis) ست استعارات تاريخية حول العقل أو الدماغ مرتبطة بالتقنيات والأفكار السائدة في العصر الذي تنتمي له. الأولى تعود للنصوص الدينية وتُشير إلى خلق الإنسان من طين أو تراب، قبل نفخ الروح فيه. وحسب هذه الرؤية فالذكاء قادم من الروح. لاحقا، أدى شيوع الهندسة الهيدروليكية (وهو فرع الهندسة المدنية المعني بنقل السوائل مثل مياه السقي والشرب والصرف الصحي بالاستفادة من الجاذبية الأرضية)، إلى اعتماد توصيف هيدروليكي للوظائف البدنية والذهنية. هذا قبل أن يتم استبدالها باستعارة الآلات: الجسم مجرد آلة. وبالتالي فالأفكار تنبع من حركة آلية معقدة في الدماغ. ومع شيوع أدوات التواصل الحديثة شُبه الدماغ بأنه تلجرام. قبل أن تسود فكرة الدماغ الحاسوب في وقتنا الحالي، وتبدأ استعارة الذكاء البشري باعتباره معالجة للمعلومات. وأيا كان محل النقاش -سواء الشارع، أو المؤتمرات العلمية- لا يخلو مكان من هذه الاستعارة. وقليلا (حتى وقت قريب) ما تم التشكيك بمصداقيتها.

واليوم -مع تقدم تكنولوجيا الحاسوب وأبحاث الدماغ- يتم تمويل مئات الأبحاث التي تنطلق من فكرة أن الدماغ البشري -مثله مثل الحاسوب- معالج للمعلومات.

يُنظر إلى الدماغ -وفق هذا المنظور- باعتباره العتاد (hardware) الذي يقوم بعمليات في مقدمتها معالجة البيانات. وتؤكد على أننا إذا ما ملكنا القوة الحاسوبية للتعامل مع المدخلات التي تأتي من تفاعل الكائن مع بيئته، فإننا سنكون قادرين على محاكاة الدماغ البشري. موقف أقل حدة من هذا، يعترف بأن خلق دماغ من السيليكون أمر غير وارد على الأغلب. مع هذا فإن العمل وفق هذا الإطار يُساهم في فهمنا لأدمغتنا، وإن على نحو محدود. ولكن آخرين يرون أن هذا لا يسهم على نحو جاد في زيادة معرفتنا بالسلوك البشري أو بآليات عمل الدماغ، بل وأنه نشاط غير قائم على أساس علمي متين (كما نرى بنهاية المقال).

في مقال بعنوان «الدماغ الفارغ (The empty brain)» منشور على مجلة (aeon) يُدرج لنا روبرت ابستين (Robert Epstein) مثالا للتدليل على الطريقة التي يختلف بها عمل أدمغتنا مقارنة بالحواسيب.

يطلب ابستين من طلبته أن يرسموا دولارا على لوحة الصف. ورغم أنهم شاهدوا دولارات عديدة في حياتهم، إلا أن الرسومات تأتي مفرغة من التفاصيل على نحو مدهش. يقوم بعدها ابستين بإلصاق ورقة نقدية حقيقية ويطلب منهم رسمها ثانية، تأتي الرسمة الثانية بطبيعة الحال أكثر تفصيلا. ما يدعو ابستين للتساؤل: «ما المشكلة؟ أليس لدينا «تمثيل» لورقة الدولار «مخزن» في «سجل الذاكرة» داخل أدمغتنا؟ ألا يمكننا «استرجاعها» ببساطة، من أجل أن نعيد رسمها؟» ويُعلق بأن علماء الأعصاب لن يتمكنوا أبدا من وضع أصابعهم على تمثيل ورقة الدولار داخل أدمغتنا؛ لأن هذا لا وجود له. يقول: «نحن لا نخزن الكلمات أو القواعد التي تخبرنا كيف نستخدمها. نحن لا ننشئ تمثيلات للمحفزات البصرية، ونحن لا نخزنها مؤقتا في الذاكرة قصيرة المدى، ثم ننقلها إلى الذاكرة طويل المدى. لا نقوم باسترجاع المعلومات أو الصور أو الكلمات من سجلات الذاكرة. أجهزة الحاسوب تفعل كل هذه الأشياء، ولكن الكائنات الحية لا تفعل ذلك».

يدعو ابستين إلى صياغة نظرية حول الدماغ متحررة من استعارات الكمبيوتر. فالذكاء باعتباره معالجة للمعلومات ما هي إلا قصة نحاول عبرها أن نُقرب إلى فهمنا شيئا عصيا على الفهم (حتى الآن على الأقل). الإسراف في التركيز على هذه الاستعارة يشتت انتباهنا عن الجوانب الأخرى التي لا تنجح الاستعارة في اكتنافها.

وبالحديث عما تُقدمه وما تعجز عن تقديمه هذه المقاربة، وفي ظل التمويل المتواصل لأبحاث قائمة عليها، والاهتمام الإعلامي والعلمي بها، وقّع الشهر الفائت 124 شخصا -منخرطا في أبحاث الوعي- عريضة وصفت فيها «نظرية المعلومات المتكاملة (integrated information theory)» بالعلم الزائف. ونظرية المعلومات المتكاملة تقترح وجود نموذج رياضي للأنظمة الواعية، وتسعى للتحقيق في الكيفية التي تحوز بها بعض الأنظمة (البشر مثلا) وعيا، وإيجاد طريقة لمعرفة ما إذا كان نظام ما واعٍ أو لا.

ورغم أن وصف النظرية بالعلم الزائف قد لا يكون دقيقا (أعني أن النظرية قائمة على فكرة أن للوعي أساسا ماديا، ويمكن قياسه رياضيا، وحتى إعادة إنتاجه، وهي ادعاءات يُمكن تأكيدها أو نفيها تجريبيا)، لكنها (أي العريضة) تبقى دلالة على زيادة الوعي بعجز هذه المقاربة عن تقريبنا مما يعنيه الوعي، العقل، وكيف يعمل الدماغ.