وما النمو..سوى تبرعم

09 أكتوبر 2022
09 أكتوبر 2022

رغم أننا نعي بأن عملية النمو عملية تلقائية، إلا أنه عند محاولة فهمها على مستوى أعمق يتبيّن لنا أنها ما هي إلا سلسلة من التبرعمات، حتى إن كان ذلك التبرعم غير بادٍ للعيان، فإنه يجري داخلها في أوصالها، فالشكل الموازي للتبرعم هو تنامي طبقات الشجر، أو يكون على شاكلة زيادة التوصيلات والتفرعات، إذ يعمل القديم دوما من أجل الجديد، ليكون هناك على الدوام متسع للبدايات والنهايات، كما أن انفصال الجذع لهو شكل أكبر لذاك التبرعم، وبالتالي فإنه يساعد على نمو أكبر، كما أن الإفسال نمو كيان مستقل، ولولا تحويل مسارات النمو لِتفادي التآكل الذي يأتي بالاحتكاك بما حولك، لما استمرت الحياة من حولك، فمن خلف الصلابة تولد البراعم الغضة، ولو أنها ظلّت على صلابتها لهرِمت، ولن يكون هناك متسع لمزيد من التنوع والأشكال والانحناءات والتفرعات، والتمايزات اللونية للأخضر، حتى بات يصعب علينا الفصل ما بينه وبين بقية الألوان، لنعرف بذلك أن الكون كيان متسق لا انفصال فيه، كلها تسعى نحو صوت من نور وترنيمة من ضوء، والتي تتناغم مع ترنيمة الحياة ككل، فالنمو جزء لا يتجزأ عن الحياة، في حين يرى آخرون أن الحياة بمجملها رحلة نمو كونية، فعملية النمو حتمية للحياة، وبدونها تفتقد صفة الحياة فيكون إما جمادا أو موتا، فهل سيتمكن العلم يوما من تخطي مراحل العمر؟

وعند قياس ذلك على نمو الإنسان داخليا، مستبعدين ذلك النمو الجسدي، نجد أنه في حقيقته ما هو سوى تبرعم متواصل أيضا كذلك التبرعم الأخضر، فتلك الأشياء الجديدة والقيم المضافة والخبرات التراكمية؛ كلها من شأنها أن تعبّر عن عملية النمو الحقيقية الداخلية لدى الإنسان.

إن النظر بعين المراقب إلى أمر النمو الذاتي وملاحظة ظواهره؛ يجعل من الصعب البتّ فيه عند اعتبارك له عملية متكاملة غير قابلة للملاحظة والقياس، سوى بعد وتيرة معينة وانقضاء لسنوات العمر، فبإمكانك الحكم وبملاحظة عابرة لا تتطلب منك جهدا وفيرا؛ تلك التغيرات التي تطرأ على الأشياء المادية من حولك، كنمو المباني وعمليات التشجير التي لا تستهلك الكثير من الوقت، وتغيرات الطقس ومرور السحاب، وكثيرة من التعاملات التي تمر أمامك، فتكون قادرا على تمييز حركتها الإنتقالية.

فيكون من السهل عليك إبداء الحكم حولها، بأنها انتقلت من مرحلة الى أخرى، كإنشقاق البذرة الى تبرعتم أخضر ينمو بإزدهار ليعانق السماء، في حين تظل تغيرات وعمليات النمو الجذرية حقيقية، يصعب عليك مشاهدتها وملاحظتها والحكم عليها على نحو آني، كحركة طبقات الأرض التكتونية، والتفاف التكتلات الصخرية حول بعضها مكونة الجبال وهجرة المناخ وغيرها من أشكال التحولات العظيمة، وغيرها من الثوابت التي كنا نظنها منذ الأزل، الا أنها كانت في حقيقتها هي رحلة نمو داخلية جدا وبطيئة جدا.

ومن تلك التغيرات التي يصعب ملاحظتها على نحو آني؛ عملية النمو الداخلية لدى الإنسان والتغيرات التي تطرأ في أفكاره وقناعاته ورؤيته التي تكون في تغير مستمر إذ يصعب الإمساك به وتثبيته على صورة واحدة وتأطيره مدى الحياة.

وفي حين يصعب علينا المشاهدة المباشرة، والقراءة الآنية لتلك الرحلة من النمو؛ إلا أن عمليات التبرعم تعطينا قراءة مبدئية لرحلة نمو الفرد، فما ذلك النمو سوى عملية تبرعم، وذلك التبرعم هو المادة الخام للنمو.

مبتعدين بذلك عن المعنى الاصطلاحي للنمو الذي يُعنى فقط بالتحولات الجسدية والشكل المادي، فالعقل والجسد كينونة واحدة لا انفصال بينهما، إلا أن اعتبار النمو قابلا للملاحظة، وذلك عبر عمليات التبرعم الجديدة التي يقوم بها الفرد في حياته؛ تعطينا فكرة على آلية النمو وحدّته لدى الفرد، فهي كالتكوّنات النفسية الجديدة، وذلك التبرعم هو في باطنه وعدٌ بالنمو، ويهمس لك مبشّرا بواقع جديد، ولو استمر ذلك التبرعم فإن عملية النمو ستكون مسألة محتومة، وخاصة ما إذا كان ذلك التبرعم أكثر تجذرا.

فنكون قادرين بذلك على استقراء مراحل النمو الداخلية، على نحو يجعلنا قادرين على توقع ما ستؤول عليه كينونة الفرد بعد عدد من السنوات.

ولمزيد من الشخصنة وبعيدا عن الحكم على الآخرين؛ فإن المزيد من التحديد والملاحظة الدقيقة لعملية النمو في حقيقتها، يعطيك لمحة وفكرة واضحة لا غبار عليها، كيف تتم عملية لتكون قادرا على تحقيقها على نحو يسير بدون تعميمات، قد تنحرف بك عن مسار الحقيقة الصحيح.

نعم..فما عملية النمو في جوهرها سوى عملية تبرعم، وإضافات جديدة لحياتك تساعدك على أن تنمو بحيوية، فيكون تقدمك بالعمر ليس فقط عبورا لرحلة العمر على نحو تلقائي، بل إرادتك تتحكم في مسار ذلك النمو لتكون رحلة نمو وليس رحلة تتناقص في أيام وسنين العمر.

النمو ينطوي على التجارب الجديدة والإضافات المتجددة، التي تعزز قناعة اللامطلق وأن "العالم الفسيح هو أنت"، كما عبّر عنه ديباك شوبرا، وأن يكون لعملية النمو مصدر خالد لا يبلى، للذهاب أبعد ما يعبّر عنه النمو في جوهره، وليس محض تجارب بالية تقودك إلى اجترار سنين حياتك، بل تكون برصانة تتخطى فيها السنوات بروح حية قوية تزداد حيوية وإشراقا، بل إن الحياة في جوهرها ماهي إلا عملية نمو متتابعة، حيث أن الروتين والعادة والجنوح لمنطقة الأمان كعدوّ لدود لذلك النمو، وما ورد في كتاب تاو تي تشينغ، ونقله لنا ديباك شوبرا: " كل ما هو مرن متدفق سيكبر ويزدهر، أما ما هو جامد ومسدود سيذوي ويموت".

فتلك الإضافات الجديدة وإن كانت غير بادية على نحو مادي، لكنها إضافات أنت تعرفها جيدا، وبوعي تام بعملية حدوثها ما هي إلا تبرعمات تشعّ حيوية، تقودك نحو النمو الحقيقي بطريقة أكثر نظارة، وتوصلك إلى الغايات القصوى من الحياة ورفاهة الروح.

فلا يمكن تحقيق النمو بشكل كلّي وسريع بدون تلك التبرعمات، سواء أأدركت ذلك أم غابت الفكرة تلك عن وعيك وقناعاتك، إلا أن التبرعم على ما يبدو سيكون مستمرا، لتعرف بذلك أن تحكمك بتلك التبرعمات والإضافات؛ جديرة بأن تكون طوع إرادتك وفق إدراك كلّي منك، ولتكون تلك التبرعمات أكثر من كونها إضافات تلقائية تعثرت بها مصادفة، في خط سير الحياة بل تكون تجارب جديدة، بنزعة متّقدة نحو حياة أكثر صحة وإشراقا، وبتناغم تام مع احتياجات النفس الحقيقية.

فكيمياء الجسد هي من تعطي الأوامر للتبرعم، وهي تستمد تلك الإشارات من العقل، عبر برمجة واعية لموجات دماغك، مبتعدا عن تلك التلقائية العتيقة التي عفا عليها الزمن.

فالنمو السليم بحاجة إلى الوعي والانتباه، رغم أنه لوهلة يبدو لك أن النمو يتم بطابع مادي لا حكم لك عليه، إلا أن مرونة أدمغتنا لا تعرف حدا فهي قادرة على تحقيق الغابات السرمدية، وخلق افتراضات برؤية دقيقة.

لتكون بذلك مراحلك العمرية تعبّر عن ذاتها بوجهها الإيجابي الحقيقي الذي جُبلت عليه، لتأخذ من الحياة بهجتها وتكون دائما قادرا على الوقوف على تلك الزاوية النيّرة، فأنت كذلك الجلد الذي يبدّل نفسه مرة كل شهر، ففي حين تبدو الأشياء ثابتة للعين المجردة، إلا أنها تتم على نحو داخلي بعملية نمو دقيقة.

من هذا المنظور وبعودة تأملية إلى قوانين السبب والنتيجة، نجد أن النمو لا يمكن تحديده بأبعاد مجسدة، بل إنها عملية لا تخوم لها، قادرة على تخطّي الحدود المألوفة، وإن حصر النمو في المعنى الجسدي، فإنه بذلك سيتوقف مما يؤدي إلى تدهور حالة الجسد تلقائيا، لكن النمو يشمل كذلك الجانب النفسي الداخلي لخبرات الفرد وأفكاره وهويته، لتقوده بذلك إلى عملية نمو لا حدود لها، تستنهض قوى الجسد وتتخطى شيخوخته وكهولته.

حتى في تلك المراحل الأكثر كهولة، فإنك ستكون قادرا على عيشها وقضائها بطريقة تعبّر عن النمو الحقيقي للإنسان، وليس كمرحلة تقهقر يصعب عليك أن تعدّها من مراحل العمر الحيوية، بحيث يصعب فيها الشعور بالعرفان والتوقد تجاه الحياة.

وبقراءة استقرائية للوجود والواقع المعاش الراهن، ترى أن النمو الجسدي تصاحبه أحيانا هشاشة داخلية، فيصبح الفرد مع تقدمه في العمر أكثر ضعفا من الداخل، كمصير محتوم كلما زادت سنوات حياتك.

كي نخلق تجربة جديدة نحو نمو خلاّق، فنحن بحاجة إلى تركيز أكثر على ذلك التبرعم، والخروج به عن حدود التكيف الجمعي، ومحاولة الفكاك من الافتراضات القديمة التي تتعامل مع النمو كناحية جسدية، يتوقف خلال مرحلة عمرية محددة بعين المراقب.

والتركيز على ذلك التبرعم كونه كينونة مكتملة بذاتها، تتنامى فوق بعضها البعض لتحقيق النمو المتكامل للفرد بكليته، بجوانبه الثلاث النفسية والجسدية والعقلية، وتكون تلك التجارب الجديدة، أو كما أسميناها سابقا بالإضافات أو كونها عملية تبرعم تقود إلى عملية النمو الحتمي، تكون متلائمة مع خط مسار ذلك النمو الذي يسير ببطء وثقة، وكأن نورا سماويا يناديه من الأعلى، لتفتح لك الحياة أذرعها مرحبةً بك في رحلة مساراتك التي تجتازها في رحلة نموك.

وكما تحتاج بعض العينات النادرة من النباتات إلى تدخلات ذات خواص علاجية، مدعومة بتطور علوم النبات والاستزراع، فإن ذلك الإنسان بحاجة إلى مختلف العلوم، التي تساعده على رحلة نموه على نحو يطيل من فترة بقاء توهجه، في حين يتعذر التحكم في فترة بقائه على قيد الحياة.