هل أراد علي الرودي أن يعيد طه حسين؟
"طه حسين حين يبدأ أقواله بكلمة " أكاد أعتقد" وغيرها إنما هو أقرب إلى الأسلوب العلمي الحديث من خصومه الرقعاء الذين يأتون بالرأي القاطع المطلق، ولا يحبون أن يشككو فيه"
د. علي الوردي. "أسطورة الأدب الرفيع"
في المقالة الخامسة والعشرين التي حملت عنوان " الجاحظ و أبو حيان" يكتب علي الوردي في كتابه " أسطورة الأدب الرفيع": " يتميزان باطلاعهما على أسرار اللغة وأسرار الحياة" ثم يضيف في موقع آخر من المقالة الطويلة عنهما: " ويشبه أبو حيان الجاحظ كذلك بأسلوبه الواضح البسيط. فالقارئ يحس بحرارة المعنى فيه ويتجاوب معه دون أن يعيقه عائق من حذلقة الألفاظ". ويضيف "إذا كان الجاحظ قرأ الكتب حتى أغلق على نفسه الدكاكين في الليالي، فأبي حيان كان ينسخ الكتب"، و يقول أيضا " أنهما يكتبان في أي موضوع يشاءان". وفي موضع آخر سماهما ب" كتاب المعنى " حيث "وضوح الفكرة أهم من سلامة اللغة".
ترك لنا الوردي في كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" أكثر من ثلاثين مقالة متوهجة. كل مقالة في الكتاب تشعل فكرة جديدة. يجادل بالتي هي أحسن أو أسوأ، ولا يترك سؤالا معلقا في قلبه. هناك من اختلف معه ولكن دون أن يفارقه، وكذلك دون أن يمغطه حقه من العلم والموسوعية. في هذا الكتاب بصم علي الوردي رؤيته للتاريخ والعالم وطبيعة تفكيره وفكره، وخزين قراءاته اللامتناهية.
تحدث كثيرا علي الوردي في كتابه وعبر أكثر من مقالة عن ذلك الصراع النحوي (الطوباوي) بين الكوفيين والبصريين الذي عطل سلاسة اللغة العربية وعطل تطورها، وبالتالي أخر إتقانها لدى مختلف الأجيال. فكل مدرسة أرادت أن تثبت صحة منهجها وحاولت من أجل ذلك أن تسلك أوعر الطرق. وقد أطلق عليه الوردي بـ"الجدل العقيم" الذي أدى إلى " عقدة النحو العربي". يقول في هذا السياق:" ومشكلة النحو العربي أنه متعب وغير مفيد في آن واحد، فهو لا يهتم بتركيب الجملة وبترابط المعاني فيها. جل همه منصب على البحث وراء العامل الذي يجعل الجملة منصوبة أو مرفوعة أو مجرورة،إنه بعبارة أخرى لا يهتم بشيء قدر اهتمامه بالإعراب، أي بتحريك أواخر الكلمات. وترى أحدنا يقضي عمره في استقصاء قواعد النحو وفي التمرن عليها، ثم يجد من العسير عليه بعد ذلك أن يتجنب اللحن في كلامه" ويذهب في مقال آخر عاقدا المقارنات بين النحو العربي والنحو في مختلف اللغات الحية: " فاللغة العربية ليست إذن بدعا بين اللغات من حيث وجود الإعراب فيها، إنما هي تختلف عن سائر اللغات بكونها ظلت متمسكة بالإعراب متعصبة له إلى النهاية، بينما أخذت اللغات الأخرى تفقد إعرابها تدريجيا حتى أصبح كثيرا منها الآن خاليا من الإعراب تقريبا".
وفي إحدى مقالاته يكيل التنقيص من ابن العميد والصاحب بن عباد وذلك لأنهما كانا من أسباب انحدار النثر العربي، نظرا لميولهما الشديد نحو الزخرفة الشكلية" ومن الأقوال التي شاعت في القرن الرابع: إن الكتابة بدأت بعبد الحميد وختمت بابن العميد" وهذا القول صحيح إذا أخذنا بنظر الاعتبار كتابة الزركشة والإسراف اللفظي، وهي الكتابة التي راجت في القرن الرابع رواجا عجيبا".
ويقول في موضع آخر:" وفي القرن الرابع ظهر ابن العميد الذي لقب بـ" الجاحظ الثاني" وهذا اللقب لا يمت إلى الواقع بصلة، إنما هو يصور لنا الهوة العميقة التي انحدر إليها النثر العربي، ويشير إلى أن الناس فهموا الجاحظ فهما مغلوطا".
لا شك إن رأي الوردي لا يخلو من استثارة، وهذا ما جعل مجموعة من الردود تنهال عليه في العراق وخارجها، وفي ذلك فائدة علمية، حيث أننا من خلال الجدل الخلاق استطعنا أن نقف على أمثلة كثيرة غابت عن الوردي وهو يدبج مقالاته النقدية التي لا يخلو بعضها من الحدة، كما فعل الدكتور عبد الرزاق محي الدين الذي رد على علي الوردي حين كتب إن سبب مخاطبة المحب بالمذكر في كثير من القصائد العربية هو شيوع الشذوذ الجنسي بين العرب، فكان رد عبد الرزاق إن سبب ذلك ليس شيوع هذا الشذوذ إنما تقليدا للمتصوفة اللذين يذهبون في قصائدهم إلى مخاطبة المذكر بدل المؤنث.
كما يرى الوردي إن شيوع الشذوذ كان بسبب انتشار ظاهرة الحجاب في العصور المتأخرة في الإسلام وخاصة في ظل الهيمنة العثمانية. لا شك إن الوردي في مقالاته ينم عن قارئ خطير، ولكن ربما ارتباك منهجه في بعض المقالات يجعل منه صيدا سهلا للردود. ولكن الغريب أنه في كثير من المقالات يأتي بهذه الردود التي قيلت ضد مقالاته ويبرزها، ربما لأن معظمها كتب بصيغة تحترم قدره دون أن تنقص من علمه، ولا تناقش إلا فكرة معينة من أفكاره، ولن نستغرب إن رأينا أول مقالات هذا الكتاب قد خصصها لنشر مقالات لأبرز خصومه وهو الدكتور محي الدين، الذي يقول في مقالته الأولى" يثير الدكتور الفاضل علي الوردي بين آونة و أخرى مشاكل أدبية مختلفة ينشرها في الصحف المحلية أو يستطرد لها أثناء مؤلفاته في الاجتماع، وليس من شك أن له فضلا كبيرا في هذه الإثارة التي دفعت بجمهور من الناس إلى القراءة وحملت شطرا كبيرا منهم على إعادة النظر فيما رسخ في ذهنه من عقائد، وفيما ألفه من عادات ومصطلحات، وساقت عددا غير قليل من الكتاب والمؤلفين إلى مراجعته ومنازلته في ميادين الصحف والمجلات".
