مائة عام من الخيال
قبل شهر من الآن شاهدتُ الحلقة الأولى التي أنتجتها نتفلكس عن مائة عام من العزلة، ثم عزمتُ على إعادة قراءة الرواية التي قرأتها قبل سنوات. رغم أنني لستُ من النوع الذي ينفر من الأدب الشائع والذي يروج بصورة لا يمكن أن تكون طبيعية في عالم اليوم الذي كثيرا ما يزدري الأدب، إلا أنني لا أتذكر إعجابي بها، بدا كما لو أنني قرأتها قبل عقود، وأنها راسخة في تماثلها الذي أحسستُ به آنذاك مع الحرافيش لنجيب محفوظ، حتى أنني كتبتُ عن روايات الأجيال في جريدة الرياض، قارئة التقاطع بين الروايتين.
على العكس من ذلك تذكرتُ دوما رواية الحب في زمن الكوليرا، ورواية موت معلن، خصوصا هذه الأخيرة التي قرأتها لاهثة، متعجبة من قدرة ماركيز على أن يراهن على بداية العمل من نهايته، مخبرا إيانا ما سيحدث، ضاربا بعرض الحائط الحبكة التقليدية التي يتوق لها القارئ بحثا عن خاتمة القصة ووصولها الى أقصى ما يمكن أن تصل اليه. كما أتذكر وبكل تأكيد رواية غانياتي الحزينات التي قرأتها وأنا أبكي عام 2015 ودفعتني كالمستجير من الرمضاء بالنار لرواية «الجميلات النائمات» لـ ياسوناري كاواباتا الروائي الياباني الذي كتبَ ماركيز روايته على إثرها. وقارنت بينهما، في الحقيقة أنني شُغلت بهما لبعض الوقت، حتى أنني كتبتُ مطولة عنهما في ملحق شرفات الثقافي الذي يصدر عن جريدة عمان في ذلك الوقت.
أما آخر عمل قرأته لماركيز فكان خبر اختطاف، الذي يبرهن فيه ماركيز على قدرته كصفحي أن يكون أديبا، يا للجنون!
عودة لمائة عام من العزلة، لا أستطيع أن أتخيل رغم قراءتي للأدب بهوس منقطع النظير، وتعرفي على آداب من كل أصقاع العالم، أنني قرأتُ شيئا بهذه العبقرية، يصيبني الحزن وأنا أصفها بذلك، إذ تبدو أقرب «لصنعة» منها الى طبيعتها، اذ أنني لا أقدرُ على وصفها بالعمل المتقن، كأن عناصر محددة جعلتها ما هي عليه، على العكس من ذلك، إنها من الطبيعة الخالصة، إنها طبيعية؟ هل هذا وصف جيد أو صائب؟ هل يمكن أن نطلق صفة كهذه على عمل أدبي؟ لا أعرف لا يهمني، إنها عمل خارق.
يلقننا العمل درسا لا يمكن نسيانه وهو قدرة المخيلة، يا إلهي هل يمكن للخيال أن يصل لتلك الأماكن القصية، ملتقطا لا الصورة العام، لا الخيوط السردية الناظمة والبعيدة بين «أحداث» الرواية، بل لامسا أصغر التفاصيل في كل عالم صغير داخل ذلك العالم الكبير، فكل شخصية، كل خط سردي يذهب لمدى بعيد، إنه يتخيل ولا يتوقف عن التخيل، ليس في مجرد القص، بل في تأثيث كل قصة بما يلزمها، وبما يخصها، إن تعاقب الأجيال على قرية ماكوندو يظهر في عمل ملحمي، يشبه نشيدا طويلا، نشيدا يتميز بايقاعات عديدة، مراقبا ذلك العالم ليس في بعدين، بل في أبعاد ثلاثية، أبعاد لم تسمى بعد، أبعاد متطاولة وبعيدة ولا يمكن كبح جماحها.
جرت العادة بوصف أعمال ماركيز ولاتينيين آخرين بـ «الواقعية السحرية» الآن يزعجني هذا الوصف، اذ أنه يحاصر ما لا يمكن محاصرته في اسم ضيق، إنه بالضبط ما حدث في الرواية عندما أصاب القرية داء الأرق، ورغم أنهم سعدوا بذلك لزيادة الوقت الذي سينتجون فيه، سيعملون، سيتواصلون، سيتعرفون أكثر على قريتهم وبعضهم البعض، إلا أنهم وبعد وقت قليل سيبدأون بالنسيان كعرض لذلك المرض، ثم سيقررون تسمية كل شيء، طاولة، هذا الممر لا يمكن أن تمشي فيه، تلك الشجرة عمرها كذا، هذا الإناء للطبخ، هكذا حتى ينسون أنفسهم، فيتقاتلون، المرأة تتهم زوجها بالاغتصاب فهي لا تعرفه، هذا بالضبط ما تفعله لغةٌ كهذه التي اعتمدناها لقراءة مائة عام من العزلة. فبتلك التسمية، تركناها في ضآلةٍ ما، خائفين ربما من عظمتها التي لا يمكن تصورها.
بالمثل وصف الأدب الروسي مع ديستوفيسكي خصوصا بأنه يكشف النفس البشرية، لا أعرف لما نعتمد لغة واحدة لأعمال جاءت تحديدا لتتجاوز اللغة، أو لتفجرها، لتصنع واحدة جديدة من المسكوت عنه، مما يُعجزنا. للأسف بعد قراءة العمل وكعادتي شغلتُ اليوتيوب على مراجعات العمل بينما أعمل في البيت، لم تتجاوز القراءات هذين الوصفين إما واقعي سحري، أو يكشف الحياة والنفس البشرية، لكنها ليست عن هذا أو ذاك، إنها رواية «حُلمية» الشخصيات كلها مسرنمة، إنها رواية أحلام بامتياز، رواية الحنين لشيء بعيد وحتى عند الوصول اليه، يتوالد الحلم، يتوالد الخيال، مقتنصا أولئك المسرنمين رغما عنهم نحو خلاص لن يتحقق، نحو الله، نحو المطلق، المطلق الذي لا يمكن الوصول إليه.
كم نحن بحاجة في هذا الوقت للإيمان بالسحر بأن شيئا ما يتجاوز حدود العالم الذي نعيش فيه، هذا العالم العنيف الذي تُمزق فيه الأجساد على الهواء مباشرة، تُحرق وتتبخر، العالم الذي يحتاج لروح جديدة، للإيمان بأن ما يحدث ليس حتميا، وأن الإنسان يستطيع أن يصل بأصابعه وحدها نحو اللاممكن الذي يبدو لا ممكنا الآن. عندما كنتُ أتابع سفية مادلين التي خرج فيها ناشطون لكسر حصار غزة، بقيادة شخصيات مشهورة قررت أن تضحي بنفسها وبامتيازاتها من أجل ما يبدو خياليا بالنسبة لنا، شعرتُ بأن ما يحدث هو ابنةٌ صغيرة لمائة عام من العزلة لماركيز، لعالم آخر في البعيد، ربما يكون معلقا في الهواء ويحتاج للكثير من ماركيز ليصبح فينا أو لنصبح فيه.