الحلم والجسد في فيلم عبد الله حبيب

18 أكتوبر 2022
18 أكتوبر 2022

قُدم يوم أمس (18 من أكتوبر) العرض الجماهيري الأول لفيلم الكاتب والسينمائي عبدالله حبيب «أصابع: فيلم شخصي» في فعالية فنية نظمها بيت الزبير. ويُعد هذا الفيلم الأحدث بعد أفلامه السينمائية القصيرة: «شاعر»، و«حلم»، و«رؤيا»، و«تمثال»، و«هذا ليس غليونا» (16 ملم، أبيض وأسود)، الولايات المتحدة، 1989. وقد كَتبتُ هذه المراجعة الانطباعية التي قدمتها بصفتي مديرة الحوار مع كاتب هذا الفيلم ومخرجه.

يظهر صانع هذا العمل مرتبكا إزاء الوجود في هذا العالم، فمن يتوسل بالضبط، لكي يعيش هذه الحياة؟ وحتى في اختياره الأيدي لتمثل دور البطولة في هذا العمل فهو يكرسها داخل «الفيلم». يكتب المؤرخ الفني الفرنسي «هنري فوسيون» (1881-1943) في كتابه «أسرار العمل الفني»: «إن عمل اليد هو الذي يحدد تجويف الفراغ وسعة الأشياء التي تملؤه. فالسطح والحجم والكثافة والوزن ليست ظواهر بصرية. لقد عرفها الإنسان لأول مرة بين أصابعه. وفي باطن كفه. فالإنسان لا يقيس الفراغ بعينيه، بل بيديه وقدميه. إن إحساس اللمس يملأ الطبيعة بقوى غامضة. فبدونه تبدو الطبيعة مثل المناظر اللطيفة التي تعرضها آلة العرض: طيفية وسطحية وخيالية». وبهذا فإنه لا يستطيع تجسيد حاسة اللمس في الفيلم، إلا إذا تبع طريقة السينما الخاصة، في كونها ذلك التركيب الذي يبتعد عن الأدب في منطقه ومعالجته. خالقًا نوعًا من الحدس الخاص، ومتفقا مع ما ذهب إليه روبير بيرسون حينما قال: «احترم الطبيعة البشرية من دون تمني أن تكون ملموسة أكثر مما هي عليه». وبهذا فإن ما يبدو قَطعا، وتمويها، ومحاولة للعب، والتجريب، هو الوصل في السينما وفي هذا العمل.

ويتمثل هذا السؤال/اللغز حول الحلم والمادة، بين المخيلة والواقع، أكثر ما يتمثل في حوار الأيدي وفي الوقت نفسه، ألا وسيلة قادرة على التعبير بالفعل عن الموقف الوجودي إذ يقتبس عبدالله في الفيلم عن بريسون قوله: «معضلة هي أن تجعل ما ترى يُرى بواسطة ماكنة لا تراه كما تراه أنت» إنه عجز اللغة الذي يتم تفكيكه عبر اليدين مصداقًا لقول فوسيون: «في الاستخدام اليومي، منحت حركات اليدين الحماسة للغة. وساعدت في توضيحها، وفصل عناصرها، وعزلها عن التشابهات الصوتية الشاسعة، وساعدت على منح اللغة إيقاعا، بل وحتى صبغها بتصرفات دقيقة» وما يقوله أيضًا: إن «ما يميز الحلم عن الواقع هو أن الحالم لا يستطيع أن يصنع فنا؛ لأن يديه نائمتان». فيستمر هذا العمل في استدعاء النقاط اللامعة والمضيئة حتى وإن كانت مؤلمة رغبة في إكمال الكلام، والحق في امتلاكه، مع الإقرار بصعوبة ذلك، فهنالك الشيبة العود كما يسمي عبدالله حبيب (كارل ماركس)، وطفولة عبدالله، ومجز الصغرى، والصديق أحمد راشد ثاني ومقطع الشاعر راشد الخضر الذي طار وشل السمر كله الذي ارتبط بصديق عبدالله الشاعر أحمد راشد ثاني، وملابس السجن، ورموز أخرى تتدفق بينما تتشابك أصابع الحبيبين وتنفصل.

ويظهر الجسد في الفيلم، بين مشاهد تشابك الأيدي تلك، في أكثر من صورة، إذ يظهرُ مشوها كما في حالة المخرج الإيطالي الذي شوه من اغتالوه وجهه تماما (سحقته)، واليد المقبوضة بينما اللسان يُجزُ جزًا، اعتراضًا على أمنية الحبيبة صاحبة يد البطولة في فيلم عبدالله حبيب لزيارة إيطاليا. لكن أكثر تمظهرات الجسد التي تثير مسألة إشكاليته في هذا العالم، والإحساس بحضوره وثقله ووظيفته التي يقوم بها، قد عبرَ عنها عبدالله حبيب عندما يُظهر نصفه الأعلى عاريا.

فما الذي يريد عبدالله حبيب قوله عندما يقف عاريا أمام الكاميرا. متحدثًا إليها بصورة مباشرة؟ غير أنه يحاول لمس الحقيقة، أو الرغبة الصادقة في تجسيدها، عندما يُنظرُ للحم كما هو، أمام مشهد لحريق «بيت ألكسندر» يُعرضُ من خلف جسده العاري على شاشة التلفزيون.

بحسب الكاتب في تاريخ الفلسفة نايجل واربورتون سعى الفنانون والمصلحون الاجتماعيون في أواخر القرن التاسع عشر تحديدا لاستخدام العري كبديل معادٍ للمدن الصناعية وكطريقة لتعزيز أسلوب حياة أكثر طبيعية وأصالة.

إنه محاولة لرد القمع إذن، رد السيطرة على الأجساد، فبعد أن كانت الثورة في وقت ما، تعني العري من أجل النظر لأجساد الآخرين بطريقة غير مبالية، يُعلن عبدالله من خلال فيلمه /سيرته الذاتية هذه، أنه سأم من اللامبالاة هذه.

يكتب علي آيت أوشن «الجسد ليس معطى طبيعي فقط، وإنما هو نتاج تاريخي وثقافي وأيدلوجي». إنه بالفعل حضور عبدالله حبيب في قصته الشخصية، ثائرا ومفكرا وشاعرا وفنانا متأملا في روحه عبر ما يعكسه هذا العالم من اضطرابات وحروب وأفكار وحوادث تعصف بـ(بعدين جا صدام، بعدين جو الأمريكان، بعدين جت داعش بعدين من بيجي؟ من الفيلم: دق :13:40).

بحسب أوشن «الجسد المعاصر عبارة عن شبكة من العلاقات والإشارات الوظيفية» «فمعناه أن هذا الجسد يرغب في الانفتاح والانعتاق والعودة إلى بدائيته، ويرفض الانغلاق ليصبح العري ليس عريًا مجانيًا مبنيًا على التظاهر، بقدر ما هو عري يجسد الأصل والنهاية ويكشف عن الحقيقة» وفي لحظة الكشف الجارحة هذه، أي موضوع تُرى يتواءم وجدلية السينما والتعبير؟ إنه البيت. فعبد الله يحدثنا عن إعجابه برؤية محمود درويش لمفردة «البيت» في شكل الشعر العربي، واتصاله غير المنفصل عن ذلك البيت الذي يحترق خلفه في الشاشة، وإقراره بعدم معرفته عما يحدث بين هذا وذاك. ولنتأمل الصراع مع فكرة البيت، التي لا تتجسد فحسب في الأحلام الرابضة بين الشعر والسينما، بين الرغبة في مواجهة الحقيقة واللبنة الأولى للوجود متمثلة في الجسد، فالبيتُ يلحُ كثيرًا في الرحلة التي يقطعها هذا الارتباك المستمر طيلة الفيلم، لعل أكثر تجسيداته مباشرة سؤال الحبيبة: متى تبني بيت؟ وجواب الحبيب عليها: «باغي أسوي فيلم». ثم عودة السؤال: «متى تموت؟ وجوابه: بعد ما أعمل فيلم». يبدو أن لا بيت للفنان في النهاية غير فنه.

وإن في استدعاء فيلم بارادجانوف «لون الرمان» كما كل الشواهد الأخرى في الفيلم، شاهدا يؤكد على وعي الفنان الذي يقف وراء هذا العمل، وعيه الذي سبق وأن تشكل وحدد موقفًا رغم ارتباك الطرق المؤدية لذلك، فهو كما نعرف عنه يكره الحياد ويعتبره غير أخلاقي. فيلم لون الرمان الذي حل على مخرجه سخط السلطة بسببه، وغير عنوانه من «سايات نوفا» إلى «لون الرمان» وعرض على نطاق ضيق للغاية يؤكد عبدالله على أنه الشعر في فيلمه (أصابع: فيلم شخصي) الأمر الذي يجعلنا نؤمن بلا شك بتجسيد عبدالله حبيب لرؤية بارادجانوف في أن الإخراج هو «الحقيقة وقد تحولت إلى صور وحزن وأمل وحب وجمال» وأن المخرج يولد كذلك ولا يتعلم الإخراج «يأخذ المبادرة كطفل ويصنع الغموض».