"النحو العربي"... ذلك الفن الشريف!
إيهاب الملاح
«واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر»..
(الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- متحدثًا إلى أبي الأسود الدؤلي)
(1)
كلما تقدم المرء في العمر، وتراكم لديه بعض خبرةٍ ومعرفةٍ بتفاصيل وأسرار وجماليات لغتنا العربية، أدرك أنه رُزق فعلًا نعمة كبيرة جدًا ومكرمة إنسانية عالية ورفيعة المقام، بأن يكون مفتاح التواصل في هذا العالم ومعه، من خلال هذه اللغة العظيمة "العربية"،
وكلما عدتُ إلى قراءة النحو العربي، وتأملت فلسفة وضعه، وأعدتُ النظر في نشأته وتكوينه وتطوره، تراءى لي هذا البنيان المحكم المتماسك المترابط؛ بكامل هندسيته المنمقة ومعقوليته التي تعود بجذورها إلى "فلسفة" كلية عميقة و"رؤية شاملة للعالم"، وتصور نظري يثير الإعجاب لمفهوم "اللغة" و"التواصل اللغوي" عمومًا.
وربما سيذهل الباحثُ أو المعني بتتبع تاريخ هذا العلم، وتطوره، عبر ما يزيد على الألف سنة من هذه القدرة على الاستقراء والتأمل والاستدلال، وصولا إلى إقامة هذا البنيان الشامخ -الذي طُمر جزء كبير منه للأسف تحت ركام التعليم الرديء والإفساد المتعمد للملكة اللغوية- (وهذا موضوع يستحق حديثًا بل أحاديث مفصلة أخرى)
وكان المرحوم الدكتور شكري عياد؛ صاحب واحد من أبرز وأهم الاجتهادات العلمية في النظر إلى جماليات لغتنا العربية اعتمادًا على فهم وتوظيف إمكانات النحو العربي، وثرائه المدهش في تركيب الجملة والخيارات والبدائل التي يمنحها للتعبير عن المعنى بأدق اختيار تركيبي للجملة بمرونة مدهشة وأساليب متنوعة وطاقات خلاقة، كان يرى النحو العربي قمة ما وصل إليه الفكر العربي والثقافة العربية الإسلامية (بالمعنى الحضاري العام) من هندسة ونظام ومعقولية.. يقول شكري عياد في سيرته الذاتية (العيش على الحافة)، ص 138:
"لم أكن أعلم أن من بين هؤلاء الأساتذة الذين لم أسمع بهم من قبل رجلين سينفعني علمهما أكثر من كل ما تعلمت من غيرهما. سآكل عيشي في الدنيا، وأتقرب إلى الله به في الآخرة: أولهما إبراهيم مصطفى أستاذ النحو الذي غرس في قلبي عشق هذا العلم حتى أصبحت أراه (ولا تعجب لما أقول) قمة الفلسفة العربية، وقمة الفن العربي"..
(2)
وفي مناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يحل يوم 18 ديسمبر من كل عام (اليوم الذي خصصته الأمم المتحدة للاحتفال باللغة العربية، وهو اليوم الذي جرى فيه اعتمادها ضمن اللغات الخمس او الست التي يعتمد الحديث والكتابة بها في المراسلات الرسمية والمخاطبات والمكاتبات للمؤسسة الأممية الدولية).. أحب جدًا التنويه والتذكير بجمال هذه اللغة ومحاسنها، ونظامها البديع ضمن أنظمة اللغات البشرية، وحسن وقعها على الأذن وعذوبة التعبير بها قراءة وكتابة.. وفي القلب من مستوياتها ونَظْمها المكونة لها علم النحو العربي الذي كان أسلافنا القدماء يطلقون عليه "فن النحو" الذي لم يكن يحسنه إلا أجودهم قريحة وصفاء طبع وحسن تأتٍ (تحضر وإعداد وتأهيل).
لا أذكر من قال بالضبط "إنه علم نضج.. ولم يحترق" عكس علوم البلاغة التقليدية التي غرقت في محيط من المنطق والقياس الشكلي والمتون والشروح وشروح الشروح... إلخ. وحينما أستعيد تجربة دراستي "بمفردي" للنحو وإجادتي إياه حبا واستخداما، ثم تجربتي التي أعتز بها وأفخر بها طوال الفترة التي درست فيها هذا "العلم الشريف" بالمصطلح التراثي أقول إن العيب دائمًا كان فيمن يقومون على تدريسه، ولم يكن العيب يومًا في (النحو) كعلم وفن وطريقة تفكير ونظام عقلاني مثير للإعجاب والتقدير بين نظم التراكيب التي اخترعها الإنسان في لغاته ولهجاته..
ومن أجمل وأدق ما قرأت في تقدير هذا العلم الشريف؛ علم النحو العربي؛ باعتباره "إبداعًا" وطريقة نظر وميزانا حساسا لإبداع المعنى والدلالة لا مجرد "قواعد صماء جافة" بلا روح ولا رواء، ما قاله العلامة المرحوم الأستاذ الدكتور مصطفى ناصف:
"فالنحو ليس موضوعاً يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ، أو يرون الصواب رأيًا واحدًا، النحو مشغلة الفنانين والشعراء، والشعراء أو الفنانون هم الذين يهتمون بالنحو، أو هم الذين يبدعون بالنحو، فالنحو إبداع"... ويعلق عليه المرحوم الدكتور محمود الطناحي؛ اللغوي والنحوي والمحقق الراحل الكبير، بقوله:
"نعم النحو إبداع، ولا يعرف هذا إلا من قرأ القرآن الكريم قراءة تبصُّر وإحسان، ثم أطال النظر في كلام العرب: نثرها وشعرها، وصبر نفسه على قراءة الكتب والسير في دروبها، وحمل تكاليف العلم وأعبائه"..
(مقالات العلامة محمود الطناحي؛ الجزء الثاني، فصل النحو والحمى المستباح)
(3)
على مدار سنوات طويلة من معايشة هذا الفن ومدارسته والقرب منه والتعرف إليه والتوغل في تفاصيله وأبوابه وفصوله؛ أكاد أصل إلى ما يشبه الاستقرار على بضع حقائق -من وجهة نظري- ألخصها فيما يلي:
أولا: أومن بأن "النحو العربي" أو "فن النحو" (بالمفهوم التراثي لمعنى العلم) لم نحسن التعامل معه، ولم نطوره كما ينبغي، وكما يليق بقدرات وإمكانات هذا النظام شديد الدقة والإحكام فيما يخص بنية الجملة العربية أو "التركيب" بالمصطلح المعاصر، ولطه حسين آراء شبيهة بهذا، وله دراسة غاية في الأهمية نشرها بالفرنسية عن استخدامات الضمير في القرآن الكريم (ترجمها إلى العربية عبد الرشيد صادق المحمودي، ونشرها في كتابه «طه حسين من الشاطئ الآخر»، كتاب الهلال، يوليو 1997).
ثانيا: أن الرغبة في تطوير اللغة، بما فيها من نحو وصرف، وما يستتبع تلك الرغبة من محاولات لها نصيبها من النجاح والفشل، ليست قسرًا على فرد بذاته أو مؤسسة (أو مؤسسات بعينها)، إن فكرة التطور عمومًا والتطور اللغوي وأنظمته المكونة له هي في النهاية نتاج تطور ثقافة ووعي مستخدمي هذه اللغة. فبقدر إدراكهم ووعيهم لإمكاناتها وطاقاتها سيستطيعون بكل سهولة تطويرها ومنحها الحيوية اللازمة للبقاء والاستمرار، وببساطة شديدة جدا...
ثالثا: أنا عند رأيي ما زلت بأن نجيب محفوظ برهن على أن اللغة العربية، وهو يطوعها من خلال نصوصه المبدعة، يمكن أن تكون لغة روائية وقصصية بل إبداعية بامتياز. إن نصوص نجيب محفوظ قدمت للغة العربية، والثقافة العربية، أهم تجلياتها اللغوية والجمالية منذ القرن الخامس الهجري...
لقد أثبت بالبرهان والدليل والنصوص الثابتة أن اللغة العربية لغة إبداع وجمال ومرنة، وقابلة للتشكل كي تستوعب أشكال التعبير وأساليبه لفن زئبقي مثل الرواية.. أثبت أن اللغة العربية قادرة على التعبير والتشكيل سردا وحوارا وتصويرا عبر كل المستويات.. ترك نصوصه للأساتذة والمشتغلين بدراسات اللغة ومستوياتها لعقود وعقود لاكتشاف أسرارها وقدراتها.. وقس ذلك على كل المبدعين الكبار.. ليست الترجمة فقط ولا علمها المقدر هو الذي يستطيع الكشف أو الفهم أو الإدلاء بدلوه في بحار اللغة ومعضلاتها ومشكلاتها.. أبدا.. ولدينا بالمناسبة في الخمسين سنة الأخيرة بحوث ودراسات تضارع مثيلاتها في أرقى جامعات العالم، في البحث اللغوي المعاصر (قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، ومدرسة اللغويات العريقة بجامعة الإسكندرية على سبيل المثال) تطبيقا وتحليلا علميا ومعرفيا على اللغة العربية..
لكننا كسالى ولا نقرأ بجدية، ومنا من يأخذه الزهو الفارغ والادعاء الكاذب بقدرات متوهمة ومعرفة ضحلة فقيرة للتنظير وادعاء ما لا يحسن.. للأسف الشديد
