No Image
ثقافة

مرفأ قراءة.. حكايات "النباتات" في المتخيل العربي

23 سبتمبر 2023
23 سبتمبر 2023

- 1 -

ما يقرب من ثلاث عشرة جلسة علمية رفيعة القيمة والمستوى شهدها ملتقى الراوي الدولي بالشارقة على مدى ثلاثة أيام (18-20 سبتمبر 2023)، في دورته الثالثة والعشرين. اجتمع ما يزيد على خمسين أستاذًا وباحثًا ومتخصصا في التراث والحكاية والمأثور الشعبي، من كل أنحاء الدنيا، لإلقاء خلاصة بحوثهم وأوراقهم المؤطرة منهجيًّا حول ثيمة لم تكن في بؤرة ضوء الدراسات والبحوث قبل هذا الملتقى فيما أعلم.

احتفى البرنامج الفكري المصاحب للملتقى بالمعارف الشعبية المتنوعة، وحملة الموروثِ الثقافي (خاصة الشفاهي)، وحكاياتِ النباتات وتجلياتها المدهشة في التراث المدون والشفاهي على السواء، من خلال مقاربات جادة وأوراق بحثية رصينة وكتب وإصدارات وافية، سعَت إلى استكشاف كنوز التراث ومكنوناتهِ الزاخرة، ومناقشة موضوعات وقضايا وثيمات وثيقة الصلة بحكايات النباتات في دول الخليج والعالم العربي بل والعالم أجمع، بالإضافةِ إلى العديد من الفعاليات والبرامج والأنشطةِ المتنوعة، التي تؤكد كلها أهميةَ الإسهام في رعاية الرواة من حملة الموروث، والإيمان بقدراتهم وإمكاناتهم، وتعبر عن التقدير والوفاء لما قدموه لأوطانهم وثقافاتهم، وللأجيال الجديدة.

- 2 -

ورغم أن للنباتات والزروع واللون الأخضر حضورًا مركزيا في تاريخ الإنسان وثقافاته، وتطور معارفه وخبراته المتصلة بالكون والفلك والزراعة وفلاحة الأرض والرعي، والاعتقاد والتصورات الشعبية؛ إلا أنه فيما يبدو لم يُلتفت إلى هذا الحضور الكبير والوافر بشكلٍ علمي ومنهجي ومؤطر ثقافيا وفكريا قبل هذه الدورة الثرية الخصبة المتميزة من دورات ملتقى الشارقة الدولي للراوي الذي خصِّص بأكمله لبحث موضوع "حكايات النباتات" أو "مأثور النبات في التراث".

وقد خلق الله النبات آيةً من آياته الكونية العظمى، وفي القرآن الكريم نجد الكثير والكثير من الآيات التي ذُكر فيها النبات أو أحد متعلقاته لتحقيق غايتين اثنتين لفائدة الإنسان، تتصل إحداهما بحياته واستمراره على قيد الحياة بشكل مباشر، والثانية بمعاده أو من خلال ما يسميه الأستاذ القدير سعيد يقطين "التسخير" و"التمثيل".

ومن يراجع تراثنا اللغوي العظيم (كتبه ومعاجمه وقواميسه الزاخرة) وهو أول مصدر وأعظمه وأغناه بالمادة الفولكلورية الخصبة الثرية التي دارت حول "النبات" ومشتقاته وما يتصل به من مستخلصات وعلاجات، ورقى وتمائم ووصفات علاجية.. إلخ، سيجد حضورا تراثيا عظيما في هذا التراث اللغوي الباهر والزاخر سواء في المعاجم والموسوعات اللغوية الضخمة أو كتب الغريب والمفردات التي سعت لجمع المادة اللغوية حول موضوع معين، أو حقل بذاته.

- 3 -

في الجلسة التي انعقدت في اليوم الثاني للملتقى تحت عنوان (حكايات النباتات في المتخيل العربي) جاءت واحدة من أهم الجلسات العلمية التي شهدها ملتقى الراوي، وشارك فيها الأستاذ العالم الجليل الدكتور سعيد يقطين من المغرب، وهو من هو في علمه وتشعب معارفه وذيوع صيته وتاريخه العلمي المشرف، وشارك فيها أيضًا الباحث السعودي المتميز الدكتور سمير الضامر أحد الأصوات البحثية الشابة الواعدة في العالم العربي وصاحب الدراسة القيمة حول «قصص الأنبياء في التراث الشعبي»، كما شارك فيها أيضًا كاتب هذه السطور، وأدار الجلسة الدكتور أحمد بهي الدين أستاذ الأدب الشعبي المساعد بكلية الآداب جامعة حلوان بمصر.

جاء استهلال الدكتور سعيد يقطين بمثابة تأطير للجلسة وموضوعها، وتمهيد لها أيضًا باستعراضه لمحة مركزة عن حضور النبات في التراث العربي عامة، قبل أن ينتقل إلى موضوعه الرئيس وهو استعراض حضور النبات في التراث الشعبي خاصة، ولعل أهمَ ما في هذه الورقة القيمة التي ألقاها الدكتور سعيد يقطين التصنيفُ الذي قدَّمه لحضور النبات في السيرة الشعبية العربية؛ وهو تصنيف ثلاثي يقوم على فصل حضور النبات الطبيعي (في تجليه الحياتي في دورة الحياة الطبيعية، أو في تجليه الجمالي الزاهي بتعدده وتنوعه اللا نهائي) عن النبات الاصطناعي (وتحت هذا التصنيف تعرض لما أسماه "الشجرة ذات الأنوار"، و"الفاكهة المحرمة")، مختتمًا تصنيفه الثلاثي بالإشارة إلى النبات العجائبي ذي الحضور المدهش في السيرة الشعبية (وتحت هذا التصنيف تعرض لما سماه "الشجرة ذات الثمار الآدمية"، و"الشجرة الدواء").

فيما قدم الدكتور سمير الضامر من السعودية ورقة بعنوان "النبات والأشجار في الحكاية الشعبية في المملكة العربية السعودية، سردية الخرافة والأسطورة وبناء المتخيل الشعبي"، وهي ورقة ثرية تعرض فيها لحضور النبات في الموروث الديني ثم في الموروث الشعبي السعودي، واستعرض بعض النصوص الشعبية من أغان وأهازيج وحكايات قصيرة تتصل بالنبات وحضوره ورمزيته ودلالته في التراث الشعبي السعودي، وخاصة الشفاهي.

- 4 -

وقدم كاتب هذه السطور ورقةً عن "مأثور النبات في التراث العربي في المصادر المدونة" ألقى فيها الضوء على بعض الكتابات والمصادر التراثية العربية القديمة التي احتوت على مادة فولكلورية هائلة تتصل بالنبات والأشجار والأعشاب، ولفتت الورقة النظرَ أيضًا إلى المؤلفات التراثية الخاصة التي وصلتنا في دائرة فنون البيزرة والبيطرة والصيدلة والنباتات والعقاقير والعلاج بالأعشاب والتداوي بالبذور إلخ، ومن يراجع فهارس الكتب العربية (كتاب «الفهرست» الشهير لابن النديم، وكتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة) سيجد عشرات الكتب والعناوين التي جمعت مادة فولكلورية وتراثية هائلة في هذه الدائرة.

فما أكثر المؤلفات، في النوعين، الطب المزاجي العلمي، والطب البدوي الشعبي، والتي تتناول الأمراض، والأدوية، والعقاقير والأغذية، ويمكن أن يفيد منها أعظم الفائدة المعنيون بدراسة الطب الشعبي، وطرائق التداوي بالأعشاب والنباتات والزروع والبذور والثمر، كما يفيد منها أيضًا المعنيون بدراسة المعتقدات والعادات الشعبية كالإصابة بالعين، والتفسير الغيبي للأوبئة والطواعين التي تجتاح بعض المناطق دون غيرها.

وعلى سبيل المثال، عرضت الورقة لبعض هذه المؤلفات، ففي مجال كتب العقاقير أو العلاج بالأدوية والأغذية والأعشاب والنباتات، وهي كثيرة جدًّا، وصلنا منها:

«تفسير أسماء الأدوية المفردة» لابن لجلج، وكتاب «أعيان النبات والشجريات الأندلسية» لأبي عبيد البكري، و«الجامع لصفات أشتات النبات» للإدريسي، و«مرادفات الأدوية» لابن ميمون، و«الحاوي في علم التداوي» للشيرازي، و«الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» لابن البيطار، وهو من أهم هذه المصادر وأغناها ويحتوي على مادة فولكلورية هائلة..

وكذلك «شرح أسماء العقار» لابن عمران القرطبي، و«منافع الأدوية ودفع مضارها» للرازي، وهذا الكتاب العظيم «الأغذية» لحنين بن اسحق، و«الداء والدواء» لابن قيم الجوزية، وهذا الكتاب الذي لا يزال مشهورًا في المجتمعات الشعبية العربية كافة باسم تذكرة داود، واسمه بالكامل «تذكرة أولي الألباب، والجامع للعجب العجاب» لداود الأنطاكي... وغيرها.

- 5 -

تخلل عرضَ الأوراقَ جميعا سردٌ جميل وشائقٌ لبعض القصص والحكايات الشعبية التراثية، فضلا على السياحات الممتعة في جنبات التراث العربي المدون منه والشفاهي، العام والخاص، وفي تداخلاته وتقاطعاته بين فروعه ودوائره المعرفية والطبيعية والأدبية واللغوية والتاريخية والجغرافية.. إلخ.

وفُتِح بابُ الأسئلة والمداخلات للحضور، حيث تمت مناقشة عدة مواضيعَ من بينها حضور التراث الديني في الحكايات الشعبية السعودية، والمشتركات التراثية بين الشعوب والثقافات الإنسانية المختلفة. وأظهر النقاش العلمي الثري أهميةَ تأصيل النباتات والطبيعة في الأدب والتراث العربي، وتأثير الثقافة والتراث على السرد الشعبي..

ولعل أهم ما تمخضت عنه هذه الجلسة -فيما يرى كاتب هذه السطور- هو لفت انتباه الأدباء والمبدعين المعاصرين (من كتاب الرواية والقصة والمسرح وأدب الأطفال وغيرها من دوائر الإبداع والكتابة) إلى عظمة وثراء وخصوصية هذا التراث الذي تمحور حول "النبات" وأبدعت المخيلة العربية الوسيطة في ابتكار مادة حكائية وقصصية وثيمات عجائبية وغرائبية كلها تعد منجمًا يمتح منه المبدعون المعاصرون يستلهمونه ويضيفون إليه ويطورونه.