ثقافة

مرفأ قراءة... «تراث قصص الحيوان» في ملتقى الشارقة للراوي

25 سبتمبر 2021
25 سبتمبر 2021

- 1 -

ما من ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم خَلَت من حكايات ومرويات دارت على ألسن الطير والبهائم، واتخذت من هذه الكائنات أقنعة ومجازات للتعبير ولإنطاق ما يُخشى من النطق به، ولتوجيه الرسائل ذات الخطر والتأثير أو للتوجيه الأخلاقي والوعظي أو لبثِّ الفضائل في نفوس الصغار والكبار على السواء.

وكنت وأنا صغير من المفتونين بكليلة ودمنة، منذ أن وقع في يدي هذا الكتاب المصور الذي يزدهي بالألوان، ويضم بضع حكايات مبسطة من «كليلة ودمنة». ولا أنسى حتى الآن ورقها المصقول ورسوماتها الساحرة وعالمها الخيالي المثير، ربما ما زلتُ أحتفظ بهذه النسخة النادرة من «حكايات كليلة ودمنة» المبسطة التي صدرت عن الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، ثمانينيات القرن الماضي. وكانت تلك البذرة التي نمت وكبرت وترعرعت لتجعل من صاحب هذه السطور مهمومًا ومشغولًا بالقراءة الدقيقة والبحث المتصل في تراثنا السردي الزاخر، وفي القلب منه الحكاية الشعبية وقصص الحيوان لتصير بمرور الوقت انشغالًا فكريًّا وثقافيًّا أصيلا من انشغالات كاتب هذه السطور، وتفصح عن نفسها في مقالات ودراسات نشرت في مناسبات متفرقة وإن كان أغلبها نشر في هذه المساحة الأقرب إلى روحي وقلبي «مرفأ قراءة».

- 2 -

بعد غيابٍ دام لسنتين متصلتين بسبب جائحة كورونا؛ استأنف معهد الشارقة للتراث بدولة الإمارات العربية المتحدة، وبرعايةٍ كريمة من سمو الشيخ سلطان القاسمي؛ حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى للاتحاد، نشاطه الثقافي الزاهر والزاخر، بتنظيمه الدورة الواحدة والعشرين من الملتقى الدولي للراوي؛ وكان موضوعه هذا العام (قصص الحيوان).

انطلقت فعاليات النسخة الـ 21 من ملتقى الشارقة الدولي للراوي في 22 سبتمبر لتنقل عشاق التراث ومحبي الحكاية إلى عالمٍ مدهش حافل بالأنشطة والبرامج والفعاليات التي يكون فيها «الراوي» وسط الحدث، حيث يجتمع في الشارقة الحكواتيون والرواة، لينقلونا لعالم الرواة الحافل بالقصص والحكايات. ويلتقي كذلك الباحثون والمتخصصون في التراث على اختلاف مجالاته وحقوله، ليقدموا زبدة وخلاصة أفكارهم ودراساتهم وبحوثهم حول الجوانب المختلفة من هذا التراث؛ جمعًا وتصنيفا، قراءة وتحليلا.

تأتي هذه النسخة من الملتقى تحت شعار «قصص الحيوان»، لتحتفي بالموروث الحكائي العربي والإنساني الغني والزاخر والمتنوّع، لما له من أهمية بالغة في التعبير عن قضايا الإنسان، التي أظهرها من خلال خياله الشعبي، وفنّه الحكائي الذي أجراه وعبّر عنه على لسان الحيوان، ومنطق الطير، وهو ما أثمر مخزونًا من الذخائر المشهورة والكنوز المهجورة، التي يسعى الملتقى للتعرّف إلى جواهرها القيمة ودررها الثمينة.

وخلال جلسات الملتقى البحثية سيتم إلقاء الأضواء الكاشفة؛ التعريفية والتحليلية والمقارنة، على ذخائر التراث السردي العربي؛ التي تناولت قصص الحيوان؛ ومن أشهرها كتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، وكتاب «النمر والثعلب» لسهل بن هارون، ورسالة «تداعي الحيوان والإنسان أمام محكمة الجان» لإخوان الصفا، ورسالة «الصاهل والشاحج» لأبي العلاء المعري، و«حي بن يقظان» لابن طفيل، وخاتمة هذه السلسلة الذهبية من المؤلفات والنصوص الخالدة في تراثنا العربي والإنساني، كتاب «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء» لابن عرب شاه.

- 3 -

وازدهى الملتقى كما العادة في دوراته الأخيرة، بمجموعةٍ ممتازة من الإصدارات الرائعة التي يقدمها قسم المحتوى والنشر بإدارة الدكتور مني بونعامة الباحث الموريتاني الدؤوب صاحب الكتب والمؤلفات المعتبرة في التاريخ الحديث والمعاصر وفي التراث أيضًا. أكثر من 30 عنوانًا متنوعًا من أحداث إصدارات معهد الشارقة للتراث، تسلّط الضوء على شعار الدورة، وما تشتمل عليه من ثراء وتنوّع، وسيتم توقيعها ضمن ركن خاص بتوقيع إصدارات الملتقى.

ويأتي إفراد معهد الشارقة للتراث الدورة الواحدة والعشرين من ملتقى الشارقة الدولي للراوي لقصص الحيوان في التراث العربي؛ اتساقًا مع تلك الجهود وسعيًا إلى إحياء هذا الموروث الحكائي الثقافي العربي الغني والزاخر والمتنوع، لما له من أهمية بالغة في التعبير عن قضايا الإنسان التي أظهرها من خلال مخياله الشعبي، وفنه الحكائي الذي أجراه وعبر عنه على لسان الحيوان، ومنطق الطير، كما يقول الدكتور مِنِّي، في كلمته التصديرية لسلسلة «ذخائر التراث العربي» التي دشنت مع انطلاق فعاليات الملتقى، ويضيف قائلًا:

وقد خصصنا هذه السلسلة اتساقًا مع الأهداف الكبرى للملتقى والتي يتصدرها إحياء ذخائر التراث العربي والإنساني التي اندرست معالمها، وانمحت آثارها، بفعل انصراف الناس عنها، نظرًا لطول متنها وقوة لغتها رغم ما تنطوي عليه من إمتاع وجمال، ولذلك انتخبنا مجموعة من الذخائر المشهورة، والكنوز المهجورة لتقريبها من القارئ الكريم، ووضعها بين يديه، حتى يسهل عليه الاطلاع عليها، والتعرف إلى جواهرها القيمة، ودررها الثمينة.

- 4 -

وتأتي مشاركة كاتب هذه السطور المتواضعة في النشاط العلمي والبحثي للملتقى ببحث عنوانه «تناولات قصص الحيوان في التراث العربي»؛ التي تحولت من ورقة علمية تقع في عشرين صفحة إلى كتاب كامل يقع في ما يقرب من 300 صفحة! صدر بالتزامن مع انطلاق الملتقى وفعالياته الزاخرة.

فصول كتبت في محبة «الحكاية الشعبية»؛ أحد أجمل وأمتع وأشهى ألوان القراءة في موروثنا الشعبي الزاخر. ومن بين أنواع الحكاية الشعبية، تتألق «حكايات الحيوان» و«قصص الحيوان» كالفرائد في قلائد الدرر.

ويعرض الكتاب نماذج من تناولات الباحثين والدارسين ممن ينتمون إلى أجيال مختلفة وتيارات فكرية ونقدية متباينة لقصص الحيوان في التراث، وكيف تناول كل واحد منهم، وفق منظوره ومدخله المنهجي، لحكاية الحيوان أو قصص الحيوان في إطار البحث عن تطور أشكال النثر الأدبي المعاصر، على سبيل المثال، أو في إطار التأسيس للدرس العلمي المنهجي للأدب الشعبي و«الحكاية الشعبية»، أو الوقوف عند حد المعالجة النصية التحليلية لواحد من نصوصه أو أكثر، فضلا عن الذين اتخذوا المدخل المقارن لبحث قصص الحيوان العربية بنظائرها في التراث العالمي والإنساني.

ويختتم الكتاب بملحق مختارات ونماذج، وهو الباب الثاني منه، يضم عينات من المادة الحكائية الهائلة التي تضمنها تراثنا السردي؛ تنوعت بين نماذج من كليلة ودمنة وجزء من رسالة إخوان الصفا التي تتضمن محاكمة الحيوان للإنسان أمام الجان، وجزء من نص ابن شهيد الأندلسي الشهير «التوابع والزوابع»، ونماذج أخرى متفرقة، واختتمت هذه المختارات بعشرة نصوص شعرية قصصية من ديوان (الحكايات) لأمير الشعراء أحمد شوقي، أدارها على ألسن الطير والبهائم محتذيًا فيها أثر «لافونتين وحكاياته» أو «خرافاته» التي كان لها من الذيوع والانتشار ما هو معلوم ومشهور.

- 5 -

إن أجمل ما في الملتقى هذه الروح الإنسانية الصافية التي تغمر الجميع، فلا يهم من أنت أو من أين أو ما جنسيتك أو لغتك.. المهم ماذا ستقدم من إبداع وفكر ومشاركة فعالة كي تسعد الناس وتمتعهم، وتتواصل معهم بلغةٍ إنسانية واحدة يفهمها الجميع دون استثناء؛ هي لغة الفن والإبداع والابتسامة التي يتصافح بها الضيوف في أرجاء ومساحات (الشارقة إكسبو) المخصصة لاستضافة فعاليات الملتقى، وبين قاعاته وساحاته الخارجية..

الندوات العلمية تجمع في جلساتها نخبة من أميز وأرقى الباحثين المتخصصين في «التراث الشعبي»، و«الحكايات الشعبية»، و«قصص الحيوان».. الاستماع إلى باحثٍ كبير بقيمة سعيد يقطين من المغرب أو فاطمة الزهراء صالح أو عبد الرحمن غانمي من المغرب كذلك أو لباحثٍ جاد ودؤوب وأستاذ قدير وصاحب مشروع حقيقي؛ مثل الدكتور صلاح الراوي أستاذ الأدب الشعبي والفنون الشعبية بأكاديمية الفنون بمصر، وكذلك الدكتور مصطفى جاد عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بالأكاديمية.

أقول: إن الاستماع إلى كل هؤلاء متعة خالصة فضلًا على العمق والابتكار في طرح أوراقهم البحثية وطروحاتهم وفرضياتهم المنهجية التي تغطي كل جوانب الحكايات الشعبية وقصص الحيوان في التراث العربي وموازياتها في التراث العالمي كذلك من نصوص وأشعار لعل أشهرها خرافات إيسوب وخرافات لافونتين التي تأثر بها أمير الشعراء أحمد شوقي ونسج على منوالها حكاياته الشهيرة للأطفال في الجزء الرابع من ديوانه أو ما عرف بـ «ديوان شوقي للناشئة والأطفال».