No Image
ثقافة

مرفأ قراءة .. الشيخ حسن العطار ومظاهر التجديد الثقافي

06 أبريل 2024
06 أبريل 2024

(1)

ونختتم هذه السلسلة من المقالات عن عصر (الإحياء العربي) أو كما أسميناه بواكير (عصر النهضة العربية) -بختام الشهر المبارك- والتي عرضنا من خلالها لأبرز شخصيتين وَسَما هذا العصر بطابعه، وهما الشيخ مرتضى الزبيدي (1732-1791)، والشيخ حسن العطار (1766-1835)،

أقول نختتم هذه السلسلة بعرضٍ موجز لأبرز مظاهر «التجديد» الفكري والثقافي واللغوي في حياة الشيخ حسن العطار، والتي امتدت واتسعت من بعده على يد تلامذته في القرن التاسع عشر بأكمله، وأبرزهم وأشهرهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رائد الفكر العربي الحديث بغير منازع.

ويمكن تلخيص جوانب «التجديد» في حياة الشيخ حسن العطار، وفي مشروعه الفكري والثقافي، في:

الثورة على الجمود والدعوة إلى «التجديد»، التجديد في التعليم العام والثقافة، التجديد في الأدب واللغة والكتابة الفنية، وأخيرا في بذر بذور مدرسة التجديد (تلاميذ الشيخ العطار).

(2)

كان الشيخ العطار من الرَّواد الأوائل الذين اتجهوا نحو إصلاح التعليم في الأزهر بشكلٍ جذري، وقد وضع بذرة الإصلاح الثقافي ليس في الأزهر وحده بل في مصر كلها، لتتعهدها الأجيال بالرعاية من بعده حتى تؤتي ثمارها، وكانت جملة إصلاحاته تتجه نحو إصلاح الفكر، في المقام الأول، وذلك لاقتناعه بأنه بدون إصلاح الفكر فلن يكون هناك أمل في التقدم..

وكان مما يؤرق بال الشيخ العطار ما كان يراه من تخلف فكري، وركود عقلي في أوساط العلماء الذين وقفوا مقلدين غير مجددين، ومن أجل ذلك نجده في تلك الفترة يدعو إلى تغيير هذه العقلية تغييرًا تاما، وتهيئة الأذهان إلى قبول الأفكار الجديدة والمعارف الجديدة، حتى تكون قادرة على النهوض من حضيض التخلف الذي تعاني منه الأمة في شتى الميادين. وعلى ذلك، فقد قاد الشيخ حسن العطار العقل الجمعي ليس في الجامع الأزهر وحده، ولكن في مصر كلها والعالم العربي والإسلامي كله نحو «النهوض».

وهكذا، فقد جعل الشيخ ينبه الأزهريين -في عصره- إلى واقعهم الثقافي والتعليمي، ويبين ضرورة إدخالهم المواد «الممنوعة»؛ كالفلسفة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ، والعلوم الطبيعية، كما يبين ضرورة إقلاعهم عن أساليبهم في التدريس، ووجوب الرجوع إلى الكتب الأصول وعدم الاكتفاء بالملخصات والمتون المتداولة، ويتوسل إلى ذلك بكل وسيلة.

(3)

وإذا كان البعض يرى أن محاولات الشيخ حسن العطار التي استهلها بحماس كبير في مطلع شبابه لإصلاح الأزهر، قد آلت إلى فتور وإهمال في المرحلة المتأخرة من عمره، فإن ذلك لم يكن عن ضعف همة أو تراجع في الفكرة بقدر ما كان تعديلًا في الاستراتيجية، وترتيب الأولويات، والنظر في «الممكن» قبل النظر فيما «قد يكون»!

ولستُ مع من رأى أن الشيخ العطار قد تراجع عن مشروعاته الإصلاحية في مناهج التعليم بالأزهر، وغاية ما في الأمر أنه -فيما أظن- قد استوعب رؤية الإصلاح التي رسمها محمد علي في سياسته الشاملة للنهوض والتحديث، وقرر بناء على هذا الفهم والاستيعاب أن يكيف رؤيته التجديدية وفق سياسات الإصلاح والتحديث، كما حددها ورسمها محمد علي.

ومن هنا، فإذا كان الشيخ العطار «لم يوفق في إصلاح الأزهر وبرامجه وخطط الدراسة فيه كما كان يريد» بحسب ما يرى البعض، فإنه في المقابل «قد رزق حظا كبيرًا من التوفيق في الدعوة إلى إصلاح التعليم بالبلاد كلها، فالمدارس العالية الفنية التي أنشئت في مصر في هذه المرحلة (عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر)، كالهندسة والطب والصيدلة والألسن، قد مثَّلت استجابة حقيقية لما نادى به حسن العطار، وهو ضرورة التغيير».

وكانت الكتب التي تُرجمت بالمئات في شتى العلوم والفنون والآداب هي الصدى المحقق لأمنيات العطار، وقد عبّر عنها لتلميذه الطهطاوي الذي أنجز كثيرًا منها، ولا شك أن الطهطاوي قرأ ما كتبه أستاذه في حاشيته على شرح جمع الجوامع، أنه «من سَمَتْ به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات، وعجائب المصنفات، انكشفت له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم».

(4)

وقد كان الشيخ العطار هو الذي أشار على محمد علي باشا لإرسال البعثات للتعلم في الغرب، ووجه تلميذه النجيب رفاعة الطهطاوي بتسجيل كل ما يراه في فرنسا، وكذا فعل مع تلميذه «محمد عياد الطنطاوي» عندما وجهه إلى روسيا، فالعطار كان يؤمن بالتفاعل مع الآخر، والاستفادة من تجاربه، حتى أنك تجده مع بغضه للاحتلال الفرنسي لبلاده لم يقصر في الاتصال بعلمائهم والبحث في سر نهضتهم وقوتهم، فعرف من سر نهضتهم ما لم يعرفه غيره، واطلع على بعض علومهم، وشاهد بعض ابتكاراتهم العلمية والصناعية، وأبدى إعجابه بها، وتمنى أن تكون لبلاده مثل هذه النهضة.

واستأنف الشيخ العطار التدريس في الأزهر عقب عودته من رحلته الطويلة من الشام، ليحرز شهرة فائقة، حتى أن الشيوخ الآخرين من زملائه كانوا يجلسون إلى حلقته ليستمعوا إلى محاضراته التي تبهر سامعيه، خاصة المحاضرات في «تفسير البيضاوي» التي كان يقدمها بطريقة جديدة. حيث كان يبدأ برواية النص ثم يحلله، أي من «الرواية» إلى «الدراية»، وهي طريقة لم تكن مألوفة حينذاك.

وفي أواخر العشرينيات من القرن التاسع عشر انتقل إلى طريقةٍ جديدة للتدريس لخلصائه من تلاميذه وأصدقائه، حيث جعل يلقي عليهم دروسًا أكثر أهمية في منزله، بعد أن ضاق به الأزهريون ذرعًا.

وكانت الدروس الجديدة ذات طابع «عقلي» يصطفي به الصفوة التي تمتلك الموهبة والرغبة في المشاركة في الحياة الثقافية الجديدة التي أوجدها نظام محمد علي، وكان يختص من الصفوة طلابًا يضيف إلى التدريس لهم مواد أخرى، كالتاريخ والجغرافيا والطب والأدب وغيرها، مؤمنًا برؤية خاصة بشأن وحدة الحضارة وارتباط عناصرها بأسس عقلية رحبة.

(5)

أما التجديد في «الأدب» و«اللغة» و«الكتابة الفنية»، فقد حاز هذا الجانب، من جوانب التجديد في فكر الشيخ العطار، عنايةً خاصة من المؤرخين عمومًا، ومؤرخي الأدب بخاصة، وقد رصد الأديب سامي البدراوي -في ترجمته للشيخ العطار- هذا الجانب، ويسميه «التطوير الأدبي»، مشيرًا إلى نجاح جهوده في إدخال «الدراسة الأدبية» إلى الأزهر على يدي تلميذه الشيخ عياد الطنطاوي، كما أنه هو نفسه قد اعتنى بالأدب عنايةً خاصة، شعره ونثره، واطلاعًا على الأصول التراثية الأصيلة، فلم يكن يتحرَّج من إنشائه أو تدريسه، ويُبيِّن عدم تعارض ذلك مع وقار العلم أو جلال الدين، مستشهدًا بالأسلاف العظام.

كما توقف أحد مؤرخي الأدب المحدثين، تفصيلًا، عند جهود العطار معتبرًا إياه «من أهم وأبرز المجددين في ميدان الأدب والكتابة الفنية، الشعر والنثر على حد سواء»، ومن أحسنهم أسلوبًا، وأرقهم ذوقًا وأكثرهم سعة أفق وتجربة.

وكما كان يَنظم الشعر، كان أيضا يكتب النثر، ويُشجع تلاميذه على ذلك، حتى أن جمال أسلوبه كان سرَّ اختياره أولَ محرِّر للوقائع العربية، فيما يقول الأستاذ الأديب سامي بدراوي، مشيرًا إلى أنه قد كتب مقامةً على النسق القديم (أي محتذيًا شكل المقامة العربية كما كتبها كل من الهمذاني والحريري)، وإن كان موضوعُها حديثًا، فهي تدور حول علاقته بالفرنسيين وانتفاعِه بمكتبتهم.

كما كتَب كتابًا في فلسفة الإنشاء ضمَّنه كلَّ الأنواع الأدبية المعروفة لعهده، وأردف كلًّا منها بنماذج مختارة من إنتاجه الخاص، وهي أكثر أجزاء الكتاب حيوية؛ إذ يسجِّل فيها خواطرَه وانطباعاتِه التي تركتْها في نفسه رحلاتُه ومعاملاته مع الناس الذين احتكَّ بهم، والكتاب بعدُ حافلٌ بنماذج شعرية للرجل نفسه، وذلك هو كتاب «إنشاء العطار».

ويغلب على أسلوب العطار البساطةُ والسهولة، والحِرص على الفكرة ونقْلها إلى القارئ؛ فالأسلوب عنده مجردُ وسيلة للتعبير وليس غايةً في ذاته، ومع ذلك فهناك في بعض كتابات الرجل السجعُ والمحسنات البديعية عمومًا، ومن غريب الأمر أن ذلك يكثر حيث يقصد الرجل إلى الإنشاء الأدبي أو الكلام في فلسفة الأدب، ويقلُّ في مؤلفاته العلمية حيث يسهل أسلوبُه ويسلس حتى ليوشك أن يكون معاصرًا.