No Image
ثقافة

مرفأ قراءة .. «الأورجانون الجديد» وثورة «المنهج» في الإنسانيات!

26 نوفمبر 2022
26 نوفمبر 2022

-1-

أوضحنا في مقال الأسبوع الماضي من (مرفأ قراءة) مفهوم «المنهج» كما حدّه (أو عرَّفه أصحاب المنطق الجديد) بأنه «فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين؛ أو من أجل البرهنة عليها للآخرين، حين نكون بها عارفين».

وقد جاء هذا التعريف الكلي ثمرة للتطورات التي مرت بها فكرة المنهج في العلوم الطبيعية، وانعكاس آثار هذا التطور على العلوم الإنسانية، ومن ثم قطعت الفكرة (أي المنهج) أشواطًا بعيدة في الانتقال أيضًا من دوائر استخدامها كمرادف للتصورات الذهنية المجردة أو التصور الفلسفي التأملي الذي ارتبط بمنطق أرسطو ارتباطًا وثيقًا، وحتى وصولها إلى دائرة الواقع الحسي والمشاهدة العينية والتجربة، ما نتج عنه في النهاية ظهور ما سيعرف بـ«المنهج الاستدلالي» و«المنهج التجريبي» وهما المنهجان اللذان تبلورا كامل التبلور في القرن السابع عشر بصورة واضحة ومكتملة.

بعبارة أخرى، فقد تتبعنا فكرة «المنهج» تاريخيا، منذ عصر الفلسفة اليونانية، وذلك من خلال ارتباطه بالمنطق منذ زمن الإغريق، حتى نهاية العصور الوسطى، وبدايات عصر النهضة، وكان مفهوم «المنهج» في ارتباطه بالمنطق آنذاك يعني ما يدل على الوسائل والإجراءات العقلية، طبقًا للحدود المنطقية التي تؤدي إلى نتائج معينة، ومن هنا جاء ارتباط المنهج بالمنطق الأرسطي الصوري، وحدوده وطرق استنباطه.

أما المنهج في ارتباطه بالعلم والتجريب والحركة العلمية في عصر النهضة (العلم في بداية العصور الحديثة) فقد ولد مع «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون.

-2-

وقد أشرنا أيضًا، بعد أن عرضنا لفكرة «المنهج» كما عرفتها العلوم الطبيعية والإنسانية مع مطالع عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، إلى أن «الأورجانون الجديد» لفرانسيس بيكون كان جزءًا من مشروع كبير وضخم وطموح بعنوان «الإحياء العظيم» لترجمة ما تمخضت عنه تلك الحركة الهائلة؛ حركة الكشوف الجغرافية الواسعة والثورة العلمية الكبرى من قيم وأفكار، كان فرانسيس بيكون يطمح إلى ترجمة هذه القيم والأفكار ترجمة فكرية عقلية «نظرية» أو بعبارة فؤاد زكريا «التعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة».

وينبغي التنويه هنا بأن دراسة المرحوم الدكتور فؤاد زكريا عن فرانسيس بيكون و«أورجانونه الجديد» هي من أفضل وأدق وأعمق ما كتب بالعربية في التعريف بأعمال وأفكار وأثر هذا المفكر الكبير، فضلًا على عرضه الرائق والسلس والمترابط لأفكار بيكون في «الأورجانون الجديد»، وقد نشر فؤاد زكريا بحثه هذا أولا في مجلة (تراث الإنسانية) التي كانت تصدر في مصر في ستينيات القرن الماضي، ثم أعاد نشره ضمن فصول كتابه «آفاق الفلسفة»، الذي أفردنا له مقالا سابقًا في مرفأ قراءة.

ولعل أهم نتيجة تكشف عنها خطة بيكون التي رسمها من أجل إتمام هذه المشروع الضخم هذه هي أنه لم يؤلف بالفعل كتابًا اسمه «الأورجانون الجديد»، وإنما ألف جزءًا من «الإحياء العظيم» يحمل هذا العنوان، وعندما نُشِرَ هذا الجزء أثناء حياة بيكون، كان الغلاف يحمل اسم «الإحياء العظيم». وهكذا، وكما يوضح فؤاد زكريا، فإن «الأورجانون الجديد» لم يكن كتابًا مستقلًّا، وإنما هو جزء من كتاب، أو على الأصح جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان.

ويؤكد الدكتور فؤاد زكريا أنه من الضروري أن يُنْظَرَ إلى الأورجانون الجديد داخل سياقه الطبيعي، باعتباره جزءا من مشروع الإحياء العظيم، لا أن يؤخذ على أنه بحث منفصل يكوِّن أهم كتابات بيكون. ومن المهم هنا إلقاء الضوء على تكوين وخطة وعناصر هذا الأورجانون، بحسب ما يكشف القسم الثاني منه والذي تضمن خطة فرعية لهذا الجزء، لم يستطع بيكون أن يتمها بدورها.

-3-

وهكذا يمكن اعتبار «الأورجانون الجديد» جزءًا من خطة شاملة لم تكتمل. كما أن للأورجانون الجديد نفسه خطة فرعية لم يكتمل منها إلا جزء بسيط، ويوضح الدكتور فؤاد زكريا أن الكتاب في صورته التي وصلتنا قد أُلِّف على صورة فقرات منفصلة (aphorisms) لها أرقام ثابتة، وهو مكون من جزءين:

جزء سلبي بعنوان «تفسير الطبيعة وقدرة الإنسان»، وجزء إيجابي بعنوان «تفسير الطبيعة وسيادة الإنسان».

وأسلوب الكتاب في العموم شائق بليغ، يتضمن تشبيهات رائعة اشتهر بها بيكون في كل كتاباته حتى عدَّه البعض أمير البيان في عصره، سواء أكتب باللاتينية أم بالإنجليزية (وقد بلغ من تحكمه في اللغة أن ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أنه هو المؤلف الحقيقي لمسرحيات شكسبير، على حين أن هذا الأخير لم يكن إلا شخصًا مغمورًا، ورغم ابتعاد هذا الزعم عن الصواب، فإنه ينطوي على تقدير ضمني هائل لأسلوب الكتابة عند بيكون، كما يقول الدكتور فؤاد زكريا).

ولا شك أن من الأسئلة المهمة التي ينبغي الإجابة عنها في صدد الكلام عن مؤلفات بيكون، السؤال عن السبب الذي دفعه إلى الكتابة بطريقة الفقرات المنفصلة، في هذا الكتاب الرئيسي على الأقل.

والواقع، كما يؤكد الدكتور زكريا، أن مجموعة مؤلفاته كلها كانت بدورها أشبه بالفقرات المنفصلة التي تفتقر إلى الإحكام والترابط: فكان يبدأ مشروعًا تأليفيًّا ثم يتركه لينتقل لغيره، وقد يعود إلى المشروع القديم بعد ذلك، ولكن بعد تغيير خطته.

-4-

وإذا كان الصعب في هذا الحيز المحدود عرض كل الأفكار التي اشتمل عليها «الأورجانون الجديد» والتي يمكن القول إنها تعد حدًّا فاصلا وفارقا بين «ما قبل الأورجانون الجديد»، و«ما بعده»، فإننا مع ذلك يمكن أن نشير إلى أبرز المحاور التي تضمنها، والأسس التي حددها وقامت عليها دعائم المنهج التجريبي، ومن ثم الثورة التي أحدثها في مفهوم المنهج ككل في العلوم الإنسانية.

أول هذه الأفكار هو النقد العنيف الذي وجهه بيكون إلى المنطق القديم «منطق أرسطو»، فقد كان هذا المنطق هو الأداة الرئيسية التي استعان بها الفلاسفة القدماء في الوصول إلى نظرياتهم التي يصفها بيكون بـ«الباطلة»، وعلى ذلك فإن نقد المنطق القديم وكشف عيوبه هو العنصر الأساسي في حملة «التطهير» التي ينبغي القيام بها من أجل إرساء التفكير الفلسفي والعلمي على أسس سليمة.

وثاني هذه الأفكار تحديده للأسس التي يقوم عليها «المنهج التجريبي» ونظرية «الأوهام الأربعة»، حيث انطلق بيكون من وضعية أو حقيقة أو بدهية أن الحواس مصدر للمعرفة، وأن صدق الحكم في مطابقته للواقع يكون فقط من خلال الحواس، وبالتالي فلا بد من استبعاد كل ما لا يمكن التحقق من صدقه في الواقع المشاهد والعالم المدرَك..

ويتم ذلك بعد تطهير الذهن من أوهام الجنس، وكل ما يتعلق بأوهام الإنسان من حيث هو كذلك، ومن أوهام الكهف وكل ما يتعلق بالمزاج الفردي، ومن أوهام السوق وكل ما يتعلمه الفرد من الناس دون التحقق من صدقه، ومن أوهام المسرح وهو ما تراكم عبر المعارف التاريخية الطويلة من الروايات والمرويات...

-5 -

أما ثالث هذه الأفكار، وقد يكون أيضًا أبرز وأهم ما انفرد به بيكون في تأسيسه لمنطقه الجديد هو نظرية الاستقراء عند بيكون، وقد بنى تصوره أو مفهومه للاستقراء برفض منهج القياس الأرسطي كليًا وتمامًا، إلا إذا كان الأمر متعلقًا بنشر حقائق اكتُشِفَت من قبل بوسيلة أخرى، أو بإقناع الخصوم عن طريق الجدل اللفظي، كما أنه يرفض ذلك النوع من الاستقراء الذي دعا إليه أرسطو، والذي ينحصر في كل الخصائص المشتركة بين الأمثلة الإيجابية فقط دون السلبية. وهكذا يفرق بيكون بين الاستقراء الساذج «الأرسطي» والاستقراء العلمي؛ فالأول، هو تعداد دون نقد ودون حساب للحالات غير المؤاتية أو المضادة، إنه بالاختصار منهج إعداد قائمة حضور دون قائمة غياب.

أما الاستقراء العلمي؛ فهو حساب دقيق للوقائع، وقياس ومقارنة لها، وعمل موازنات بينهما، وقد تكون هذه الفكرة من أهم أفكار بيكون؛ وإن كان الدكتور فؤاد زكريا أنها ليست كذلك، مشيرًا إلى أن أفكار بيكون الأكثر أهمية تنتمي إلى ميدان آخر غير ميدان المناهج.

ومع ذلك فمن المؤكد أن بيكون قد عبر عن صفة أساسية من صفات المنهج العلمي، حين تحدث عن ضرورة استعراض الأمثلة من جميع أوجهها السلبية والإيجابية، قبل محاولة استخلاص أي قانون علمي جامع... (وللحديث بقية).