No Image
ثقافة

سكرتيرة هتلر

23 مارس 2024
23 مارس 2024

1

القطار الذي استقليته لم يكن مزدحما بالركاب.

كان يسير وسط سهول خضراء ممتدة على جانبي الطريق ولم أكن أعلم إلى أين يسير!

كنت أرتدي فانيلا زرقاء وقميصا أخضر يبرز منه طوق الياقة فقط، وكان أنفي منتفخا حتى أنه حال بيني وبين الرؤية الجيدة.

لم يكن في المقصورة التي جلست بها سواي أنا وشخص آخر كان يتحدث في هاتفه ويضرب الهواء بقبضته كأنما يطارد بعوضة أو ذبابة أزعجته.

فجأة توقف الرجل عن مكالمته وعن مطاردته وبشكل غير متوقع هجم علي وخنقني. قاومته، صحت، واستنجدت، وخبطت بقدمي مليا دون أن يتدخل مخلوق لنجدتي أو تستجيب السماء لصرخاتي، في تلك اللحظة استسلمت لقدري مسلّمة بأنها النهاية وأنها الطريقة المقررة لي لمغادرة العالم!

انتفخت الأشياء أمام عيني وانبعجت جراء الخنق ثم تشظت وأنا أسمع صوت زخات من الشظايا تتطاير ويغلب صوتها دوي القطار

لم أعرف السبب الذي قتلني الرجل لأجله!

واصل القطار سيره وواصلت أنا الموت ثم بعد لحظات وجيزة من الموت استطعت فتح عيني من جديد، لم أتصوّر من قبل أن الموتى يستطيعون فعل ذلك.

الموت قدم لي هذه المعرفة.

كنت مدفوعة برغبة ملحة في التأكد من قدرتي على فتح عيني في حالة الموت والنظر من خلالهما، قلّبتهما في المجال أمامي، أغلقت واحدة ونظرت بالأخرى، وجدتني أستطيع الرؤية حتى بالعين المغمضة، لقد بدا الموت عظيما وخارقا بالرغم من أن أحدا لم يُعدني لهذه الحقيقة المذهلة من قبل!

2

شيئا فشيئا اتضحت لمبة الغرفة أمامي، مظهرها تبدل بشكل ملحوظ مقارنة باللمبة الأولى التي رأيتها قبل موتي. كنت أرتجف خوفا من عودة الرجل لقتلي مجددا ولا أرتجف خشية الموت الذي ذقته ولم أجد فيه ما يوازي قلق الحياة المميت.

أملت رأسي قليلا ناحية اليسار وأنا مستلقية على ظهري، بدت سيقان السرير المقابل لي ضخمة جدا كأنما صنعها فرناندو بوتيرو 1

خاطبتني امرأة غرزت شيئا في ذراعي قائلة:

- الحمد لله على سلامتك مدام، صحوت من البنج وتجاوزت الخطر.

تموجت ملامح الممرضة أمامي وتداخلت سيقان السرير بساقيها.

أخبرتني الممرضة بأنني ركلت بقدمي كثيرا وأنا مخدرة وأنني هذيت بكلام مفزع وأخبرتهم بأنني سكرتيرة هتلر.

وماذا قلتُ أيضًا؟ سألتها بلسان راكد ثقيل.

لا، لم تقولي شيئا أكثر من ذلك.

استشعرت الراحة لأن خزانتي فيها الكثير من الخبايا لم يتمكن المخدر من اختراقها والوصول إليها. لم يفلح البنج في استجوابي أو افتكاك أي أقوال مني عدا أنني سكرتيرة الفوهرر.

يبدو أن الخيارين الممكنين هما، إما أن البنج مغشوش وإما أن قوتي الداخلية تفوق أي بنج!

3

كان رأسي يدور حول المجموعة الشمسية واللمبة ترقص أمامي ببطء والتلفزيون تظهر صوره متموجة بلا صوت، لكن الشعور بأنني أشغل منصب سكرتيرة الفوهرر لم يتلاش من ذهني أو أنه راقني فتمسكت به ولم أسمح له بالانزلاق بعيدا.

أدخلت لي الممرضة مادة مسكنة في أنبوب التغذية المتصل بي، ثم غادرت مصحوبة بسيقان السرير معها.

لم يمض وقت طويل على رحيلها حتى بدأت أشعر وكأنني على شفا الموت من جديد، لكن بأسلوب مختلف عن المرة السابقة، إذ أنطلق سريري جريًا عبر ممرات المستشفى وأنا فوقه دون سابق إخطار!

وقع في ظني أنه تأثير الدواء الذي وضعته الممرضة في الأنبوب الموصول بشراييني، حاولت التأكد من أنني لا أعاني من انسحاب البنج وأن الأشخاص الذين يحاولون اللحاق بي والإمساك بجانبي السرير ليسوا حقيقيين وأنهم من صنع خيالي.

عدا أن السرير كان يجري فعلا وممرضة بدينة تدفعه بي والسقف يجري فوقنا بالمصابيح وينعطف كيفما انعطف السرير.

اصطدمت الممرضة بأسرّة أخرى تحمل مرضى في حالة هلع وكانت لا تعرف أين تتجه بي.

سمعت كلمة حريق! فلعله كان بالفعل حريقا شب في المستشفى وليس عملية انسحاب بنج!

تمايلت اللفافة البيضاء الكبيرة على أنفي، وتصلبت رموشي كأسنان شوكة صدئة من فزع عدو السرير بي في الممرات وارتطامه بدرجات المدخل الرئيس للمستشفى.

نار نار.. أخرجوا المرضى الباقين بسرعة.

انقلعت إحدى عجلات السرير ولم يخمد ذلك من سرعته. استمر في انطلاقته بقوة تشبه تأثير المنشطات، متحديا الوزن الذي يحمله بثلاث عجلات فقط.

هناك مريض آخر في غرفة سبعة نسيناه، أخرجوه بسرعة.

اسرعوا بإخراجه! صرخ أحدهم.

إلى أين يفرون بنا؟

لم يعط أحد تفسيرا أو إيضاحا عما يجري، بما في ذلك إدارة المستشفى

كان صمتا يحاول إنقاذ سمعة المستشفى من نقل المرضى للآخرة بسرعة ومن دون ألم!

تزاحمت ملائكة الرحمة حولنا في محاولة لضبط الوضع، بينما كان مريض مجاور لي يخوض غيبوبة البنج يطلق صرخات مبحوحة: «يا فاطمة.. يا علي... يا نور الدين»

ومريض آخر كان في كامل أناقته يتصفح جريدة فرنسية بهدوء مرخيا الساق على الساق، غير مكترث بما يحدث، وكأنه اعتاد الفوضى أو ربما سبق له عيش تجارب مماثلة!

صفت أسرّة المرضى في الشارع بجانب الجدار المواجه للمستشفى وكأنها عربات ديلفري قبالة مطعم إلى أن تمكنوا من إخماد الحريق.

قيل إن أحد المرضى دخّن في الحمام وتسبب في إشعال الحريق. ولعلها كانت حيلة دفاعية لا غير.

4

أعادونا لداخل المستشفى أفواجا بسرعة أحد عشر حصانا في الساعة.

لم يشفع العرج لسريري ما جعل عودتي أشق من خروجي.

أدخِلت إلى غرفة لم تكن غرفتي السابقة وإن كان بها تلفزيون يبث الأجزاء نفسها من خطاب الرئيس الذي ألقاه مساء الأمس.

كانت الكلمات المجتزأة منه هي:

فهمتكم.. فهمتكم.

شيئا فشيئا، استعدت وعيي بالواقع كاملا.

تأكدت الثورة في تونس وأعلِن عن فرار الرئيس. لم أرد شم الدخان المنبعث عن حرق الإطارات، بالكاد أصلحت أنفي للتو ولا أريد له استئناف نشاطه بشم الحريق.

عاد أنفي للخدمة وكانت أول الروائح التي التقطها عرق سائق التاكسي الذي أقلّني للمطار!

هامش:

«1» فنان كولومبي يرسم شخصيات بدينة جدا

نجوى بن شتوان كاتبة وروائية ليبية