No Image
ثقافة

دفتر مذيع

07 يونيو 2023
محمد المرجبي
07 يونيو 2023

مقدمة.. أكثر من أربعين عاما مضت بسرعة البرق، قضيتها حتى الآن في الإذاعة والتلفزيون فأسأل الله أن يوزعني شكر نعمته التي أنعمها علي، وأن يكون عملي صالحا يرضاه. سعيد راض بها بحلوها ومرها. بتفاصيلها الدقيقة، بأكثر الأوقات متعة، وأشدها قلقا وتوترا. بتوافقي مع هذا، واختلافي مع ذاك زميلا كان أو مسؤولا. بالبوح تارة وبالكتمان تارات.. لم أتقلد أي منصب صغيرا كان أو كبيرا، وقد كانت هذه رغبتي، ولا ألوم فيها أحدا.. لست نادما أبدا أن كان هذا هو الطريق الذي اخترته أو اختاره القدر الإلهي لحياتي، رغم شعوري أن هناك مجالات ربما كانت أكثر راحة أو ثراء ماديا يمكن أن تتاح لي.. لم يكن لي في الوظيفة مكتب ولا طاولة وكرسي، و لا كمبيوتر ولا حتى جهاز هاتف، إلا بعد مرور ربع قرن من العمل.

وهذا أمر طبيعي -وإن كان به بعض التقصير الإداري- لأن عملي الحقيقي ليس بين جدران المكاتب، وإنما بين الأستوديوهات والميدان -وما أوسع هذا الميدان-.. وبين هذين الموقعين، من الزحام والعمل ما يجعلني أشعر بمضي الوقت والعمر بهذه السرعة. فداخل هذه العقود الأربعة، آلاف مؤلفة من الحلقات الإذاعية والتلفزيونية، ونشرات الأخبار، والمهمات الرسمية، والدراما أحيانا، والكتابة الصحفية أحيانا أخرى، وبعض الإصدارات.. للإذاعة نصيب الأسد من هذا الزحام. فهي معشوقتي حتى وإن شعرت غير مرة أنني أعيش حبا من طرف واحد.. ولأنني التحقت بالعمل في مطلع العقد الثاني من النهضة العمانية الأولى، فمن حسن حظي معاصرة كم هائل من الأحداث الوطنية، والتغييرات التي شهدتها البلاد من ناحية، وما شهده الإعلام -وخاصة الإذاعة- من تطورات متسارعة من ناحية أخرى.. ولعل الكثير مما أتناوله هنا ينطبق أيضا على بعض المهن الشقيقة كالصحافة، فالمذيع هو أيضا صحفي بالنتيجة.

أعلم أن بعض حديثي عاطفي، لأن مهنتي تتلبسني عاطفيا، بجانب القواعد المهنية.

لم تقدني الصدفة إلى الميكروفون، وإنما ذهبت إليه بسبق ترصد وإصرار، ولكن التوظيف هو الذي كان صدفة أو فرصة اقتنصتها وتشبثت بها، في زمن لا يحتاج إلى شهادات عليا. فشهادة الإعدادية العامة (الصف التاسع) وربما أقل تكفي ليقبل المواطن موظفا في الجهاز الإداري للدولة، أو مرشحا لأن يصبح ضابطا عسكريا في زمن وجيز، بل وقد تجد نفسك بهذه الشهادة بين مجموعة أنت أعلاهم في المؤهل العلمي. فما زال كل شيء حولنا جديدا، وكأنها دولة مستحدثة على الخارطة، رغم ما تحمله من إرث تاريخي وحضاري عميق يطول شرحه. فحتى ذلك الوقت عمر كل مؤسسات الدولة الحديثة تقريبا لا يتجاوز 12 عاما. الشوارع جديدة، والمدارس، (لم توجد بعد أي مؤسسة للتعليم العالي)، والمستشفيات، وبعض الملاعب، والأندية، والأسواق، والمطارات والموانئ، والمؤسسات الإعلامية، وحتى المربعات السكنية بمفهومها الحديث..الخ.. كل شيء حولنا مدهش لأنه أول مرة يدخل في حياتنا.

وحتما ستكون دهشتي كبيرة عندما أصبح (إعلاميا).. وحتى ذلك الوقت ما زالت أفواج المهاجرين تعود، لتشارك في بناء الوطن وتحط رحال الاغتراب، والطلبة العمانيون يملؤون العواصم الشقيقة والصديقة، ليعودوا غدا بعلوم جديدة وخبرات حياتية اكتسبوها من عوالم أخرى.

في دفاتر المذيعين، نصوص، وخربشات مبعثرة، ونوت وقصاصات مبتورة، وذكريات تعبوا من كتمانها، وبوح يبحث عن قلوب مصغية، وخطط وأحلام يقظة، وصور لم يوثقها غيرهم، ومدن لم يزرها الآخرون، يخبؤونها عن عيون تريها القمر ولكنها تنظر إلى أصابعك. في دفاترهم حكايات خبؤوها عن مقص الرقيب، يتحينون الفرصة المناسبة لروايتها، وفي دفاترهم قطرات عرق أو دموع، وفي بعضها خطايا تنتظر التوبة والمغفرة.. ليس لدى الجميع دفاتر، وليست كل الدفاتر هكذا. فبعض الدفاتر بيضاء تنتظر أقلاما، وبعضها طلاسم يصعب قراءتها، وبعضها حكايات تستحق أن تروى.

دفتر المذيع ليس دفتر أديب أو مؤرخ أو سياسي أو مهندس أو عالم دين، وإنما دفتره يحوي شيئا من كل شيء. لأنه معني بكل ذلك. فهو يوما في حضرة الحاكم، ويوما في مؤتمر، وآخر بين السهول والوديان في حضرة عجوز بسيط في هيئته، عظيم في خبرته، وهكذا.

وفي دفتري المتواضع هذا شيء من هذا وذاك. سأروي بعضه، وأنثر بعضه في مهب الريح.

محمد المرجبي إعلامي عماني