No Image
ثقافة

خيوط «التلَّي» تشتبك لتخلط الخير بالشر والسِّر بالجهر

08 مارس 2024
في عمل مسرحي من تقديم "الصحوة"
08 مارس 2024

في الثالث من مارس الحالي قدمت فرقة الصحوة المسرحية عرضها المسرحي «التلي»، وما لفت الانتباهَ أن هذا العمل من تأليف الكاتب العراقي د.عباس الحربي، عن نص «الرحى»، فرجعت بالذاكرة إلى أيام مهرجان المسرح العماني في نسخته السابعة الذي عُقد في ولاية صحار أواخر عام 2017، حينما قدمت الفرقة نفسها عرضها المسرحي «الرحى»، باسم النص ذاته، فتساءلت في نفسي هل هذا النص طويلٌ كفايةً بحيث يمكن لمخرجين آخرين تقسيمه إلى عملين! وما زاد من تشبثي بهذا السؤال تعقيب الكاتب عبدالرزاق الربيعي على العرض حينها بأن النص كان يحوي الكثير من الحوارات الآسرة، فلماذا تم اختزاله! إلا أن الجواب كان حاضرا مع بداية العرض، فكلا العملين عن النص نفسه برؤية إخراجية مختلفة، قاد زمامها في عرض الرحى عام 2017 الدكتور شبير العجمي، وكانت حينها عودة قوية بعد توقفه عن الإخراج لعشر سنوات، واليوم يقود المخرج المبدع عبدالملك الغداني، الذي استلهم اسم العمل من فكرة ابداعية استثنائية، فلم تكن تلك الحبال المسدلة في بداية العرض إلا دلالة قوية لمجريات أحداث العمل المسرحي «التلي».

و«التلي» هو مصطلح لحرفة تقليدية نسيجية، تعتمد على وسادة أسطوانية تلتف حولها الخيوط الزاهية لتصنع منها بعد ذلك أدوات قماشية تستعمل لصناعة ملابس النساء، فكانت الحبال المسدلة كأنها خيوط «التلي» التي تنزل من قمة المسرح إلى الأسفل في بقعتين، بقعة ترتبها «فاطمة»، تلك الفتاة الصغيرة المشاكسة، التي تحب عمتها كثيرا لأنها كبرت بمعيتها، ولكن عمتها التي تعيش في الجانب الآخر من الحبال تعيش حياة سوداوية نتيجة اضطهاد وسخريات ومعاملة دونية لما فيها من مرض، تتعرض لتلك المعاملة من أخيها، وزوجة أخيها «أم فاطمة»، يبدأ المشهد الأول بحوار بين «فاطمة»، الفتاة اللطيفة التي تحب الخير والحياة والتفاؤل، والعمة، وتربطهما علاقة حب وود ووفاء.

وكان للعمة حبيب، تنتظر أن يأتي لخطبتها طويلا، حتى بدأ الأمل بالاختفاء، وحل اليأس والألم رهين حياتها، وما زاد من اليأس أنها أصيبت بالجدري الذي أدى إلى تساقط شعرها، وإلى بشاعة وجهها، ظلت العمة في بيت أخيها معزولة منبوذة، لم يقترب منها أحد إلا «فاطمة»، وحتى الطعام كان يأتيها بوعاء قديم، بل عاشت كالخادمة تلبي كل ما طلب منها بخنوع واستسلام وسكوت.

حتى تأتي «فاطمة» ذات يوم بأخبار تزفها لعمتها، فحبيبها السابق يأتي على فرسه الجامح ليخطبها من أخيها، تستنكر العمة ذلك، معتقدة بأن ما تقوله «فاطمة» مجرد سوء فهم، حتى تتأكد أكثر وأكثر، فتنفرج همومها وتبدأ بتلقي الخبر المفرح بالكثير من البهجة والأمل، فيطول الحوار بين العمة و«فاطمة»، فكلاهما سعيدتان بهذا الخبر، الذي لم يُفهم من «فاطمة» بشكل صحيح فعلا، لتدخل «أم فاطمة» قاطعة الحوار بين العمة وابنتها مؤكدة بأن حبيب العمة السابق جاء ليخطب «فاطمة» بدلا من العمة، ولكن «فاطمة» ترفض الفكرة وتقول: إنها ستمثل عليه دور المجنونة حتى يصرف نظره عنها ويرجع للعمة.

هنا تثور العمة المنكسرة الخانعة، لتتحول إلى وحش كاسر جسدا وقلبا، تتحول إلى صورة أخرى مليئة بالحقد والغضب والغيرة، لتقنع «فاطمة» الطيبة بأن تشرب سما لتطفئ غضبها، وفي قمة حب «فاطمة» وتعاطفها مع عمتها تشرب ذلك السم فينتفخ بطنها، فتتهمها العمة أمام أهلها بأنها ضحية علاقة جنسية غير شرعية، مستدلة بعلبة السجائر الرجالية التي كان الخطيب قد أرسلها منذ زمن للعمة.

هنا يثور الأب ويقتنع بأن عليه أن يطهر شرفه وبين وعيل وصراخ الأم من هول ما يحدث، تعيش العمة في قمة النشوة والشعور بالانتصار، فمن صنع هذا الإنسان المجرم، هنا يطرح العمل العديد من التساؤلات الوجودية العميقة.

وحملت الحبال -الذي أبدع المخرج في توظيفها- لعبة العقدة ذات الرمزيات العديدة والعميقة، ففي تصاعد الأحداث خطوة بخطوة تتشابك الحبال ببعضها شيئا فشيا، وكأن ذلك تجسيد لتشابك الطيبة بالشر، وبعدها تشابك الحب بالكره، ثم تشابك الخير بالشر، فتشابك الصوت بالإفصاح، وتشابك العقل بالجنون، وأخيرا تشابك الحياة بالموت.

وقد أدى العمل على الخشبة في «التلي» البطلة عزة اليعربية التي قامت بدور «فاطمة» مؤدية دورها بإتقان يفوق الوصف، نقلت أحاسيسها الطفولية البريئة إلى المتلقي بروح بريئة، ونقلت لوعتها وحرقتها وألمها بطريقة لامست الجمهور من روعة الإتقان وتقمص الدور بكل جدارة، أداء أدى إلى تعاطف الجمهور بل حتى انهمار دموع البعض منهم، إلى جانب إخلاص الحارثية التي أدت دور العمة، فكانت بحق ملهمة في تدرجها من المنكسرة إلى المتجبرة، من الهادئة الراضية إلى الوحش القاسي الذي لا يرحم، وأدت رقصات كناية عن التحول دفعت بالجمهور إلى صمت والهدوء حابسة أنفاسهم، وبدور الأم أماني المقبالية التي تحولت من المتسلطة الآمرة والنهاية إلى المكلومة المنكسرة في مشهد يصور تبدل الأحوال في هذه الدنيا الصغيرة، وأخيرا دور الأب الذي أداه باسل اللمكي، ورغم حواره البسيط إلا أنه صور بإتقان مشاعر الأبوة حين تلقيه خبرا مفجعا كهذا. ومما ميز العمل حضور الموسيقى بصورة حية، وحضور الصوت الغنائي كذلك بمعية موسيقيين ساروا مع العرض مضيفين الكثير من البعد الصوتي والمؤثر من خلال الموسيقى التصويرية.

وبين «الرحى» و «التلي» يشترك الإبداع لا محالة وروعة النص الإبداعي الأدبي الرفيع، ومع الرؤيتين الإخراجيتين وفِرَقُ العمل حدث الإبهار، فـ «الرحى» التي شاركت فيها بدور العمة الفنانة سميرة والوهيبية وكانت حينها «هجران»، وشاركت به بدور «فاطمة» الفنانة بلقيس البلوشي وكانت حينها «عناية»، لا زالت منقوشة بالذاكرة، واليوم «التلي» يؤكد على أن الإبداع لا يتوقف وأن النص مهما تشابه يبقى فيه المخرج كما يقال «مؤلفٌ آخر» يمارس إبداعه ولعبته الفنية ملبيًا جموح خياله.