No Image
ثقافة

تقاطعات الحُبّ والحزن عند عبدالله حبيب «2-2»

06 فبراير 2023
06 فبراير 2023

تقوم مجموعة (أنامل زَغْبَى على عزلة الشاهدة) لعبدالله حبيب، الصادرة عن دار الانتشار العربي 2016م على مدّ القارئ بتيارات مختلفة من ألفاظ الحُبّ والحزن، وإظهار لوعات الفراق ودلالات الموت والقبر في غير نص من نصوص المجموعة. وتتداخل في المجموعة الكتابتان -الشعرية والنثرية- المحملتان بالإيقاع والسرد لتكوين ملامح الحب والحزن التي تبرز في عناوين النصوص بصورة واضحة؛ فنجد مظاهر الحب والفرح بارزة في نصوص: (عيديّة، ورسائل الحب القديم، ورضاب، وباليه، وسعادة)، ونجد مظاهر الحزن في: (نعش آخر للطيفة حبيب، وفراق آخر، ووداع آخر (أيضا)، وغياب).

يظهر هذا التمازج واضحا في عتبة المجموعة المتمثّلة في الإهداء: (إلى تلك الغُرَف والقبور). ص:11. إذ يمثّل هذا الإهداء انطلاقا مهما يتقاطع فيه الحُبّ والحزن دلاليا وفق اتجاهين اثنين، إذ تحيل كلمة الغُرف إلى أمكنة السكن، والاجتماع، واللقاء، والعيش. وتحيل كلمة القبور إلى أمكنة الفراق، والوداع، والبُعد. إنّ القبر مكانُ سكنِ الأجسادِ بعد الرحيل عن هذه الدنيا، فيردُ محمّلا بصُور الحزن والفراق بخلاف الغُرَف التي هي مكانُ سكن الأجساد بافتراض حدوث اللقاء والاجتماع.

وهكذا يخلق الشاعر من اللفظتين نقطة انطلاق لتأسيس نصوصه على الدلالتين السابقتين، ويجعل من مشاعره تفترق لتلتقي في النصوص مُشكّلةً لغةً عاطفية، ومشاعر ممتزجة؛ تقومان على بناء الصُّور والتراكيب الشعرية. في نصوص (رسائل الحب القديم، وحنان، وندم) يظهر الاشتغال على فنّيات التضاد الموضوعي بين الحُبّ والشوق، وبين الحزن والفراق، ويظهر العالم المتخيّل كونه هلاميَّ التكوين يصطدم فيه الموتُ بالحياةِ، ويتشكّل الحزنُ عميقا بدلالاته التي ما زالت تسكن القلب والذاكرة. كما تتشكّل من هذا العالم رغبة جارفة نحو الموت، والالتقاء بعد مرحلته الغيبية، يقول في نص (حنان، ص23):

ها هم الغرقى ينبثقون

من الليل والعاصفة

ومواقد الحنان الأكثر نأيا من عام 1964

في قرية على البحر

ينبثقون.

ها هم الغرقى يطرقون غرفتي

المُبحرَة في غرب المحيط الهادي:

«متى ستأتي»؟.

«وأنتم

متى ستدخلون

كي أموت»؟.

تعالوا نمُتْ

مرة أخرى.

ويقول في نص (ندم، ص34) مازجا بين الحزن والقبر وبين اللقاء المرتقب الذي يتخيّل وقوعه:

لن يدفنونا في قبرٍ واحدٍ

سنصاب باللوعةِ حتى حين نكون هناك

فتزوّدي بمزيد من الفقد

إلى أن نكون هناك

وهناك

سيسعفنا التراب.

إنّ مثل هذه الازدواجية في التراكيب بين الدلالتين واضحة في غير نص من نصوص المجموعة، وقد تناولنا جانبا منها في المقال السابق. لكن نجد في هذا الإصدار انتقالا آخر يحدث بالاشتغال على ارتباط الدلالات بعنصرين مهمين في النصوص؛ إذ يظهر التمازج بين دلالات الحُبّ والحزن باقترانهما بالشخصيات والأمكنة؛ إذ تمثّل الشخصيات في المجموعة محور التقاء عاطفتين تتصارعان في إبراز عاطفة الشاعر، وإحداث مفارقة شعرية يتأولها النص، فنجد أسماء كل من (محفوظة حبيب، ولطيفة حبيب، وسعيد الهاشمي، ومريم الأنصاري، وتعّوب الكحالي، وخِمبيش، وخالوه عوشوه) مقترنة بالوجع والرحيل والحزن والفراق الطويل، يقول عن (مريم الأنصاري، ص85):

الآن صارت مريم الأنصاري تنامُ تحت الأرض

الآن على الشِّعر أن يبحثَ عن الكثير من السماء

كي يعرف كيف صار الموتُ ثوبها الأبيض.

...

تأخر الوقتُ يا سيدتي، يا حبيبتي، يا خالتي، يا أمي

تأخر الوقتُ على كل شيء تقريبا

لكن آه لو تعلمين أني لا أستطيع أن أغفر لنفسي كل ذلك الحب

وآه لو أعلم أنك لا تستطيعين أن تسامحيني على كل هذا العقوق

برزخٌ هو البرزخُ بين المحبّة والعتاب

وأنتِ أكبر نجمة بين نخلتين.

بالاستعادة يحاول عبدالله حبيب الغوص في المفردات وإعادة تركيبها في النص، مكوّنا مشهدا بصريا مرة، ومرة مشهدا قائما على التذكر والاسترجاع وتهييج النفس بدلالات الفراق، نلمح ذلك في خطابه إلى الشخصية نفسها/ مريم الأنصاري في المقاطع الآتية:

كفّاكِ رغيفان

وأنت ربَّيتِني على مناقير الطيور.

...

أحبُّكِ كما لو أنّكِ دمعة

لو كنتِ مقلتي لما أحببتكِ أكثر

أحبك لأنني لستُ شاعرا

أحبك فحسب.

...

كأنكِ كنتِ تعلمين أني لم أعد قادرا على فقدٍ آخر

لذلك مضيتِ.

...

خلف ماكنة الخياطة

مصباح الليل شحيح

وهي تحيك أيامي.

...

عيناكِ غزيرتان

والبحرُ اختفى.

...

لي على الأرض وتحتها مريمان

أنا وحدي في هذه الدنيا من له أُمّان.

...

لسنا أيتاما

لأنّ المحبة توقظك في كل صباح.

لقد أوجد الفقد صُورا حزينة وقاتمة في نصوص عبدالله حبيب لا سيما في ارتباطها بثيمة الحُب والشوق، وتمثّل محفوظة حبيب، ولطيفة حبيب، ومريم الأنصاري صُوَرَ هذا الفقد الذي دفع النص إلى الانفتاح والإنتاج في الدلالة، ولكن إذا كان الفقد ولّد هذه الدلالات لديه، فما يكون من شأن الدلالات المتولّدة حُبّا وحُزنا في نص (سعيد الهاشمي، ص61) الذي لم يفقده فقدا طويلا على الأقل. إنّ الفقد يتشكّل هنا في دائرة الحُبّ والمعرفة الإنسانية. يبدأ النص واصفا الشخصية/ سعيد الهاشمي على طريقة النصوص السردية، مازجا في الوصف دلالات الفراق والموت والحزن، ثم دلالات الحُب:

أسمر مثل إحدى أخواتي

مثل حليب أمي

مثل أول قُبلة

مثل آخر كفن.

...

يؤاخيني في الشجن

ويتبرّأ مني في الشجن.

...

لا أعرف سعيد الهاشمي

فقط سمعت عنه

يوم اكتشفتُ أن لي أذنين

وجرحا في الخاصرة

وقصيدةً في التأتأة

ووطنا في الكابوس

ثم يُقيم دلالة الحب في مقابل الدلالات السابقة، ليتمكن الحُب هنا من صنع صورة ماثلة لاثنين يربطهما الجانب المعرفي والوطني:

أحبّه

لأنه بلادي

ولأنه غفل عن أن يقول لي إنه بلادي

...

أحبُّ سعيدا

وأنا في الحُبّ فقد.

هكذا يصنع عبدالله حبيب دلالاته عند الحديث عن شخصياته، إنّ النص معها محمّلٌ بآهات ولوعات الشكوى والفراق والحنين إلى الماضي.

أما في اقتران دلالات الحُبّ والحزن بالأمكنة في نصوصه فلعلّني أجد في نص (ضلع آخر لمجز الصغرى، ص65) صورة واضحة لهذا الاقتران. يظهر في هذا النص مزيج واسع من الحضور المكاني المتمثل في قرية مجز الصغرى القريبة من البحر الذي يمثّل هو الآخر موروثا وثقافة عند الشاعر وعند أهل القرية، وتظهر الشخصيات بصورة أكبر؛ فقد حشد شخصيات من القرية، واعتمد في وصفها على استرجاعات الذاكرة والارتباط بالمكان، والارتباط بالحكاية الشعبية. لقد حضرت شخصيات القرية في النص متعددة في هيئة مقاطع شعرية مرة وأخرى سردية، حصرها النص في إحدى وعشرين شخصية ممتزجة بتقاطعات الذاكرة والحب والشوق والفراق والحزن.

تلتقي في النص الشخصية بالمكان، ويعملان على إشعال الذاكرة، إلا أن ثيمة الحُب والحزن قد توهجتا مع الذاكرة:

في المحبّة لم يساعده أحد

قلبه لا يزال صغيرا يا مجز الصغرى

يتوسل إليك ألا تكبري أكثر من هذا.

...

لماذا يرحلُ كل أولئك

حين لا أريد أن أكون هنا؟.

...

لا أستحقُ منك كل هذا

ضاقت الطفولة

وتمدّدت المقبرة.

...

كم سأموت بعيدا عنك؟

كم سأدفُنُ فيك؟

وتتسع دائرة الحزن في التقاء المكان والشخصيات فتصبح القرية مكان الرغبة في الالتقاء بعد الموت، يقول:

قلبُ العاشق مصباحه

مصباحُ العاشق انتحاره

وأنا لا أريد منك أي شيء

فقط أشبارا قليلة من التراب لأرقدَ أخيرا عند الطرف الملاصق لقبر محفوظة حبيب

أهذا كثير؟

أنا أحبك

ومحفوظةٌ دوما أنت يا مجز الصغرى.

هكذا يُشرع عبدالله حبيب ذاكرته الطويلة على فضاءات المكان وتداخل الشخصيات مانحا النص الشعري حركة دائمة في تمثلات الوصف، وتيارات الحُب والحزن التي تتوهج في مجموعاته الأخرى أيضا، والتي يبدو أنه يستعيدها بين النص والآخر، والمجموعة والأخرى مُفرغا فيها حمولات الذاكرة والحياة، والتي معها يمكنني القول إنها مشروع بحثي واسع يمكن من خلاله رصد الدلالات والتغيرات النصية في تجربة عبدالله حبيب الكتابية.