No Image
ثقافة

بين حصن جبرين وصحائف ابن رزيق

02 مارس 2024
02 مارس 2024

أمام بوابة حصن جبرين الجميل، يأفل نجم إمام حاكم، ويسطع نجم إمام آخر في زمن واحد، وكلاهما حكما عُمان أواخر القرن السابع عشر، ومطلع القرن الثامن عشر الميلاديين، أما الإمام الذي أفل نجمه، فهو: بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي (حكم: 1679-1692م)، والإمام الذي بزغ نجمه هو: سيف بن سلطان بن سيف اليعربي (حكم: 1692- 1711م)، وقد عرف بلعرب بذوقه الفني وحسه الأدبي الرفيعين، ظهر في بنائه لحصن جبرين، التحفة المعمارية الجميلة، شُيِّد الحصن في روضة جبرين، سامق في فضاء رحب، إلا من نخيل باسقة، تكسر سكون الصَّحراء، وتضفي اخضرارًا ناعمًا على المكان، كما عرف سيف بن سلطان اليعربي بلقب «قيد الأرض»، لشدة حزمه وعدله بين الناس.

وحكاية الأفول والبزوغ، سردتها لنا كتب التاريخ العماني، ولعل أفضل من قصها هو المؤرخ حميد بن محمد بن رزيق النخلي (1784-1874م) في كتابيه: «الشعاع الشائع باللمعان»، و«الفتح المبين»، في كليهما سرد لقصة عجيبة تنتهي بنهاية مؤلمة، فقد حاصر سيف بن سلطان اليعربي أخاه الإمام بلعرب بن سلطان، لتنحيته عن الحكم، فالأخ الفنان الأديب مشغول بتعليم طلبة العلم في قصره جبرين، الذي يعده الباحثون أول جامعة عمانية، خرَّجت مجموعة من الدارسين، بينهم الأديب والفقيه والشاعر، من مثل: خلف بن سنان الغافري، ومحمد بن عبدالله بن عبيدان، وراشد بن خميس الحبسي، وغيرهم، بعد أن استقر له الملك، وكأن الإمام غارق في الإعجاب بقصره، لكنه إعجاب ينتهي بحزن، وقد عبَّر عنه بهذين البيتين: (أفنَيْتُ عُمْرِي في عِمَارَةِ مَنزِلِي.. شيَّدْتُهُ وَجَعلتهُ لي مَسْكنا، (لمَّا أتَيْتُ إلى القبُورِ فَقالَ لِي.. عَقلِي سَتنقلُ مِنْ هُناكَ إلى هُنا).

وصدق حدس الإمام الأديب، حيث ثار عليه بعد سنوات أخوه سيف بن سلطان، فجيَّش الجيوش، وحَشَد القبائل، وكَسَب «أهل الحل والعقد»، ليقفوا في صفه، فهو بصدد أن يكون إماما على عمان بديلا عن أخيه، وقد آن للأخ الأكبر بلعرب أن يتخلَّى عن الحكم، وآن لسيف أن يحل محله، لذلك فإن أول خطوة سيقدم عليها، هو إرغام أخيه على التخلي عن الحكم ولو بالقوة، فذهب الأخ الطموح إلى جبرين بجيش جرَّار، وحاصر الحصن أياما وليالي، لم يخرج منه الأخ الأكبر مستسلما، ولم يقتحمه الأخ الأصغر حقنا للدماء، وبقي الحصار ينذر بخبر وشيك قادم، خبر يحلم به الإمام الطموح، لكنه سيحزنه بعد ذلك؛ لأن تفاصيله تنتهي بموت أخيه بلعرب!.

ألم يكن ثمة حل آخر لانتقال الحكم إلا بالموت؟، وهل قتل الأخ أخاه؟، لم يحبذ المؤرخ حميد بن محمد بن رزيق النخلي أن يذكر ما حدث كما هو متوقع، ولم يشر إلى قتل قيد الأرض لأخيه الإمام بلعرب، حتى لا يثير غضب محبي أخيه عليه، إنه يريد أن يكسب الجميع في صفه، فما هو الحل إذن؟

تقول الرواية كما يسردها ابن رزيق في كتابه «الشعاع الشائع باللمعان»: بلعرب أنهى هذا الحصار: فقد (توضأ وصلَّى نفلًا لله ركعتين، وسأل الله -عز وجل- أن يميته، فما فرغ من دعائه إلا وخرَّ ميتا على البساط الذي صلَّى فيه)، هكذا تنتهي قصة الحصار الطويل، أمام الحصن الجميل الذي بقي ثابتا، رغم المدافع التي ضربته.

ولأن ابن رزيق كما أراه في أكثر مؤلفاته راوية، يجيد سبك الحوار في النص، فإنه بعد أن خرَّ الإمام بلعرب ميتا على البساط الذي صلى فيه، خرج بعض خدامه من الحصن، وأخبروا أخاه سيفا بوفاته، فاتهمهم وقال:

-أقتلتموه قتلكم الله؟

فحلفوا له أنه مات حتف أنفه، ثم خرج أصحابه من الحصن، ومضوا إلى أخيه سيف، وأخبروه عن أخيه بلعرب، فمضى سيف إلى الحصن، وغسل أخاه بلعرب، وكفَّنه، وصلى عليه، ودفنه قريبا من الحصن، وقبره مشهور، وخلصت عمان إلى سيف ولم ينازعه فيها منازع، (دفن الإمام بلعرب داخل الحصن، ولعل ابن رزيق لم يزر الحصن، ولا يعلم عن مكان الضريح).

أسوق هذه القصة التي حدثت أمام أعتاب حصن جبرين ذات يوم من أيام عام 1692م، ورواها ابن رزيق النخلي بعد مائتي عام، بمناسبة تجمع الاثنين معا، وهما: القصر والمؤرخ، فقد أدرجتهما منظمة «اليونسكو» في نوفمبر 2023م، ضمن المعالم التاريخية والشخصيات المؤثرة عالميا، هكذا تجمع الأيام بين المؤرخ الذي رحل عن عالمنا قبل 150 عاما، وبين القصر الذي شُيِّد قبل 350 عاما، وكلاهما مؤثران في الحياة، القصر بملامحه الفنية وهندسته المذهلة، والمؤرخ الأديب بمؤلفاته المهمة والكثيرة، في التاريخ والشعر والأدب، وقائمة كتبه تثير الإعجاب والعجب.

قبل أسبوعين، احتفت أمانة اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم، بذكرى الشخصيات العمانية المؤثرة عالميا، والمدرجة في قائمة اليونسكو، وفي صدارتهما: ابن رزيق النخلي وحصن جبرين، المؤرخ بصحيفتيه: «القحطانية» و«العدنانية»، ومؤلفاته الأخرى في التاريخ، كالشعاع والفتح، ودواوينه ومنظوماته، والحصن بما يحويه من إبداع زخرفي، وما يشعه من إبهار جمالي، وبزخارفه وشرفاته وتشكليه الهندسي، وبما ضمه من أحداث، فقد كان ينبض بالحياة، وبقي رمزا لمجد يعربي آفل، شيده الإمام بلعرب بن سلطان، الذي لم يستمتع به كثيرا، ولعل زمن إقامته فيه لا تزيد عن عقدين من السنين.

اجتمعنا في ذلك المساء الاحتفائي، وشعرت أن هذه التحفة المعمارية الملهمة هي في استقبالنا، وأول ما وصلت المكان، رحت أطوف ببصري أرجاء المكان، ومع أن هذه الزيارة ليست الأولى للحصن، ولكن في كل زيارة أجد في الحصن جاذبية ورونقا، ولعلها دعوة زيارة متكررة، من الإمام النائم في ضريحه أسفل القصر. عند أعتاب جبرين، وكأنَّ صهيل خيول سيف بن سلطان، تتسلل إلى وجداني، وأصيخ السمع إلى حمحماتها، ولعلي بعين البصيرة أرى «قيد الأرض»، ممسكا بلجام خيله، مادًا بصره إلى شرفات جبرين، متى سينزل الإمام المحتمي به ليعلن استسلامه، فالحصار طال، وأرى عيون «بلعرب» تمتد خلسة بين حين وآخر إلى الساحة الخارجية، لعل أخاه قرر الانسحاب، ولكن الإمام الطموح لم يترك فرصة له، وكان وعد الله يأذن بالنهاية الحزينة.

ولأن الحديث عن الإمام بلعرب، فإنه لم يشد حصن جبرين فقط، بل نشر فكرة بناء الأسواق المغلقة، فشيد في منح سوقا طويلا، تتقابل دكاكينه، وفي الوسط مساحة تسمح بحركة الناس فيها، وظل السوق باقيا، نتردد عليه لشراء احتياجاتنا من أصحاب الدكاكين، حتى هدم منتصف الثمانينات الماضية، وضاعت منا تحفة تجارية رائعة، كان يمكن أن ترمم، كما رممت أسواق أخرى، في بهلا ونزوى وغيرها، ولكنه هدم بلا وعي لأهميته التاريخية.

أما حصن جبرين، فما تزال شرفاته، تستقبل انهمار ضياء الشمس، وانسكاب نور القمر، من نوافذ «غرفة الشمس والقمر»، وما يزال صوت الإمام بلعرب وأسرته، يتردد بين جنبات الحصن، في الجناح الخاص به، وما تزال النقوش الشعرية، تحدث الزائر بلسان شعري فصيح، نصوص نُقِشَت في أخشاب الغُرَف، وزُخرِفت بها جنبات السلالم.

وغير تلك النصوص، هناك نصوص أخرى نثرية وشعرية كثيرة كتبت لاحقا، فكل من زار الحصن كتب فيه قصيدة، منهم: الشاعر علي بن ناصر الريامي، والشاعر راشد بن خميس الحبسي، وسعيد بن محمد الغشري، والشاعر بدر بن هلال البوسعيدي، الذي نظم قصيدة في وصف حصن جبرين، منها: (يومِي بقصْرِكَ يا جَبرينُ قدْ قَصُرَتْ.. ساعاتهُ وَدَقيقُ الفَنِّ أفناها).