No Image
ثقافة

بول ريكور.. الـلاهوت واستقلالية الفلسفة

07 نوفمبر 2023
بين ضفتين
07 نوفمبر 2023

قبل وفاته عام 2005، كان الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (مواليد عام 1913)، قد أوصى بـ «توريث» مكتبته ومحفوظاته إلى مكتبة «كليّة اللاهوت البروتستانتية» في باريس.

هذه «المادة» التي تركها، شكلّت لاحقا ما عُرف باسم «صندوق ريكور»، الذي وهبه الفيلسوف، بإرادته، إلى لجنة مسؤولة عن مراقبة مصيرها التحريري النهائي؛ لكي تُنشر تباعا بعد وفاته. جمع مع ناشره الرئيسي «لو سوي» ثلاثة مجلدات من النصوص من مصادر مختلفة بعنوان «قراءات». وبنفس المنطق، بدأت «لو سوي»، بتوجيه من لجنة التحرير هذه، عام 2008 سلسلة جديدة من المجلدات، تحت اسم «كتابات ومحاضرات»؛ التي أصبحت في كتابها الخامس، حيث تمحور «الإصدار» الأخير (الصادر لغاية الآن) حول الدين.

لا تكرر هذه السلسلة بالضبط بنيّة الــ«قراءات»، التي بدأت بالسؤال السياسي، ومن ثم «غامرت» بالترحّل في «أصقاع الفلاسفة» وانتهى بها الأمر أن تكون على هامش الفلسفة: أي أن تصل فعلا على حدود العلاقات بين الفلسفة وما «تبعها»، ولا سيما اللاهوت.

من هنا جاءت «كتابات ومحاضرات»؛ لتفتح أفقها، في البداية، على سؤال لطالما شغف به ريكور، وهو سؤال التحليل النفسي «حول التحليل النفسي» 2008.

أما المجلد الثاني فقد تمّ تخصيصه لموضوع مركزي حول فكر الفيلسوف، وهو التأويل («التأويل»، 2010). عام 2013 صدر مجلد «الأنثروبولوجيا الفلسفية»؛ وفي عام 2019، صدرت نصوص تلتفت بشكل أكبر نحو الأخبار السياسية والاجتماعية («السياسة والاقتصاد والمجتمع»).

من الواضح أن عنوان هذا المجلد الخامس، «الدين من أجل التفكير»، ليس من وضع ريكور، ولكنه يتماشى إلى حدّ كبير مع روح المؤلف؛ إذ يأتي انطلاقا من عبارة العنوان الشهيرة لمقالة تعود إلى عام 1959، «الرمز يدفع إلى التفكير». من هنا يمكن أن نفهم الأمر بطرق مختلفة: التفكير في الدين (كما قد يكون الشعر مثلا لدى آخرين) أو الحاجة (تستخدم عبارة «الاعتماد على») إلى الدين للتفكير.

انطلاقا من ذلك يمكننا إعادة صوغ ما كتبه ريكور في ذاك المقال: الدين يعطي معنى، وما يعطيه، «التفكير، شيء للتفكير فيه. انطلاقا من الهبة، من الموضع».

يتشكل هذا الجزء الجديد من السلسلة من العديد من عدّة أوراق بحثية كانت قد قُدمت في «مؤتمرات كاستيلي» في روما. إذ كان إنريكو كاستيلي (1900-1977) قد شغل في تلك المدينة الإيطالية منصب رئيس فلسفة الدين في جامعة روما المرموقة سابينزا، وقد افتتح لقاءات فلسفة الدين منذ عام 1961.

من هنا تمّت دعوة بول ريكور إلى هناك مرارا (22 مرة)، وهذا ما جعله الفيلسوف الفرنسي الأكثر حضورا لهذه المؤتمرات، التي تشكلت إحدى موضوعاتها الأساسية من شروط وظروف إمكانية «الديني» في العالم الحديث.

من دون شك، هي تيمة تناسب تماما ريكور، هذا الفيلسوف الذي وضع مسألة الفهم الذاتي - في صميم فكره - للذات البشرية، من خلال قيامه بذلك الانعطاف عبر حوار وثيق مع العلوم الإنسانية واللغويات والتحليل النفسي والتاريخ والعلوم والأديان.

بمعنى آخر، نعرف جيدا، أن الاستقلالية الفلسفية، بالنسبة إلى ريكور، هي ممكنة فقط، من خلال «استعادة» غير الفلسفي». وبما أنه غير فلسفي بامتياز، فقد شكل الدين بالنسبة إلى ريكور، بؤرة من اللغات والمعتنقات التي قدمت له مادة للتفكير على ما يقرب الربع قرن.

من هنا، نجد أن 12محاضرة (تمتدّ من العام 1953 - إلى العام 2003) المقدمة هنا في هذا الكتاب، تشهد على تناسق وغنى وتنوع مقتربه العلماني والفلسفي للدين. فمن مسألة الشرّ إلى مشكلة الطبيعة الشعرية للغة الدينية، مرورا بتقييم صحة - أو عدم - الانتقادات (الفرويدية والماركسية، إلى ما هنالك) للعلاقة بين التجربة واللغة في الخطاب الديني دراسات محدّدة للتأويل الكتابي من خلال تأملات في التضحية والديون والعطاء، يعتمد ريكور على الدين للتفكير، بينما يفكر باستمرار في الدين لنفسه.

ثمة نصان يشهدان في هذا الكتاب على مشاركة ريكور النشطة في مؤتمرات كاستيلي وتوافقها مع اهتماماته الخاصة: «تأويلات العلمنة» و»الخضوع و/ أو الاستقلالية». في النص الأول، يبين لنا كيف يساهم الإيمان أيضا في الأيديولوجيا واليوتوبيا، أي في تقليد (أغنى وأكثر تعقيدًا من «الهوية») كما يساهم في الأمل؛ أما في الثاني، فيناقش أحدث مذاهب الاستقلالية البشرية (هابرماس، كارل أوتو أبيل) من خلال العودة إلى كانط وإلى التأكيد المتناقض لاستقلال الإنسان الذي يحتاج إلى عملية إعادة تأهيل في قدراته.

يشير هذا المصطلح الأخير إلى اهتمام آخر بهذا العمل، ألا وهو الطريقة التي يُجدد بها ريكور الفكرة القديمة في لاهوت الإنسان Capax Dei (جدير بالله)، أي عن انفتاح الإنسان على الاحتمالات التي تتجاوز حدوده المحدودة. إنه لا يتعامل معها على أنها لاهوت، ولكن في إطار أنثروبولوجيته الفلسفية، وهي طريقة لعدم التخلي عمّا كان عليه موضوع أعماله الأولى (فلسفة الإرادة، 1950-1960)؛ إنه لا يقترب منها بشكل مباشر إذ أن انتباهه توقف، إذا جاز التعبير، عند الحدّ الأقصى عن طريق حذف Dei، من دون تحديها ولكن في رغبته في أن يبقى فيلسوفا. السؤال هنا هو ما إذا كان ريكور قد اتخذ المقياس لظهور مفهوم جديد للمحدودية روج له مفكرون مثل هيدغر، فوكو، كما أيضا باتاي وجان لوك نانسي، لم يعد يُعرَّف فيما يتعلق باللانهاية، ويتوقف تفسيره على أنه حد، بل على العكس من ذلك على أنه فتح. في مواجهة هذه المحدودية الجديدة، يرد ريكور، بلغة كانط المخلص، بأنه يتجاهل أو يتظاهر بجرأة أنه يتجاهل مسألة الشرّ الجذري الذي يفصلنا عن قدرتنا الحقيقية على التصرف وفقا للخير ولا يقول شيئًا عن إمكانية جماعية «لتقديم هذا الصلاح».

لكن هل تمسك ريكور حقًا باللاإدرية؟ يمكننا أن نشك في ذلك بشكل شرعي: المراجع الكتابية عديدة بالفعل في مقالاته الفلسفية. يبدو أنها في بعض الأحيان، توجه تفكيره. ومع ذلك، لا يوجد تناقض بالنسبة إلى بول ريكور: إذا كان يجب عدم استخدام الدين في إطار التفكير، فيمكن مع ذلك أن يلعب دورا في الكشف عن المشكلات الفلسفية البحتة.

بشرط اعتباره مجالا شعريا. «الوظيفة الأسطورية الشعرية» هي أداة استثنائية لاستكشاف الوجود. يلقي الضوء على أبعاد معينة من حياة الإنسان. من عمله على الشر والبراءة، والخطأ والذنب، والإرادة واللاإرادية، يسترشد كل انعكاس ريكور بهذه المعالم الرمزية، التي تجعل الواقع يظهر في ضوء جديد.

سيكون من الخطأ إذا، بالنسبة إلى ريكور، حرمان نفسه من هذا الثراء المقدم للتفسير تماما كما سيكون، بلا شك، قطع الفلسفة عن الأدب. وينطبق الشيء نفسه أيضا على النقاش العام. إنها مساحة لمناقشة عقلانية، لكنها مع ذلك تتغذى من تعدّد وجهات النظر حول العالم. لهذا السبب، إلى تجاوزات «علمانية الامتناع» التي تخلو كليا من القناعات، ينادي ريكور بـ «علمانية المواجهة،...» ديناميكية، نشطة، جدلية، روحها مرتبطة بروح المناقشة العامة. دعوة ترحيبية للتصالح مع «الاختلافات غير القابلة للحلّ» التي تحدد أوقاتنا بشكل فريد بدلا من التظاهر بعدم وجود هذه الاختلافات.