ثقافة

الفلسفة والتفكير في السؤال الخطأ

22 نوفمبر 2022
22 نوفمبر 2022

بالنسبة إلى احتفال العالم باليوم العالمي للفلسفة لا مجال إلى جلد الذّات. فالعالم بتعبير الباحث حسن أوزال في كتاب (أفول الحقيقة: الإنسان ينقض ذاته) أخذ يستجيب "لقوى العدم الوحشية التي باتت تتزعم عصر التقنية -الذي هو عصرنا- والواقع أن إرادة القوة ذات الطابع العقلاني والحسابي المسيطرة اليوم هي ما أفرز عدة ظواهر: نزوع العلم نحو السلطة، الدولة الشمولية، اختفاء المقدس، دمار الأرض وقطيعية أو غوغائية الإنسان" فالنهاية بما تجلى لعالم يسير نحو التسلّط والوحشية والاستعلاء بكل ثقة، أم الفلسفة فآخذة في التراجع والانحسار بلا توقف.

من جميل التكوينات التي كونتني في أثناء مرحلة الدراسة الجامعية هي دراستي للفلسفة. درستها دون اكتراث بيوم خصصه العالم للاحتفال بها. درستها منطلقة من باب السؤال وحبّ الفضول والدهشة والحيرة واكتساب المعرفة التي تسكنني وتقلقني حول وجودي، وقد استقرت هذه المنطلقات في كتابتي للمسرح وعشقي له. بدأتْ الأسئلة معي منذ طفولتي في منطقة الحصن، حيث مدرسة قصر الرباط الخاصّة وعالم من الأسرار يكتنف الناس في علاقاتهم مع السلطة والمقدس وحاراتهم الثلاث؛ النبات، السجن، والبترول.

عندما تيسرّت معي الأمور للسفر إلى الأردن والالتحاق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة الأردنية لدراسة الفلسفة لم يَكن التخصص بها اهتمامي الأول، لأنّ التفكير بدراستها ضمن مساقات يخضع فيها الطالب / أو الإنسان لدرجات الرسوب أو النجاح أو التكميل، لم يكن يخطر في بالي، وما ظننته يوما أنه سيشكِّل بعض محطات حياتي. فَهل تُدرَّس الفلسفة؟ وهل يَتعلم المرء من خلالها طرق التفكير والمنطق في عالم بشري لا منطق له؟ لكننيّ التحقتُ بالقسم وتعرفت على أساتذته الأفاضل الذين سأظل أذكرهم بكّل الخير والمحبّة؛ وأذكر منهم: نايف أديب، سليمان مخادمة، وليد عطاري، سلمان البدور. لقد كان قرار دراستها بعد تأمل ونقاش مع العائلة يحتاج إلى الكثير لا القليل من الجرأة والشجاعة.

نظريا، تزامن تسجيلي لدراسة مواد في الفلسفة ضمن ساعات مخصصة لطلبة التربية والدراسات العليا. فقد ترتب وصولي للجامعة الأردنية مع دَفعات الطالبات العُمانيات اللائي يبدأن تسجيلهن للفصل الدراسي بعد انتهاء تسجيل طلبة البكالوريوس بأسبوع، لذا كنت أذهب إلى محاضرتين في الفلسفة في وقت المساء، ولشّد ما أزعجني الأمر في بدايته، لكنني مع الوقت استثمرت الصباحات الجميلة في الذهاب للمكتبة أو التسكع في وسط مدينة عمّان وضواحيها. سجلتُ مادة مبتدئة يدور فلكها في هذا السؤال: ما هي الفلسفة؟ وكان أستاذ المادة أقرب إلى هيئة الفلاسفة الذين طبعتهم الصورة الذهنية عن أناس يكترثون بالفكر والعقل والتقشّف والزُهد ولكنهم يعيشون حياة بوهيمية! يا لها من صورة نمطية؛ قاسية وكاذبة وكلها ادعاء! لم يكن أستاذ المادة مهملا في شيء إلاّ في صحته! كان يأتي إلى المحاضرة مرهقا ليُدرّسنا وكنا نشفق على وضعه الصحي وتناقض العلاقة ما بين البدن والروح. كَابر كثيرًا حتى وقع أرضا وغاب عن الدرس لأيام، ثم عاد ليستأنف حياة الفلسفة وعزاءاتها. من الغريب المدهش أن سؤال ما هي الفلسفة كنا نناقش فيه أسئلة وأفكارا من قبيل: أيهما جاء أولا المادة أم الروح؟ وهذا السؤال تم تبسيطه عبر مناقشة تجري في محيط الحكاية الشعبية والتفكير البسيط كالقول: مَن سَبق مَن، البيضة أم الدجاجة! لاحقا، تجسّد تفكيري حول هذه العلاقة الجدلية عبر سؤال وظفّته في مسرحيتين لي على نحو من الأنحاء: مَن يَسبق مَن الرصاصة أم صوتها؟

جديّات، أَبدع أستاذ مادة مدخل إلى الفلسفة في دفعنا إلى التفكير الحرّ، المستقِّل، وإعمال العقل، وتحفيز طاقة وضع السؤال الخطأ! لا شك، كلنا مررّنا في طفولتنا بأنواع من الأسئلة الممنوعة، أسئلة مفاتيحها "الوقائع الطبيعية المختلطة بالمعاني المجردة"؛ ما الحرام؟ ما الحلال؟، ما الدين؟، ما الإله؟، ما الوجود؟، ما الحقيقة؟، ما الموت؟ تلك الأسئلة التي تَنشأ في دائرة صفر العقل. ماذا يُمكن أن يَتعلّم الإنسانُ في مادة (مدخل عام إلى الفلسفة؟) سيتعلّم فضّ المفاهيم والمصطلحات وسيفكر تفكيرا نقديا وفلسفيا في إعادة الأشياء إلى أماكنها وسيشمل ذلك كل شيء؛ ابتداءً من العقل والطبيعة والوجود والموت والإنسان. لكنها لن تعلمه الحُّب، أو الكتابة الإبداعية، أو كسب العيش اليوميّ لتوفير الطعام أو الذهاب إلى الحمام. ستدفعه إلى التفكير في المنطق وتعلّم كنه الموجودات ونظريات خلق الكون، لكنها لن تدله على كيف يَحتال على الخداع والزيف، ولا الاحتفال باللحظات العابرة، ولا قياس درجة الألم، ولا تحمّل درجات الخذلان، ولا التكيف مع المرض، ولا الفشل، ولا الرسوب، ولا إمكانية أن تكون ما تشاء في الوقت الذي تشاؤه! كأننا نفترض نظرية جاهزة عن تعلّم الفلسفة!

من أشّد العلاقات جدليّة مع الفلسفة هي المسرح. وبغض النظر عن إثارة السؤال التقليدي الذي يعرفه العارفون: ما علاقة الفلسفة بالمسرح أو المسرح بالفلسفة؟ وهو سؤال قد كفانا الباحث كمال فهمي في كتابه (الفلسفة والمسرح) مناقشة إجابته باستفاضة مناسبة. لكن، يحلو لي في هذه العجالة، أن أستحضر مقولة (مشيل كورفان Corvin Michel) في معرض حديثه عن المسرح الجديد في فرنسا القائلة: "يعيش المسرح من إنكاراته." ينطلق فهمنا للمسرح على عدد من المرتكزات الفلسفية والإنكارات الفكرية والتيارات والمذاهب؛ الكلاسيكية، والرومانسية، والملحمية، والوجودية، والبنيوية، والتفكيكية، والنسوية، والكولونيالية. ثمة مرتكزات تشكل قاعدة لفهم علاقة المسرح مع الفلسفة ونشأته، أهمها فلسفة أرسطو الذي لم يكن مسرحيا تمامًا، ولم يذهب إلى المسرح ولم يشاهده، ولم يبك على انهيارات أبطاله التراجيديين، ولا على كوميديات أرستوفان والملاهي القاتلة! هكذا تُخبرنا أمهات المجلدات لفهم تاريخ المسرح في العصور القديمة لما قبل الميلاد، حيث كان تفسير الكون والإنسان يمران عبر الأساطير الخالدة.

من نافل القول، إن أرسطو كما بحث في الفنّ، كذلك بحث في علوم أخرى كالطبيعة واللاهوت والسياسة ونُظمها واشتغالها. ويذهب عبدالرحمن بدوي إلى أن مؤلفات أرسطو الخاصّة بالفنّ لم يبق لنا منها غير كتاب فنّ الشّعر، وأنّ الكتاب في نصِّه الحالي ناقص. يقول: "نخطئ كثيرا إذا ما اتخذنا من كتاب الشّعر لأرسطو، المعبر الحقيقي عن مذهبه في الفنّ، فإنّ هذا الكتاب ناقصٌ كلّ النقصِ، كما أنّه لا يدل على فكرة الفنّ الحقيقة عنده، لأنّ الفنّ لم يكن عنده مقسمًا كما هي الحال اليوم، إلى فنّ بوجّه عام، وإلى فنّ جميل بوجّه خاص، وإنّما الذي يريد أن يجد مذهب أرسطو في الفنّ، فعليه أنّ يكشف عنه في الطبيعيات، وفيما بعد الطبيعة، ثم في كتاب السياسة، إلى جانب كتاب الخطابة."

تملكتنا علاقتنا مع المسرح من خلال كتاب فنّ الشعر. وكما قال لي أحد الموسوسين بالمسرح: يُمكن لكائن مَن كان أن يخطئ في قراءة فلسفة المسرح إلا الخطأ في ذم أرسطو! هذا الاعتقاد بهيمنة أرسطو القادم إلى المسرح من داخل الفلسفة لم ينل منه أحد إلا القليل النادر، تلك الهيمنة التي يكتب عنها الباحث سعيد كريمي في دراسته (مسرح العبث خلخلة فكرية وثورة جمالية) قائلا: "الشعرية الأرسطية التي اعتبرت لقرون طويلة رمادًا مبجلًا لا يجوز المساس به أو الخروج قيد أنملة عن أدبياته"، يجري اليوم عليها الهجوم والنقد والانقلاب، حيث أخذت تظهر دراسات مترجمة من الفرنسية حول مصاص دماء المسرح الغربي؛ أرسطو بامتياز. ماذا فعل أرسطو بحق الجحيم؟ وكيف سيطرت نظريته حول نشأة الدراما في عالمنا كله؟ والسؤال المهم كيف استطاع اللامسرحي في الفلسفة أن يكون فيلسوفا في المسرح؟

لقد تمكن حضور أرسطو منّا جميعا. لهذا فإن الدعوات التي تنادي اليوم بالمسرح الرقمي، هي أحد أشكال تقدير وضع فلسفة جديدة للمسرح، وتشجيع السؤال الخاطئ إلى مقدمة النقاش، إنّه بتعبير الباحث عبدالسلام بن عبد العالي في كتابه (لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعِدني) هناك "طريقتان للتعامل مع الفلاسفة ونصوصهم: طريقة تدفعنا لأن نفكِّر مع الفلاسفة وضدَّهم وبرفقتهم، نشتغل على نصوصهم، وننشغل بها، وطريقة أخرى نقتصر فيها على الاشتغال بالنصوص، وتوظيفها، بل والاستناد عليها."

ما أحوجنا على هامش جلد ذواتنا، أن نؤكد مع المهتمين بالفلسفة، ليس ابتهاجا بيومها المأزوم في العالم الهشّ، بل حرصًا على وضع الفلسفة في مناهج التعليم المدرسية والجامعية وتدريسها كمادة محترمة وأساسية لتحفيز ملكة التفكير والإبداع والنقد، كالموسيقى والفنون الجميلة.