ثقافة

الفائز بجائزة كتارا للرواية محمد تركي الدعفيس: الجائزة أكدت الحضور الجيد للرواية السورية في خارطة الرواية العربية

03 نوفمبر 2023
أشاد بالمنجز الروائي العماني الذي يحظى بالتقدير والجوائز ويسير بثبات
03 نوفمبر 2023

التفكير بالجوائز ضرب من إهدار الوقت وقلة من الكتاب يكتبون لأجل جائزة

تغييب المكان في رواياتي مقصود كي أفسح للقارئ استحضار المكان الذي يرغبه

ظفر الرواية العمانية بعدد من الجوائز وضعها تحت مجهر المراقبة والتمحيص وأثبت أنها متطورة غنية وكتّابها نجحوا في الاشتباك مع المنجز الروائي عربيا وعالميا

تفوق الروائي العماني ليس طفرة حدثت في غفلة من الوقت ولا ظاهرة ستختفي على عجالة وإنما هو تعبير عن حالة نهوض عامة للرواية العمانية تختصر الزمن وتسابقه

قدم الروائي السوري محمد تركي الدعفيس نفسه بقوة في المشهد الروائي السوري والعربي عندما استطاع خلال السنوات الثماني الماضية الوصول إلى واحدة من أرفع الجوائز العربية «كتارا» عبر روايته الخامسة «مدينة يسكنها الجنون» وهو الذي كان له حضور أدبي آخر عبر عدد من الأعمال الشعرية والنثرية والقصص القصيرة.

لم يكن الأدب فقط مهنته، بل كان متمرسا في الصحافة التي اشتغل فيها ولا يزال منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، واستطاع خلالها أن يثبت نفسه وينقل الأسلوب الأدبي السلس للكتابات التي كان يقدمها.

ورغم أنه السوري الوحيد المتوج في هذا الموسم من الجائزة إلا أنه لم يُحتفَ به من الجهات الثقافية السورية.

إنحاز الدعفيس في كتاباته للشرائح المسحوقة في المجتمع، واستطاع أن ينهل من الفجيعة السورية التي حلت عليهم وبالًا كثيرا من القصص التي يزخر بها الواقع على مدار السنوات الماضية.

امتازت رواياته بسلاسة السرد واللغة الباذخة التي أضفت على الأعمال كثيرا من الجودة الروائية التي تشد القارئ.

الدعفيس فتح قلبه في أول إطلالة إعلامية له لصحيفة «عُمان» في هذا الحوار الذي أجاب به عن كل تساؤلاتنا.

نبدأ من حيث الحدث الأخير وجائزة كتارا للرواية العربية التي حصلت عليها عبر روايتك «مدينة يسكنها الجنون»، هل كنت تتوقع الجائزة؟ وهل كتبت الرواية من أجلها؟ وما هو تأثير الجائزة على الأديب وأعماله؟

في كل عمل تقدمه ثمة مؤشرات لها علاقة بمستوى رضاك قبل أن تتعلق بتقييم الآخرين، إنها تنبئك عما إن كنت قد أتيت بما يُلبي ما تطلبته المحرضات التي دفعتك من الأساس لأداء هذا العمل.

ثمة معيار شخصي ـ وهو الأهم ـ يزن عملك، إنه يتعلق بالرؤية التي تود طرحها، وبمفهومك لعملك الإبداعي، وبالتالي فالانشغال بما إن كانت الرواية ستفوز في مسابقة ما من عدمه ليس إلا ضربا من إهدار الوقت فيما لا يلزم. وأعتقد كذلك أن هناك قلة من الكتاب فقط هم الذين يكتبون رواية من أجل جائزة. الأمر أشبه بمقامرة غير مضمونة، فيما المضمون هو أن تبدع عملا تراه وفق معيارك الشخصي كما ذكرت ملبيا لطموحك، هنا ينتهي دورك ككاتب، ثم يبدأ دور المتلقي، إنه الحَكَمْ الأدق.

والجائزة ـ أي جائزة ـ كما أراها هي بمثابة بوصلة تشير إلى أن لدى هذا الأديب أو ذاك ما يستحق الالتفات إليه، إنها تضع عمله في دائرة الاهتمام، لكنها تأتي في المحصلة تثمينا لهذا العمل وليست بناء له.

كيف كان وقع الجائزة عليك كسوري وحيد في هذه الدورة؟

دعنا نتفق أن الفوز كسوري بالجائزة في دورتها الأخيرة هو من قبيل تأكيد الحضور الجيد للرواية السورية التي حققت كثيرا من النجاحات وقدمت أسماء مهمة ولا شك في خارطة الرواية العربية عموما.

كسوري وحيد كان الأمر امتيازا مناطه وجود الرواية السورية على مستوى لائق من الأهمية، ومن المؤكد أن ردود الفعل عليها كانت إيجابية، وانعكست على شكل تهنئات كثيرة من رؤساء جامعات وأكاديميين ومثقفين وكتاب وشعراء وفنانين وإعلاميين وقراء، وكل هؤلاء شكلوا طيفا واسعا يبعث على البهجة.

«مدينة يسكنها الجنون» هو عنوان روايتك الفائزة، ولا شك أن للجنون تفاصيل موغلة بالخيوط الدرامية والتراجيدية، لماذا اخترت أن تُسكن الجنون في مدينة روايتك؟

الجنون حولنا في كل مكان، إنه يعيث في الأرجاء ويتجسد بصور عدة، بعضها ندركه ونتلمسه ببساطة وبعضها يخاتلنا بهيئات عدة.

ولا يبدو غريبا أن يسكن الجنون مدننا، فالمدن هي صورنا، ماضينا وحاضرنا، توقعاتنا وخيباتنا، نجاحاتنا وإخفاقاتنا، تفاؤلنا وإحباطنا. وهي المنجم الذي نغوص فيه فنخرج منه إما بسخام يشوه وجوهنا ويمسخ ملامحنا، أو نخرج منه بذهب يشبعنا بالبريق ويهبنا الثراء. المدن حكايات تُعلّم وتلهم، وهي في الرواية ليست مجرد بيوت وأبواب وأزقة وشوارع، إنها عالم بكل تناقضاته، إنها المرآة الفاضحة لأفعالنا ورغباتنا وهواجسنا وحتى لا مبالاتنا.

أصدرت أربع روايات سابقة، كنت فيها جميعها منحازا للإنسان المقهور الذي طحنته الحرب والمآسي والواقع الاقتصادي، في «الرصاصة تقتل مرتين»، وفي «قوافل الريح»، وفي «البلم» وحتى في «هي الراهب» كانت طبول مآسي الواقع تقرع بقوة في كتاباتك؟.

في المعادلة الإنسانية أؤمن أن الإنسان المطحون هو العنصر الأهم، ومآسيه هي الموضوع الأجدر بالنقاش.

أولئك الذين في السلطة، وأولئك الذين يمتلكون القوة سواء كانت نفسية أو جسدية، وأولئك المتكئون في ظلال ذوي النفوذ، جميعهم يتخلون عن قليل أو كثير من آدميتهم تحقيقا لمصالحهم، أما المطحونون فما زالوا أنقياء في الصميم والظاهر، وما زالوا يسددون الأثمان الباهظة لنقائهم، وما زالوا الأحق بالانحياز إليهم وإبراز أوجاعهم.

المطحونون عالم ثري بالحكايا، إنهم مسكونون بالصمت، وفي الصمت كثير من البوح، إنه فقط يحتاج لمن يحسن الاستماع.

روايتك الأخيرة التي سبقت فوزك بجائزة كتارا حملت عنوان «البلم»، وقد وجدت أصداء واسعة من الاهتمام، وكثيرون ممن قرأوها من المهتمين والنقاد رأوا أنها ولدت من رحم التغريبة السورية التي استهدفت المواطن، وكان النزف فيها ليس دما فقط، بل كفاءات هاجرت وأجيال وجدت نفسها في خيمة واسعة عنوانها الغربة، كيف كانت تجربتك مع «البلم» وأنت الذي عشت الكثير من تفاصيلها؟

تجربة «البلم» هي حكاية وجع ما يجنيه الإنسان حين يُسلم مصيره للآخرين فيتعاقبون على استغلاله.

هي ليست تجربة ذاتية، هي حكاية كل أولئك الذين ألقوا بأنفسهم إلى البحر ليحملهم إلى الأمان فحملهم إلى الضياع.

هي حكاية الأماكن التي كانت أحلاما فصارت كوابيس.. حكاية قسوة الإنسان على الإنسان.. حكاية الانكسارات التي لا تتوقف.

إذا فـ«البلم» عندك لم يكن وسيلة الوصول إلى شاطئ الأمان. مثل كثير من الدروب المحفوفة بالموت الذي كان يترقب الفارين من الجحيم السوري، هل ستواصل في مشروعك السردي هذه التحولات التي أنهكت السوريين وترصدها في روايات أخرى؟

«الرصاصة تقتل مرتين»، و«قوافل الريح» و«البلم» وحتى «هي والراهب» كانت بمثابة مشروع سردي، لكن من يجزم أنه انتهى؟!.

فكرة الرواية قد تولد في لحظة، أحيانا تأتي من رحم كلمة، ومن رحم مشهد، ومن رحم شعور، حين تصاب كل هذه الأشياء بالعقم يمكن للرواية وللمشروع أن تتوقف، وحتى ذلك الحين سأواصل الكتابة.

رواية «الرصاصة تقتل مرتين» تحمل عنوانا موحيا للقراءة، وفيها ما يشد من التفاصيل الكثيرة والمريرة، وقد أصدرتها في عز البركان السوري وهو يغلي، كيف كانت الولادة؟ وألم تخش من تلك الحسابات التصنيفية التي كانت توزع على المثقفين؟ وهل وحدها الرصاصة هي القاتلة للإنسان؟

«الرصاصة تقتل مرتين» كانت بمثابة النبوءة المبكرة، لقد كتبت في النصف الثاني من 2014، وصدرت في العام التالي له.

كانت رواية الإرهاصات التي قادت إلى الانفجار، ورواية الإرهاصات التي قادت إلى هذا التشرذم.

الرواية كانت تقول إن العنف لا يجلب إلا العنف، وأن الرصاصة التي تُطلق لا تقتل فقط من تصيبه، بل تقتل معه - ولدى كل من يعنيهم- القدرة على الصفح والتسامح.

أما التصنيف، فتلك حكاية أخرى، البعض يأخذك إلى هذه الضفة أو تلك وفقا لموقفه الشخصي منك، وليس تبعا لموقفك الموضوعي، ولذا فأنا أترك تلك التصنيفات لأصحابها.

دعني أعود لروايتك الثالثة «هي والراهب» التي صدرت أيضا خلال الحرب، رغم أنك لم تشر فيها إلى ما يجري على أرض الواقع، ورغم سلاسة السرد فيها الذي يبعدنا عن أجواء الحرب، أليست سراب الفتاة الفقيرة الحالمة، والكاتب أحمد صابر والراهب وبقية الشخوص هم تراكمات مجتمعية أدت للفجيعة السورية التي تكشف من خلالها هشاشة المجتمع وما يدور في كواليسه؟.

«هي والراهب» كشفت هشاشة ما ندعيه عن التصالح مع الآخر، وكيف تسقط شعارات قبول الآخر التي نرفعها حين نواجه الامتحانات الحقيقية لجدية قبوله؟

إنها تعري المجتمع الذي تحركه غريزة القطيع، وتعري الخيانة، وتعري النفاق والزيف.

ربما هي كما تشير تبعد قليلا عن أجواء الحرب في ظاهرها، لكنها في الجوهر تتحدث عن مجتمعاتنا التي تبدو دوما على شفير حروب كثيرة لأن أحدا لم يعمل على إطفاء عوامل اشتعالها. دفن الجمر بالرماد لا يعني انتفاء احتمالية اشتعال النيران.

كم يوحي الواقع للكاتب الروائي؟ وإلى أي حد يلتزم الكاتب بما حوله؟ وهل الواقعية المحلية باعتقادك هي الطريق الأشمل للانتشار والجوائز، وأنت القائل يوما «الكاتب الذي لا يصطاد موضوعات أعماله من الواقع يكتب شهادة إخفاقه»؟

الواقع يوحي بكل ما يمكن قوله، لكن الكاتب ليس عدسة كاميرا حتى يبقى ملتزما فقط بما حوله، إنه أمر يتعارض مع الإبداع.

ربما يصدق من يقولون إن المحلية هي الطريق للعالمية وللانتشار، وربما لهذا رأينا روايات مثل «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي تفوز بعدة جوائز، و«تغريبة القافر» لزهران القاسمي تفوز بالبوكر، ورأينا روايات نجيب محفوظ تمنحه نوبل للآداب، و«موسم الهجرة إلى الشمال» تجعل من الطيب صالح علامة فارقة، و«ساق البامبو» تمنح سعود السنعوسي ألقا مدهشا.

الواقع ثري ثراء الحياة، وحتى من يكتبون روايات فيها صدى للأساطير والعوالم الغرائبية لا يبتعدون في اعتقادي عن الواقع وإن كانوا يهربون بالتصنيفات الروائية التي يلجؤون إليها نحو تجنب ما لا يريدون له أن يعطل مشروعهم الروائي، بما فيه مقص الرقيب، والرقيب هنا ليس الرقيب السياسي فقط، بل حتى الرقيب الاجتماعي.

ما بين التجريب والتمسك بكلاسيكية الرواية التي تتسيّد المشهد الأدبي، هناك آراء مختلفة، إلى من اتجاه تجد نفسك ميالا أكثر؟

كل رواية هي خلق لعالم من صنع الروائي، هي تجربته ورؤيته، وهي منظوره للأشياء والأفكار.

للرواية فكرتها وأحداثها وشخوصها، وهنا قد يصب الأمر في خانة كلاسيكية الرواية، لكنني أرى أن كل رواية جديدة هي تجريب، ليس على مستوى الشكل السردي الذي نختاره عن وعي لكتابتها، بل أرى أن الرواية في مجملها تجريب للفكرة والموضوع والأسلوب والطرح. إنها إبداع، والإبداع يتخطى النمطية.

وإن كنا نتحدث عن التجريب بأنه مثلا كسر لقوالب الزمن الكلاسيكية المتعلقة بخط سردي له بداية واستمرارية ونهاية فيمكن لعملي أن يُحسب في جانب التجريب، على الأقل في رواية «مدينة يسكنها الجنون»، وإن كان كسر القوالب الكلاسيكية له صلة بأن قد تقرأ روايتين في رواية واحدة، تلتقيان وتنفصمان في سياق له ما يبرره فإن هذا ما تحققه «مدينة يسكنها الجنون» أيضا.

اليوم وفي ظل الانشغالات الكثيرة للقارئ، وفي عصر عنوانه السرعة في كل شيء، حتى على مستوى التعاطي مع الرواية، فإن الظفر بقارئ تعد مغامرة تستلزم أن تجرب وتجرب حتى يذيع التجريب ويشيع ويصبح حالة كلاسيكية.

هل كان من قبيل التجريب أيضًا أن يكون المكان في رواياتك بلا اسم. مع أن المكان يشكل في الغالب ثيمة أدبية يبني عليها الكاتب سرديته الروائية؟ هل كانت تغييب اسم المكان مقصودا في رواياتك؟

نعم، لقد كان تغييب اسم المكان مقصودا. إنه تغييب يجعل من مكان الرواية كل مكان، ربما من الممتع أن يقول القارئ عن المدينة التي أكتبها في الرواية: هذه مدينتي.

ومن المفرح أن يصرخ حين يصادف شخصية تعبر شارعا بعينه من شوارع الرواية: إنه شارعي.

حين نقرأ رواية محددة المكان فإننا نستحضر ما نعرفه عن مكانها ونحن نطالعها حتى لو لم يعرّج كاتبها إلى تفاصيل المكان. عندما تدور روايتنا في دمشق على سبيل المثال، يستحضر القارئ بمجرد أن يعرف أن أحداثها تدور في ذلك الحيز المكاني، شوارع المدينة وسورها العتيق وسوقها الأشهر واختراق بردى لأحيائها. ومن هنا أرى أن المكان بقدر ما يشكل فضاء رحبا واسعا، قد يشكل كذلك حيزا محددا مقيدا، وما يختاره الكاتب يعود في البدء والخاتمة حتما إلى رؤيته لعمله وإلى خياره في أن يجعل أماكنه تحمل أسماءها أو أن يجعلها كل مكان يمكن للقارئ أن يتصوره.

بالعودة إلى الحديث عن «مدينة يسكنها الجنون» التي ستتولى كتارا كذلك ترجمتها إلى الإنجليزية. إلى أي حد يمكن لترجمة الرواية أن تنقلها إلى آفاق أرحب وأوسع من إطارها المحلي، وأقصد به هنا الإطار العربي؟ وهل يمكن القول أن ترجمة الرواية هو طرق لباب العالمية؟

لابد من التأكيد على أهمية الترجمة في نقل ما لدينا للآخر، مثلما تلقينا عبرها أيضا ما لديه.. الترجمة قدمت لنا كقراء عرب أدب أمريكا اللاتينية والأدب الروسي والخ، وعبر الترجمة عرفنا جابرييل جارسيا ماركيز وباولو كويلو وخورخي أمادو، وقرأنا لانطوان تشيخوف تولستوي وجوجول، وطالعنا ما كتبه أورهان باموق، ورأينا ما سطره هاروكي موراكامي، واستطلعنا عوالم خالد الحسيني وفرانز كافكا وجورج أورويل.

الرواية في النهاية تذكرة سفر، تحملنا إلى عالم الآخر، نعرف من خلالها كيف تفكر المجتمعات والأفراد، كيف يعيشون، وما هي أحلامهم وأمنياتهم وما هي الأسئلة التي تشغلهم.

اليوم لدي كثير من الأصدقاء غير العرب، كثيرا ما كانوا يسألون عن رواياتي وما الذي تتناوله، وكنت أقدم لهم فكرة موجزة عن كل منها. الآن لن أكون في حاجة إلى الإيجاز، سيكون بإمكانهم أن يقرأوا «مدينة يسكنها الجنون» بلغتهم، أو على الأقل بلغة وسيطة يمكنهم فهمها. وسيكون مهما للغاية أن أتلمس الانطباع الذي ستخلفه لديهم.

وبالحديث عن مفهوم العالمية، فيمكن القول إنه مقابل تلك الأعمال الخالدة التي وصلتنا من آداب اللغات الأخرى، والتي تستحق أن نقول عنها لروعة فكرتها وطريقة معالجتها إنها روايات عالمية، لا شك أن هناك أعمال دون المستوى، وهناك أيضا أعمال أخرى لم تحظ بفرصة نقلها إلى لغات أخرى غير لغة كاتبها. وبالتالي فإنني أجد وصفك دقيقا «تطرق باب العالمية»، وأوافق على أن ترجمة الرواية إلى لغة عالمية مهمة مثل الإنجليزية أمر في صالح الرواية، لكنها وإن كانت اليوم تطرق الباب، فإن علينا أن ننتظر قليلا لنعرف ما إن كان قد فُتح لها، أم بقي موصدا في وجهها.

يتماهى الكاتب أحيانا مع شخصياته الروائية، يتخاصم معها ويتصالح، تسيطر عليه وتؤرقه، هل ترى أن شخصياتك تتعالق معك فتفرض عليك مزاجها، خصوصًا وأنك تركز كثيرا على المونولوج الداخلي للشخصيات وتبحر عميقا في تلمس تفاصيلها الدقيقة؟

لنقل بداية أنني أعنى كثيرا بالتفاصيل، وأحرص على تكوين شخصيات أعمالي لتكون من لحم ودم، شخصيات قابلة للتصديق، تؤثر وتتأثر، تنهض وتنكسر، تنجح وتخفق، ولا أنكر أن هذه الشخصيات تعيش معي وأفكر فيها كثيرًا، وأراها تنهض من الورق، وتهب من بين السطور لكأنها تريد أن تجالسني وتحادثني وتعاتبني أو تثني علي، لكن الأمر لا يصل مطلقا حد الاستلاب الكاريكاتيري المستحكم، بل يمكن أن أصفه بأنه التفكير الواعي المتحكم دون قسر.

انشغل بالشخصيات، بردود أفعالهما، بتحركها تحت وطأة أحداث الرواية، بالخلفيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي تحكمها، وأتركها تقود أو تنقاد إلى مصائرها.

بالحديث عن الروايات والجوائز، فاز الروائي العُماني محمد اليحيائي بجائزة كتارا عن فئة الروايات المنشورة قبل أيام، وفوزه جاء استكمالا للمشهد الروائي العُماني الذي بدا أنه ينافس بقوة على تصدر المشهد الروائي العربي ووصوله للعالمية عبر الجوائز والترجمات. كيف تقرأ هذا المؤشر البياني للرواية العمانية الذي يتصاعد سريعا؟

أبارك للصديق محمد اليحيائي فوز روايته «الحرب» بالجائزة، وللحقيقة فقد التقينا في الدوحة، وتحدثنا عن الأدب والروايات، وهو يمتاز بحضوره الجميل، ولعلنا نتشارك إضافة إلى عملنا الروائي بأن كلينا يعملان في الإعلام حيث يعمل بدوره مذيعا أول في شبكة التلفزيون العربي. والرواية العمانية تذهب اليوم نحو النضوج الفني بقوة وثبات، وهي التي بدأت ربما منذ عام 1963 بـ«ملائكة الجبل الأخضر» التي كتبها عبد الله الطائي الذي يعد حسب عدد من الدراسات أول روائي عماني، لكن الحضور الفعلي للرواية العمانية بدأ فعليا عام 1981 وهو العام الذي يمكن عدّه عام ميلاد الرواية العمانية التي شقت طريقها بثبات وقوة.

ولا يمكن أن ننكر أن ظفر الرواية العمانية بعدد من الجوائز القيّمة في السنوات الأخيرة سلط عليها الضوء أكثر، ووضعها تحت مجهر المراقبة والتمحيص، وأثبت أنها رواية متطورة غنية بالأسماء الروائية المهمة، وأن كتّابها نجحوا في الاشتباك مع المنجز الروائي عربيا وعالميا، وبرز منهم إلى جانب اليحيائي جوخة الحارثية وزهران القاسمي عدد آخر من الروائيين المتميزين. والجوائز الكثيرة التي نالها الروائيون العمانيون تؤكد أن تفوق الروائي العماني ليس طفرة حدثت في غفلة من الوقت، ولا ظاهرة عارضة سنختفي على عجالة، وليس صدفة محضة رتبتها الظروف، وإنما هو تعبير عن حالة نهوض عامة للرواية العمانية تختصر الزمن وتسابقه.