No Image
ثقافة

الشيخ مرتضى الزبيدي وحركة "الإحياء" العربي!

02 مارس 2024
مرفأ قراءة...
02 مارس 2024

- 1 -

أثناء بحثي عن أصول النهضة الفكرية الحديثة فيما قبل الحملة الفرنسية، وأنا أعد كتابي عن الشيخ حسن العطار ضمن مشروع (المجددين)، استوقفني الحضور الفذ لشخصية العلامة مرتضى الزبيدي صاحب أشهر وأضخم قاموس ومعجم لغوي "عربي" وصلنا عبر العصور!

لم تكن القصة مجرد التباهي بهذا الجهد الضخم الذي يفني الأعمار، إنما وببساطة وضعية هذا العمل العجيب ضمن سياق أوسع وأشمل يمكن أن نطلق عليه بذور "إحياء" أو عصر رينيسانس عربي، يقوم على النبش والتفتيش في أصولنا التراثية "المعرفية" والانطلاق منها والتأسيس عليها وصولا إلى إحداث "نهضتنا" نحن، الآن وهنا!

أنا أتحدث عن القرن الثامن عشر الذي ساد الاعتقاد طويلًا بأنه عصر جمود وتخلف، لكن جهود مدرسة من المؤرخين المحدثين والمعاصرين (الأجانب والمصريين على وجه التحديد) أثبتت تقريبا وبما لا يدع مجالا للشك أن هذا القرن وخاصة في نصفه الثاني قد شهد نشاطا فكريا وثقافيا وأدبيا ملحوظا تجلى في ظهور عدد من الأسماء (مثل الشيخ مرتضى الزبيدي، والجبرتي تلميذه، والشيخ حسن العطار، والشيخ إسماعيل الخشاب، وغيرهم) وتجلى أيضا في عدد من المؤلفات الموسوعية الضخمة، كان من أهمها وأشهرها «تاج العروس» الذي يكاد يقترب من الأربعين مجلدا (إن لم يكن تجاوزها في بعض الطبعات الحديثة التي عنيت به)، وفي شرح إحياء علوم الدين للزبيدي أيضا وهذا بدوره في حاجة إلى إضاءة كاشفة وساطعة ليس بوصفه شرحا على متن ديني كتب له الذيوع في دائرة التصوف وتزكية النفوس وهو «إحياء علوم الدين» لحجة الإسلام أبي حامد الغزلي، بل بوصفه متنا ضمن مجموعة متون تضامت وانشغلت بحركة إحياء وتواصل مع مؤلفات عصور سبقتنا ويجب استدعاؤها والانطلاق منها ومن ثم من الممكن تجاوزها بجديد الفكر ومبتكرات الذهن.. إلخ.

- 2 -

هذه الفكرة الذهبية العظيمة (أقصد تأسيس عصر إحياء أو نهضة أو رينيسانس عربي) ظلت غائبة عن أذهان المؤرخين ومؤرخي الفكر منهم بصفة خاصة حتى توفرت مدرسة علمية عظيمة الشأن كان من أبرز أعلامها المرحوم الدكتور رؤوف عباس، والدكتور أحمد زكريا الشلق، والدكتورة نللي حنا، وغيرهم من الذين ركزوا جهودهم في إعادة النظر في تفاصيل هذه الفترة إجمالا (القرون السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر) مع التركيز على القرن الأخير وإبراز ما كان يتخلق في أحشائه من حركة علمية وفكرية كانت بداية لما يمكن أن نطلق عليه عصر "إحياء" عربي.

وفي هذا السياق لا تفوتنا الإشارة إلى ما أورده المرحوم الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه "محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث" بشأن حقيقة هذا القرن (القرن الثامن عشر) وما شهده من بزوغ نشاطٍ فكري وعلمي وثقافي، أخذت بواكيره تتشكل في مصر والشام على يد شيوخ الأزهر وعلمائه، والمنتسبين إليه، وإلى ما يماثله من مؤسسات دينية كانت مركزًا لهذا الحراك ومنطلقًا له، يقول:

"أما الظاهرة الثالثة، فكانت تُمثِّلها نهضة ثقافية علمية، بدأَت تَباشيرُها تظهر في مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت هذه النهضة تلقائية، بمعنى أنها نبتَت نباتًا داخليًّا في مصر، ولم تكن متأثرةً بأي مؤثر خارجي شرقي أو غربي، وكان يمثلها مجموعةٌ من رجال الفكر المصريين، لم تَعرِف مصرُ شبيهًا لهم في القرون الثلاثة السابقة"؛ ويفصل المرحوم الشيال مظاهر هذه "النهضة".

ففي ميدان الدراسات الرياضية والفلَكية، ظهر الشيخ حسن الجبرتي، وفي ميدان الشعر والنثر ظهر رجال كالشيخ محمد الشبراوي، والشيخ حسن العطار -وقد وَلِيَا مشيخة الأزهر- والشيخ إسماعيل الخشاب، وفي التاريخ ظهر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وفي ميدان الدراسات اللغوية والدينية ظهر السيد محمد مُرتَضى الزَّبيدي.

وكان مِن الممكن أن تسير هذه النهضة في طريقها وتتطوَّرَ تطورًا طبيعيًّا، وأغلب الظن أن هذا التطور كان سيأخذ شكلًا بعثيًّا إحيائيًّا، بمعنى أن هذه النهضة كانت ستعمل على بعث أمجاد الماضي العلمية، ونشر التُّراث القديم.

- 3 -

غير أن النهضة التلقائية أُصِيبت بقطعٍ أو انفصال وقْتيٍّ عند مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر؛ فقد أتى مع الحملة عددٌ من العلماء الفرنسيين، وكان هؤلاء العلماء، بل كانت الحملة كلها تَحمل معها إلى مصر مَظاهر نهضة علمية مختلِفة عن مظاهر النهضة المصرية اختلافًا بيِّنًا في كل شيء. وزار نفرٌ من العلماء المصريين المعهدَ الذي أنشأه العلماء الفرنسيون في القاهرة، وزاروا المكتبةَ والمطبعة، وبهَرَهم ما رأَوْا، وبدَأوا يفكرون ويقارنون بين ما في أيديهم من علم وما في أيدي هؤلاء الفرنسيين من علم. وجَلَت الحملة عن مصر وحدَثَت اضطرابات، واستقر الأمر لمحمد علي واليًا على مصر، وأدرك النظام الجديد أنه لا بد من النقل عن الغرب إذا كانت مصرُ تريد نهضة حقيقية تُسايِر بها العالم، وفُتِحَت المدارس الجديدة، وأُرْسِلَت البعثات إلى أوروبا، ووقَفَت حركةُ التأليف مؤقتًا؛ لتبدأ حركة الترجمة، ولتستمرَّ طوال عصر محمد علي.

وما يقال عن القرن الثامن عشر في مصر يمكن إلى حدٍّ كبير أن يقال عنه في سوريا ولبنان وغيرهما من الأقطار العربية التي حكمها العثمانيون‏..

ويرى المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق أن كتابات مرتضى الزبيدي (1732-1790)، الذي كان عالمًا باللغة والحديث والأنساب، تكشف عن وعي نقدي واضح، وتُبرز أصول النظرة العلمية التي نمت بعد ذلك في القرن التاسع عشر، وعبَّرت عنها الرموز الثقافية فيه من أمثال حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي.

لقد كان الشيخ مرتضى الزبيدي، فيما يرى الدكتور الشلق، شخصية فريدة في عصره وأبرز كُتاب ذاك العصر، وإن لم يتوفر أحد لدراسته دراسة علمية تجدر به. وقد تنوعت مجالات كتاباته، وكثُر طلابه، وكثُرت رحلاته واتصالاته، ودرس بالهند والحجاز على ما هو معروف، وقد صور الجبرتي لحظة وصوله إلى مصر عام 1754 باعتبارها من اللحظات العظيمة في الحياة الفكرية في القرن الثامن عشر.

- 4 -

وسنحاول أن نتوقف قليلا عن الأدوار التي لعبها الشيخ مرتضى الزبيد في هذه الحركة، فضلًا على التوقف عند عمليهِ الكبيرين (تاج العروس) وشرحه لإحياء علوم الدين.

وسأبدأ من النقطة المهمة في مسيرة الشيخ دون التعرض المفصل لسيرته أو حياته (فلهذا مقام آخر) لكن سأبدأ من حضوره إلى مصر واستقراره بها في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، وقد تحلق حوله مجموعة من أنبه وأنبغ العلماء وطلاب الأزهر في ذلك الوقت وعلى رأسهم المؤرخ الكبير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي صاحب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" وختام السلسلة الذهبية من مؤرخي مصر الإسلامية العظام (من الكندي صاحب فتوح مصر والمغرب وحتى ابن إياس صاحب بدائع الزهور في وقائع الدهور)

وربما كان أهم شيء وجه الجبرتي إلى كتابة التاريخ هو صلته بالسيد محمـد مرتضي الزبيدي، فقيه اللغة في زمانه وصاحب المعجم المشهور "تاج العروس". فقد هبط الزبيدي مصر، وهو أصلاً من اليمن، عام 1754، أي عام مولد الجبرتي، وسكن في الصاغة ودرس في الأزهر وفي جامع شيخون ولازمه الجبرتي في شبابه، وقرأ عليه مع لفيف من شباب الأزهر وشيوخه.. (وللحديث بقية)