No Image
ثقافة

الشيخ مرتضى الزبيدي علَّامة عصره ومصره!

09 مارس 2024
مرفأ قراءة
09 مارس 2024

(1)

... ونستأنف الكلام حول شخصية الشيخ محمد مرتضى الزبيدي الذي تألق وعلا نجمه وحاز شهرة واسعة جدًا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، خاصة بعد أن ارتحل إلى مصر في عام 1754 واستقر بها حتى وفاته في 1791، وألف فيها أشهر وأكبر مؤلفاته على الإطلاق؛ وهما (تاج العروس بشرح جواهر القاموس)، وكتابه الآخر (إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)، هذا عدا مؤلفاته الأخرى في التفسير والحديث والجغرافية.

وقد تزامن وجود الشيخ مرتضى الزبيدي في مصر مع تلك الحركة الثقافية التي نشطت وازدهرت في مصر، وبخاصة في الأزهر الشريف، وكان من أعلامها الشيخ مرتضى، والشيخ محمد الصبان، والشيخ خالد الأزهري، وتلاميذهم الكبار الشيخ الجبرتي المؤرخ، والشيخ إسماعيل الخشاب الشاعر، والشيخ حسن العطار الذي صار شيخ الأزهر في دولة محمد علي، ما جعل مؤرخي تلك الفترة يطلقون على تلك الحركة العلمية والثقافية (نهضة علمية، وحركة إحياء بازغة) فيما قبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر في عام 1798.

وتجمع المصادر أن تلك الشخصية المهمة والمحورية (أي الشيخ مرتضى الزبيدي) لعبت دورا مركزيا في تاريخ النهضة الحديثة، وحركة الإحياء العربي، كما أطلقنا عليها في الحلقة السابقة، وقد انبنى كتابي «الشيخ حسن العطار» الذي كان واحدا من أبرز وأنبغ تلاميذ الشيخ مرتضى الزبيدي، على طرح سؤالٍ واضح وبسيط في صياغته: من أين استمد الشيخ حسن العطار اتجاهاته التجديدية التي كانت تعتبر "ثورية" في عصره؟

للإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو بسيطا كان لزاما عليّ البحث عن السياق التاريخي لعصر الشيخ العطار، وسيرة حياته وتفاصيلها، واستخلاص بعض الحقائق التي تؤطر موضوع التجديد والإصلاح لعل من أهمها أن الشيخ "العطار" لم يقنع بدراسة العلوم المعروفة في عصره، ولكنه درس الهندسة والرياضة، وتعمق في دراسة الفلك ودرس الطب. والشيخ العطار الذي أصبح شيخًا للأزهر هو الذي قاد حملة تجديدية كبرى في مجال التدريس في الأزهر، وسانده في ذلك الشيخ مرتضى الزبيدي صاحب كتاب «تاج العروس». ويقرر الباحث الأمريكي المعروف بيتر جران في كتابه الشهير «الجذور الإسلامية للرأسمالية» أن الشيخ العطار والزبيدي "هما اللذان قاما بالتجديد الفكري في الأزهر".

(2)

ونتوقف هنا قليلًا -في هذا السياق- أمام وضعية الشيخ مرتضى الزبيدي ومكانته ودوره، في سياق تلك الحركة، خاصة أنه نال حظوة عارمة ربما لم ينل مثلها شيخ آخر من شيوخ تلك الفترة..

وتفيدنا المصادر بأن الشيخ مرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي، ولد بزبيد اليمن (وإليها ينسب) ونشأ وتعلم بها، وعلى عادة العلماء المسلمين في تلك الفترة، كان لا بد من قيامه بـ"الرحلة" أو "الارتحال" لزيادة صقله علميًّا، ويقال إن الزبيدي ارتحل كثيرًا في طلب العلم حتى وصل إلى الهند، وإلى مكة ثم سار منها إلى الطائف، وتعمق هناك في العلوم الدينية والعربية.

ثم نصحه أساتذته بالرحلة (الارتحال) إلى مصر حيث وصلها في العام 1167هـ/ 1754م، وفي ذلك يروي تلميذه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه عنه -أي عن الزبيدي- إن أحد شيوخه شوقه إلى دخول مصر، بما وصفه له من علمائها وأمرائها وأدبائها، وما فيها من المشاهد الكريمة، فاشتاقت نفسه إلى مصر"، وهو ما كان.

وهناك بدأ يدرس على يد شيوخ عصره، وتلقى عنهم الإجازة. وفي القاهرة حاز الزبيدي من العلم والشهرة ما لم يعرفه معاصروه، حيث عرفه كبار القوم وأغدقوا عليه عطاياهم تشجيعًا له، وتقربًا إليه بعد ازدياد شهرته، مثل الأمير إسماعيل كتخدا عزبان، وحتى شيخ العرب همام، وأصبح مقربًا أيضًا من السادة الوفائية، والقصة الشهيرة في هذا الشأن قصته مع محمد بك أبو الذهب، حيث اشترى الأخير نسخة من قاموس الزبيدي الشهير «تاج العروس» بمائة ألف درهم ليضمه إلى خزانة الكتب في جامعه الشهير.

إذن فقد كان وصول الشيخ الزبيدي إلى مصر نقطة "فاصلة" في سيرته وفي النشاط العلمي والحركة الفكرية والثقافية التي شهدتها مصر خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهي الحركة التي نالت اهتمام العديد من المؤرخين والباحثين في تاريخ الفكر العربي الحديث.

وكما أسلفنا فقد وصل الزبيدي إلى مصر في عام 1754، وكان مجيئه هذا مشهودًا بكل ما تعنيه الكلمة، استُقبل فيه استقبالًا أسطوريًا، وإلى الحد الذي دفع تلميذه الشهير عبد الرحمن الجبرتي إلى وصف لحظة وصول الزبيدي إلى مصر بأنها "لحظة حاسمة في تاريخ عصره". وكانت مصر بالنسبة للزبيدي نقطة التقاء مهمة للعديد من التلاميذ والعلماء الذين يفدون إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامي. وذاعت في الأرجاء شهرته حتى كاتبه سلاطين الدولة العثمانية، وأمراء الحجاز واليمن والهند والشام والعراق وشمال إفريقيا وبلاد السودان إلى أن توفي في عام 1205هـ/ 1791.

(3)

ولا بد هنا من بعض التفصيل والتركيز على سيرة الزبيدي في مصر تلك الفترة (1754-1791) قرابة العقود الأربعة، فما أن وصل الشيخ إلى مصر حتى انتظم في سلك الأزهر الشريف للاستماع من أكابر شيوخه آنذاك؛ كالشهابين "الملوي" و"الجوهري" وغيرهما، فأخذ عنهم وأجازوه (منحوه الإجازة للإفتاء والتدريس)، ومن ثم انصرف إلى التدريس والتأليف ووضع الكتب "المطولات"، فوضع معجمه الشهير المعروف بـ «تاج العروس بشرح جواهر القاموس» الذي استغرق منه قرابة 14 عاما أو يزيد قليلا، وجاء فيما يقرب خمسة عشر جزءا، ولم يشأ الزبيدي أن يخرجه للناس كما تخرج المؤلفات العادية، بل أقام مأدبة عظيمة يوم إخراجه، دعا إليها المشايخ وطلبة العلم، وأظهر لهم "تاج العروس" وطلب منهم أن يذكروا محاسنها ومباهجها، فتهافتوا عليها جميعا يقرظونها نظمًا ونثرًا، ولما فرغ محمد بك أبو الذهب (المتوفى 1189 /1775) من بناء مسجده الشهير في مواجهة الجامع الأزهر مباشرة، وأضاف إليه خزانة كتب كبيرة، حدثه مقربون منه بأنها لا تستكمل "نفاستها" ولا قيمتها إلا إذا ازدانت بهذا المعجم الضخم، فاشتراه بمائة ألف درهم، وهو مبلغ يمثل ثروة مهولة في ذلك الزمان!

عاش الزبيدي في القاهرة ذائع الصيت، يتلقاه الكبراء من العلماء والأمراء بالترحيب والإجلال، واتخذ مسكنا جديدا له بسويقة "اللالا"، التي كانت -آنذاك- عامرة بالأكابر والأعيان، فالتفوا حوله، وقصده طلبة العلم من شتى الأرجاء، فكانوا يجدون في قصره الكبير نزهة ومتعة، بالإضافة إلى ما يتزودون به من علم ومعرفة، واستمر صيته في ذيوع حتى عرفه ملوك الإسلام في مختلف البلدان، واعتقد فيه أهل المغرب اعتقادًا زائدًا، إلى الدرجة التي إذا مر فيها أحدهم بمصر، وهو في طريقه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ولم يظفر بلقاء الشيخ الزبيدي، أو لم يصله بشيء، اعتبر حجه ليس كاملا!!

وتدفقت الهدايا والصلات والعطايا والهبات من حكام وسلاطين العالم الإسلامي، وغيرهم من الأمراء والوجهاء، على الشيخ الزبيدي إعظاما وإجلالا وإكبارا لمكانته العلمية وسمعته التي جابت الآفاق، كما بعثوا إليه طيور الببغاء، وطرائف الهند، وأنواع العود والعنبر والعطور، وغدا قصره يضاهي قصور الأمراء أو يزيد عليها، واتسعت حلقته العلمية بالجامع الأزهر وتضاعفت وازدحمت، وأقام المآدب للضيوف، وأكرم الوافدين إليه من الآفاق البعيدة والقريبة، وتعهد كثيرًا من الطلاب، وكان يجيد اللغتين الفارسية والتركية، لذا دعاه الباب العالي بالآستانة (مقر الحكم العثماني) لزيارة عاصمتها إستنبول، لكنه اعتذر لكثرة ارتباطاته العلمية..

وظل الشيخ مرتضى الزبيدي مقيما بالقاهرة، علمًا من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية والعربية، إلى أن وافاه أجله في الطاعون الكاسح الذي حل بالقاهرة، في شهر شعبان سنة 1205/ 1791م.

(4)

أما ماذا قدم الشيخ الزبيدي في الحركة العلمية؟ وما أوجه التعاون بينه وبين مجايليه وتلاميذه؟ ولماذا كانت أعماله الكبرى خاصة في المعاجم والتأليف اللغوي والشرح الذي كتبه على إحياء علوم الدين محل عناية واهتمام خاص؟ فهذا ما ستعرفه الحلقة القادمة بمشيئة الله.