ثقافة

الشعر وجدلية الشاعر والمتلقي

26 يوليو 2021
26 يوليو 2021

ثمة علاقة شائكة، أفرزتها الكتابة الشعرية، بين الشاعر وبين المتلقي في فتراتٍ زمنية من تاريخ الأدب العربي، ثم اتسعت هذه العلاقة وازدادت توتّراً مع حركة الشعر العربي الحديث نتيجةً للتحديث الشعري الذي تبنّته الاتجاهات والمدارس الشعرية الحديثة واشتغالها على الدلالات الشعرية والبنية والشكل.

لكن بالنظر في أصول هذه العلاقة نجدها علاقة قديمة، تصاعدت أسئلتُها الشعرية على الأقل منذ الشعراء المولّدين الذين أحدثوا تغييرا ولو بسيطاً في نظام القصيدة العربية، فكانت العلاقة بين الشاعر والمتلقي قائمة على معايير الفهم، والذائقة، والنمط الشعري السائد، فجاءت مقولات: "لماذا تقولُ ما لا يُفهم؟"، و"أنا أكبر من العروض"، تُجسّدُ بداية التحولات الشعرية للقصيدة العربية، وبداية إشكاليات تلقي الشعر، وغموض معناه، والخروج على أوزانه، وتحولات البنية الشكلية للقصيدة.

ولعل الصراع الدائر في العصر الحديث بين مدرستي الديوان والإحيائيين خير ما يمثل التحول الشعري في المعاني والأشكال، وهو ما انعكس على تقبّل الشعر الحديث والإيمان بدافعيته وقوته الشعرية، أو رفضه وعدّه ضرباً من الكتابة البعيدة عن مضمون شعر. لقد هاجم شعراءُ جماعة الديوان شعراءَ مدرسة الإحياء، وعدّوا معانيهم غير صالحة للعصر الحديث، وانتقدوا وقوفهم على الأطلال، واستخدامهم المعاني القديمة مثل وصف الرحلة والراحلة، والتشبيهات التي استخدمها الشعراء القدامى، وحاولوا التجديد في أوزان القصيدة العربية باستحداث البحور القصيرة، والقوافي المتعددة، وصولا بعد ذلك إلى هدم عمود الشعر بظهور قصيدة التفعيلة عند بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وظهور قصيدة النثر عند جماعة مجلة شعر مثل أدونيس ويوسف الخال وغيرهما.

من هنا برزت أزمة الشعر، وأزمة تلقيه، وظل الحديث يتجاذب أطرافه مع حضور تقنيات الغموض والأسطورة والتاريخ والرمز والتكرار والقناع التي لجأ إليها الشاعر في كتابة نصه الشعري، والتي بها أصبح النص الشعري مكثفاً لم يَبُحْ بكل أسراره، بل صارت الحاجة إلى فكّ رموزه من قبل المتلقي وهو ما استوجب دربة نقدية ولغوية وبلاغية وثقافية لمسايرة النص الحديث، وهو بذلك أوقع النص في صراعات أدبية أعادتنا إلى ما يُشبه الصراع بين جماعة الديوان والإحيائيين، أو أعادتنا إلى أسئلةٍ في مضامين الشعر أشبه بسؤال: لماذا تكتب ما لا يُفهم؟ ولماذا لا تَفهم ما يُقال؟

إنّ النص الشعري الحديث كأي نص إبداعي يعتمد على ثلاث شفرات رئيسة، هي المرسل والمستقبل والرسالة، وهذه الشفرات مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقا، يمكن من خلالها أن يقوم النص إبداعياً، ويحمل في طياته الدلالات التي يستطيع من خلالها تقديم فكرته واشتغاله الفني. ما يَهمّنا فنياً من ذلك هو الرسالة/ النص الشعري الناشئ عن اشتغالات فنية يقصدها الشاعر، ويقوم عليها النص الشعري، ومع ذلك ينبغي أن يكون المتلقي/ المستقبل على قدرٍ من الوعي في كشف جوانب النص، وإبراز قيمه ودلالاته.

يُفصّلُ محمد لطفي اليوسفي هذه العلاقة في حديثه عن الشعر والكلام المعمى "حين عدّ وظيفة الكلام -كما نبّه النقاد والمنظرون القدامى- هي الإبلاغ والإبانة والإفهام"، وعليه فإنّ الشعر "ينشد تغيير الإنسان باتجاه الأفضل، لكن تحقق هذه المهمة يظلّ مشروطاً بمدى تمثّل المتلقي مقاصد الشاعر.

لذلك اشترطوا في الكلام الشعري أن يكون جامعاً إلى جودة الإلذاذ التي تتولد عن الأبعاد الجمالية، جودة الإفهام التي تتولّد عن المعنى الذي عليه جريان القول. فإن عطّل المعنى خرج الكلام إلى التعمية وبطل أن يكون شعراً. لأنه لا ينهض بوظيفة الشعر ولا يتبع طرائقه في الجمع بين الإلذاذ والإفهام. أما إذا عرّي من الأبعاد الجمالية فإنه يفقد ما به يحقّق الإمتاع والإلذاذ. وبذلك يخرج من دائرة الشعر ويصبح أقرب إلى الكلام العادي نتيجة تعطيل جانبه الجمالي". (فتنة المتخيل 1/79)

إذن يقوم الشعر على حد تعبير اليوسفي على وظيفتي الإلذاذ والإفهام وهما مرتبطتان في تقديمهما بالشاعر وتوظيفه للمفردة الشعرية واستخدامه الدلالات المعبّرة، وبالمتلقي الذي تقوم القصيدة ببث اللذة الشعرية في مخيلته وعليه أن يقطف الأفكار ويعمل على مشاركة الشاعر في تخيّله للفكرة الشعرية.

إن النص الشعري الحديث في مراحل تحولاته الشعرية نَصٌّ إشكالي؛ فهو يطرح أسئلة عميقة في بنية الشعر، هكذا أراد الشاعر المعاصر حين حاول الخروج على نمطية الأفكار القديمة، وبناء نص معرفي حديث يحمل تأويلات الكون وفلسفة الحياة المعاصرة، ولعل أدونيس في كتابه زمن الشعر عبّر عن هذه المرحلة التي وصل إليها الشعر الحديث حين قال: "وأنا شخصياً أُفضّلُ أن ترفضني الثقافة البرجوازية الموروثة على أن تقبلني وتدجنني. وأفضّل أيضا ألّا تفهمني الطبقات المسحوقة، في هذه المرحلة، على أنْ أُخاطبها بشعر ليس فيه من الشعر غير الاسم". (زمن الشعر، ص44)

كما أكّد على حقيقة أخرى أنّ "الشعر الحديث، في كل عصر وفي كل أمة -دون استثناء- هو حتى في ذروة رفضه، نوع من الاستعادة لوجه ما في القديم، أو لبعد ما، أو لعنصر ما". (زمن الشعر، ص37)

إنّ علاقة الشاعر بالمتلقي علاقة مهمة في تحولات القصيدة العربية، ففي ضوء هذه العلاقة يكون استقراء ماهية النص الشعري، وإبراز قيمه الشعرية، وتعبيراته، وأثره في النفس الإنسانية. إنهما عنصران متحدان يعكسان صورة الآخر، ويقدمانه ثقافياً وإبداعياً، ويعكسان مدى الانفتاح على التجربة الشعرية الحديثة وتحولاتها، ومدى صعود المتلقي إلى ثقافة الشاعر للكشف عما أضمرته القصيدة الحديثة لحظة تشكّلها. كما تحيلنا هذه العلاقة على تقبّل الشعر بمفهومه الواسع، المرتبط بالشعور والإحساس، ومحاولة فهمه والإقبال على دلالاته دون أي تصنيف شكلي قد يتسمّى به الشعر أو يرتبط به.

ولعلّني في هذه النقطة أقف على رأيين مختلفين لشاعرين كلاسيكيين في تجربتهما الشعرية في الأدب العماني، ومدى رؤية كل شاعر منهما للتجربة الشعرية الحديثة؛ وانعكاس أثرها على المتلقي. فيرى عبدالله الخليلي أنّ "الشعر مشتق من الشعور وهو الإحساس لأنه من نبعه ولذلك تجد الشعر إن كان سليم التركيب قوي المباني رقيق الأسلوب تجده والقلب يتقبله بلهفة وليس بضروري أن يكون الشعر في بيت مقفى إذ قد لا يكون فيه وزن أو قافية ويكون في جملة نثرية...". (مجلة نزوى، العدد101، ص160)، وعليه فقد خاض الخليلي غمار القصيدة الحديثة وألّف ديوانه (على ركاب الجمهور) على طريقة شعر التفعيلة متأثرا فيه بصلاح عبدالصبور كما يقول. أما الشاعر الآخر فهو أبو سرور الذي سجّل موقفا تجاه القصيدة الجديدة قائلا: "أنا لم أتطرق إلى الشعر أو إن صح تسميته فهو نثر فني، لأنّ الشعر له أوزانه وتفعيلاته الواجب الالتزام بها، وما يسمى بالشعر الحر لا يرتقي إلى مرتبة الشعر العربي". (اتجاهات الشعر المعاصر، ص210)

إنّ أبا سرور هنا يقصر الشعر على الأوزان وتفعيلات الخليل الواردة في القصيدة العربية، وهذا في حد ذاته يقودنا إلى إشكالية تعريف الشعر حين قصرت بعض المؤلفات القديمة تعريفه بأنه "كلام موزون مقفى"، وهو موضع النقاش كون الشعر عند غيرهم مشتق من الإحساس والشعور، وأنه كما عرّفه غيرهم من النقاد بأنه تعبير يدل على "إخراج القول غير مخرج العادة". وعليه فإن الصراع في تقبّل شكل من الأشكال الشعرية ورفض شكل آخر، وعدّ واحد منها هو القيمة الشعرية لتاريخ الأدب وتهميش الأشكال الشعرية الأخرى هو مغالطة تاريخية، فالشعر في تحولاته الشكلية أو في مضامينه الداخلية منذ الشعراء المولدين إلى المدارس الشعرية الحديثة من جماعة الديوان والمهجريين والرومانسيين وأنصار قصيدة التفعيلة والنثر والقصيدة الومضة وغيرها، هي تجارب تدخل ضمن إطار تاريخ الشعر العربي، تحتمل نصوصها المساءلة والنقد والتمحيص، وتبيين قويها من ضعيفها، وجيدها ورديئها، وهي في ذاتها نصوص تحتمل البحث والدراسة لا أن تهمش أو تقصى من خارطة الشعر العربي، وهي التي تقوم على التفاعل المتبادل بين ثقافة الشاعر وثقافة المتلقي لتنتج نصا شعريا يقوم على المغايرة والابتكار.