الراغب في أن تراه العيون
09 ديسمبر 2025
ليلى أمة الله بريان - نيويورك تايمز-26 أكتوبر 2025 - ترجمة : أحمد شافعي
09 ديسمبر 2025
رأيت للمرة الأولى صورة عمر بن سعيد حينما كنت مصورة فوتوغرافية شابة، فشعرت وكأنه يكلمني. ولم أخرج إلا بأمر واحد بسيط: تذكّري.
ولد عمر بن سعيد في عام 1770 في ما يعرف الآن بالسنغال، وكان من قوم فولا، مسلما تقيا وعالما. ولما بلغ من العمر سبعة وثلاثين عاما، تعرَّض للأسر في غارة على قريته. وأرجح الاحتمالات أنه سيق قسرا إلى قارب حمله إلى مدينة سان لويز التي ستصبح في قابل الأيام عاصمة لإفريقيا الغربية الفرنسية، ثم سيق من هناك أخيرا إلى عبور الأطلنطي ليرسو في تشارلستون بولاية كارولاينا الجنوبية. وهنالك كان أول عهده بالعبودية، وبعدها في كارولينا الشمالية حيث مات في عام 1863.
صادفت صورة عمر بن سعيد في أواخر تسعينيات القرن الماضي خلال عرض المؤرخة سلفيان آيه ضيوف كتابا لها عنوانه «خدم الله: مسلمون من إفريقيا مستعبدون في الأمريكتين». تكلمت سلفيان ضيوف عن حياة المسلمين المستعبدين وجهودهم من أجل التحرر وتقرير المصير، ومن هذه الجهود كتابات بالعربية اكتشفت في بنما والبرازيل وساحل الولايات المتحدة الشرقي.
والذاكرة وسيلة عتيدة للمقاومة. وأعتقد أن عمر بن سعيد كان يعلم ذلك. فقد كتب سيرة ذاتية بالعربية سنة 1831، وهي نص من ثمانية عشر نصا كتبها، وتشكّل مجتمعة لمحة نادرة على الحياة الداخلية لعالم مسلم إفريقي استعبد في أمريكا. كان قبل أسره قد كرَّس خمسة وعشرين عاما للبحث الإسلامي، فدرس القرآن، والحديث، والصوفية. وكثير مما كتبه في ولايتي كارولينا يرجع إلى تلك السنوات. فقد كتب من الذاكرة آيات من القرآن، وأبياتا من الشعر الصوفي في موضوعات من قبيل العدالة وسيادة الله وحده على الأرض، وألَّف أدعية، ورسم أحجبة هندسية متقنة. وكثيرا ما كان يأتي في كتاباته على ذكر والدته أم هاني يرمك. وكان أيضا كثيرا ما يشير إلى الأسرة التي احتفظت به حتى وفاته ـ وهم آل أوين، وكان ينقل أيضا نصوصا من الكتاب المقدس المسيحي.
في رسالة له ترجع إلى عام 1819، كتب عن رغبته في الرجوع إلى وطنه: «أود أن تراني أرضنا المدعوة أفريقيا، في ذلك الموضع الواقع على النهر».
أنا امرأة أمريكية إفريقية تضرب جذور عائلتي في كارولينا الجنوبية. وبنشأتي في وسط سنغالي مزدهر في مدينة نيويورك، طالما بدت لي الفتنة في بعض خيوط حياة عمر بن سعيد ـ المعروف جيدا اليوم في الدوائر الأكاديمية. كان الرابط بيننا على مستوى التاريخ والجغرافيا والعوالم الروحية يبدو شديد الوثوق. فحينما وصلت إلى السنغال للمرة الأولى قبل خمسة وعشرين عاما، وجدتها مألوفة. وقد رجعت إليها لأسباب عدة، منها أن أستريح، وأن أتعلم، ومن أجل إقامة معارض، والمشاركة في إقامات، ولمواصلة التصوير الفوتغرافي والتوثيق، وللاحتفال بإجازات وأعياد ميلاد، منها عيد ميلادي. وكل زيارة كانت تعمّق فهمي لهذه الأرض ولنفسي.
في عام 1836، وصلت سيرة عمر بن سعيد الذاتية إلى مسلم تحرر يدعى لامين كيبي، وكان من المنطقة التي نشأ فها ابن سعيد. أعطي كيبي المخطوطة لتيودور دوايت وكان معارضا للعبودية وعضوا مؤسسا في الجمعية الإثنولوجية الأمريكية. واختفت المخطوطة، لتظهر على السطح مرة أخرى في منتصف تسعينيات القرن الماضي في صندوق بالإسكندرية بولاية فرجينيا. فاشتراها جامع لمقتنيات الأمريكيين الأفارقة يدعى ديريك بيرد، وهو نفسه سليل أسرة سوداء محررة كان أفرادها حرفيين في ألاباما، وقد اشترى بيرد المخطوطة العربية من صالة مزادات سوان مقابل قرابة اثنين وعشرين ألف دولار سنة 1996.
فهم بيرد أهمية ما صار بحوزته. وعلى مدى سنوات، حافظ على المخطوطة، وصار يعيرها بين الحين والآخر لمعارض، أو يتكلم عنها في ندوات. بل إنه سافر إلى السنغال ليبحث عن المزيد عن ابن سعيد. وفي عام 2017 قبيل وفاة بيرد، اشترت مكتبة الكونجرس المخطوطة من دار سوثبيز تنفيذا لرغبة بيرد، وضمنت الحفاظ عليها وإتاحتها للأجيال القادمة.
حينما أسمع هذه القصة، أفكر في زورا نيل هيرستن وكم كان أرشيفها قريبا من الضياع. فبعد وفاتها ودفنها في مقبرة غير معينة، رأى أحد معارفها متعلقاتها تحترق، وكان نائبا للشريف في مقاطعة سانت لوسي بولاية فلوريدا. كان حرق المتعلقات طريقة شائعة للتخلص من ممتلكات الفقراء الموتى في ذلك الوقت. أنقذ الرجل كثيرا من أوراقها من النار، وقال إنه يتذكر أنها «كانت ذات شأن». وقد أدرك بيرد - وكثير منا ممن صادفوا كلمات ابن سعيد وصوره - أنه كان ذا شأن. ومخطوطته التي أوشك أن يطويها النسيان تستقر الآن في الأرشيف الوطني. شاهدة على إرادته في أن تراه العيون.
في وقت سابق من العام الحالي، سافرت إلى السنغال للحديث في مؤتمر أقيم في (متحف الحضارات السوداء) بداكار احتفالا بالذكرى المئوية لميلاد مالكوم إكس. وبعد المؤتمر وجهت د. كاملة مؤمن ود. ممرامي سيك ـ وهما أكاديميتان تبحثان في حياة بن سعيد ـ دعوة لي للسفر شمالا إلى مسقط رأسه فوتا تورو. وابتهجت بهذه الدعوة للرجوع إلى المنطقة. وانطلقنا إلى كوبّي، التي تحدد حديثا أنها محل الميلاد المرجح لابن سعيد، وقد حددها علماء في الدين وصحفيون في صحيفة بوست آند كوريير في تشارلستون بكارولينا الجنوبية. صحيح أن بعض العلماء لا يثقون بالقدر نفسه في الموقع الدقيق لمحل ميلاده، لكننا رجونا أن نفهم الروابط الباقية بين القرية وبين قصته.
استغرقت الرحلة من دكار إلى قرية كوبّي الريفية ثماني ساعات، عبرنا فيها الغابات المحيطة بمنطقة ثييس في غربي السنغال والمناطق القاحلة في فوتا تورو. مضينا عبر سان لويز، الميناء الأطلنطي المعروف حليا بـ ندار وكان يربط بين مسارات الأفارقة المخطوفين الداخلية. حددت دراسة خروج قرابة ستة وأربعين ألفا وستمئة شخص مستعبد ومئتين وسبع وسبعين سفينة من سان لويز بين عامي 1676 و1832. وكان الكونجرس قد أقر في عام 1807 «قانون حظر استيراد العبيد»، بما يعني أن ابن سعيد كان على الأرجح على متن إحدى آخر السفن التي غادرت المدينة الاستعمارية إلى الولايات المتحدة.
هناك طبعنا نسخة من صورة عمر بن سعيد الأصلية، التي يرجح أنها من الصور القليلة التي التقطت له، في نحو عام 1850، ووضعناها في إطار. وجئنا بها معنا للذكرى. في كوبّي، التي لا كهرباء فيها إلا في بيت واحد، حضرنا صلاة الجمعة، وتناولنا الطعام مع أسر من المنطقة، وزرنا إمام القرية. ولما بدأت الشمس تميل للغروب، سرنا على الأرض الطينية الجافة المتشققة، متجهين إلى نهر السنغال ذي المياه الغنية بالغرين. هذا هو النهر الذي حمل ذات يوم الكثيرين، ومنهم على الأرجح عمر بن سعيد، ومضى مبتعدا بهم عن أوطانهم. سألت بعضا من أهل القرية أن يساعدوني في تكوين صورة. فوقفت حافية في قارب خشبي صغير يرسو على ضفة النهر، ممسكة صورة ابن سعيد في إطارها. وكان النهر الذي غسل تلك المعاناة، وأدامها، وشهد عليها، شديد السكون.
في كل عام في بروكلين، أشارك في تجمع شاطئي يدعى «تكريم الأسلاف عابري الأطلسي». إذ نقف على حافة الأطلنطي إحياء لذكراهم. وأعتقد أن أسلافنا يبحثون عنا عبر الزمن. وبالنسبة لي، تواصل معي عمر بن سعيد. وفي ذلك القارب في كوبّي، وأنا ممسكة صورته، تواصلت أنا الأخرى معه. وهذا البورتريه الذاتي هو طريقتي في تكريم رغبة ابن سعيد في أن يرجع، وفي الاعتراف بأن ذكراه، وشوقه، وشهادته على شرور العبودية قد وصلت إليّ وإلى الكثيرين غيري. وأنه بات مرئيا في أعيننا.
كاتبة المقال مصورة فوتغرافية وثائقية، وكاتبة، ومنظمة معارض، ومعلمة في جامعة روتجرز بنيوارك وفي المركز الدولي للتصوير الفوتغرافي.
