الأديب محمد بن راشد الخصيبي (ت 1990م)
الأديب محمد بن راشد الخصيبي (ت 1990م)
ثقافة

الأديب محمد الخصيبي بين «الشقائق» و«الزمرُّد الفائق»

24 سبتمبر 2022
أضاميم
24 سبتمبر 2022

لم ألتق بالأديب الشيخ محمد بن راشد بن عزيِّز الخصيبي (ت: 1990م)، وقد فاتني أن أجري معه حوارًا صحفيًا، ولم تأخذني الأيام إلى رحابه الخصيبة بالشعر والأدب، كنت في بدايات عملي الصَّحفي، وكانت الشيخوخة قد أثقلت كاهله، وأخذت من صحته، ولكن الحياة جمعتني به في سمائل الفيحاء، كنت أقطع بسيارتي وادي سمائل في ذهابي إلى مسقط، ومصادفة عبرت بجانبي سيارة، يركب بجانب سائقها شيخ وقور عليه عمامة، فعرفت من ملامحه أنه الشيخ محمد الخصيبي، متجهة به إلى ضفة الوادي الغربية، حيث «بيت الجبل» الذي يسكنه، فيما ذهبت أغذ في السير إلى وجهتي، وأتذكر كتابيه «شقائق النعمان على سُموط الجُمَان في أسماء شعراء عمان»، و«الزمرُّد الفائق في الأدب الرائق».

وإن لم تصلني الأيام في لقاء به، فلا أقل من كتابة عن «شقائق النعمان» باعتباره أول كتاب يجمع شعراء عمان، حتى أصبح بُغية لطلاب العلم، منذ صدوره في طبعته الأولى، عن وزارة التراث القومي والثقافة 1984م، فهو مرجع في السِّيَر وتراجم الشعراء العُمانيين، بما يحويه من غرر القصائد، وكأنه سلاسل من ذهب.

ابتدأ تأليفه -ولعله انتهى- بقصيدة طويلة تقع في 366 بيتًا، على بحر الخفيف وقافية التاء المكسورة، جمع فيها 136 اسمًا من شعراء عُمان، بهذا المطلع الشيِّق: (أتْحِفِ السَّامِعِينَ مِنْ ذِكرَيَاتِي.. واسْقِهِم مِنْ رَحِيقِ مُبتَكَرَاتِي)، (خَلِّهِم يَرْتَعُونَ فِي كُلِّ رَوْضٍ.. مِنْ رِيَاضِ البَيَانِ والنَّغَمَاتِ)، (خَلِّهِم يَسْمَعُونَ أسْمَاءَ مَنْ قَدْ.. قرَضُوا الشِّعْرَ يا أخَا البَرَكاتِ).

وتنساب القصيدة قطعة من موسيقى، يحضر فيها كبار الشعراء من غياهب الغيب، منذ مازن بن غضوبة والخليل بن أحمد الفراهيدي وابن دريد، إلى آخر شاعر اختتم به الجزء الثالث من الكتاب، تتناثر أنغام قصائدهم بين الجغرافيا والتاريخ، والتضاريس والشوامخ، كطيور مغرِّدة تتضاحك لها أوراق الشَّجَر.

وإذا كانت الأسماء الأولى ابتدأت بمازن بن غضوبة، وقد نقل الخصيبي في صفحات كتابه بعضًا من الأخبار التي تُروى عنه، إنما ليعطي الشقائق شيئًا من رائحة ذلك الزمان البعيد، فمما يُنسَب لمازن هذه الأبيات: (إليكَ رَسُولُ اللهِ حَنَّتْ مَطِيَّتِي.. تَجُوبُ الفيَافِي مِنْ عُمَانَ إلى العَرْجِ)، وحينما أرَّخ لشعر الخليل الفراهيدي (ت: 170هـ)، ونقل القصص التي وثقتها أمَّهات كتب الأدَب عنه، كلقائه بابن المُقفع، إنما ليعود بالقارئ إلى القرن الهجري الثاني، حينها كان الفراهيدي يضع أبحر العروض، وقواعد النحو، ويكحل عين العربية في معجمه الفريد «كتاب العين»، ومثلما يُعنَى المؤرخ بالمتن وتضمينه للنصوص، يُعنَى كذلك بالهامش بما فيه من قصص وأخبار.

ويؤرخ الأديب محمد الخصيبي لابن دريد (ت: 321هـ)، صاحب المقصورة الشهيرة: (يا ظبيَةً أشبَهَ شَيْءٍ بالمَها)، فيضمِّن كتابه أبياتًا منها، وكأن تلك الظبية تلتفت من وراء الحُجُب، فتلمح ابن دريد يرسمها في مطلع قصيدته، ويضعها الخصيبي في الصفحات الأولى من شقائقه، لكن الخصيبي لم يعرها اهتماما كبيرًا، بقدر ما نقل عن أمالي القالي، ومعجم الأدباء للحموي، ما يرويانه من شعر له.

وفي كتاب الشقائق يوفِّي المؤلف حق كل شاعر من الكتابة، بالقدر الذي يتحصَّل عليه من أخبار وقصائد، من ذلك نقله للقصيدة «الحُلوانِيَّة» للشاعر محمد بن سعيد القلهاتي (ق: 4هـ): (ألا حَيِّ دارَ الحَيِّ مِن بَطنِ حُلوَانِ)، قصيدة طويلة سُداسية الأبيات في مدح القحطانيين، ونراه يأخذ قِطَعًا من هذه الحَلوَى القلهاتية، يقدمها لقارئ كتابه، ونرى فيها انعكاس صورة أخرى لوجه حُلوَتِه: (مُنَعَّمَةُ الأطرَافِ مَهْزُوزَةُ القَدِّ).

ويظهر الشقائق أشبه برواية شعرية تطوف عوالم الشعراء، منذ العصر الإسلامي الأول وحتى عصر المؤلف، وفي السِّيَر الشعرية التي ضمنها الكاتب من المُتعة الأدبية الكثير، كالقصيدة الحَائِيَّة للشاعر سعيد بن مسلم المجيزي أبو الصُّوفي (ت: 1953هـ)، التي عارض بها «حائية» ابن النحَّاس الحَلبَي المَدَنِي: (بَاتَ سَاجِي الطَّرْفِ والشَّوْقُ يُلِحُّ)، يقول أبو الصُّوفي في مطلعها: (أطلبُ الوَصْلَ وأيَّامِي تَشِحُّ.. والهَوَىَ يَزْدَادُ والدَّمْعُ يَسِحُّ)، (كم ليَالٍ لمْ أذُقْ فيها الكَرَى.. أسْهَرَتنِي لوْعَةٌ فيها وبُرْحُ)، وعارضها أبو وسيم خميس بن سليم بن خميس السَّمائلي (ت: مطلع القرن العشرين)، في قصيدة لم يبق منها إلا بيتان، أوردهما الخصيبي وهما: (إنَّ صَدْرَيْنا لصَدْرٍ واحِدٍ.. إذ تَعَانقنا وكشْحَيْنا لكَشْحِ)، (يا لناسِي شَابَ رَأسِي فإلى.. كمْ أُقاسِي كُلُّ عُضْوٍ فيه جُرْحُ)، ومما يؤسف له، أن ديوان أبي وسيم ذي الأشعار الحُلوة، كما يصفه الخصيبي، ضاع ولم يبق منه إلا قصائد معدودة.

ومن الشقائق عرفنا عن الشجرتين الشعريتين، اللتين رسمها الشاعر محمد بن عبدالله المعولي المَنَحي (ت: بعد عام 1114هـ)، الدالية واللامية، فكان أول شاعر يكتب الشعر المُشجَّر، وعرفنا عن قصيدته التي تصلح أن تكون مدحًا وذمًا: (سِيَرٌ لهُم طابَتْ فمَا خَبُثَتْ.. رَبُحَتْ لهُم سِلَعٌ فمَا خَسِرُوا)، فكانت مثل هذه النصوص خافية، إلا على من اعتاد النبش في الدواوين.

ولا بد من وقفة على قصيدة «سُمُوط الثناء»، وأي سموط لا ينتظم عِقْدُه، في حضرة عالم الشعراء وشاعر العلماء: سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1871م)، (سُمُوطُ ثَنَاءٍ في سُمُوطِ فَريدِ.. بكُلِّ لسَانٍ قد بُثِثْنَ وَجيدِ)، وكأنَّ الكائنات ألسن ناطقة بحَمدِ الله: (وَحَمْدٌ تغَصُّ الكائِناتُ بنَشْرِهِ.. إذا نُشِرَتْ مِنه أجَلُّ بُرُودِ).

وعَرِفنا القصيدة الاستنهاضية، التي كتبها أبو سلام سليمان بن سعيد الكندي (ت:1960م): (عُمَانُ انهَضِي واسْتنهِضِي الشَّرْقَ والغَرْبا)، وقصيدته إلى أرسلها تلويحة سلام، من يد مُخضَّبة بحِنَّاء الشوق والمحبة: (على ظبيَاتِ العَامِرَاتِ سَلامُ)، ويَختتِم الأديب شقائقه في جزئه الثالث بقصائد لصَنَّاجة مَنَح، الشاعر محمد بن علي الشرياني (ت: 1997م)، منها قصيدته: (خُذُوا مِنْ أعَاجِيبِ أزْمَانِهِ.. غَزَالٌ رَمَانِي بأجْفانِهِ).

وبلا شك فإن تجربة الشيخ محمد بن راشد الخصيبي في تأليفه لكتاب الشقائق، تعتبر رائدة بين المؤلفات العُمانية، عرفها الأدب العربي من قبل، ككتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي، وما يُحمَد له التفاتته لحصر الأسماء الشعرية، في كتاب يبدو أشبه بالديوان الجامع لدرر القصائد.

ولكن من أين للأديب محمد الخصيبي كل هذه الإشراقات الشعرية؟، لعله اقتبسها من شُمُوس المخطوطات المضمومة في المَناديس، ولعله كان ضنينًا بأصول كتابه، فقد فوَّت على القارئ التعرف على مصادره والمراجع التي اعتمدها، من مطبوعات قليلة ومخطوطات كثيرة، ولذلك فكتاب «الشقائق» أقرب إلى عالم المخطوطات، وإن ظهر مطبوعًا في عدة طبعات، وتحقيقه والاشتغال عليه يوما ما، يوصل إلى تلك المنابع الثرَّة التي نهل منها الأديب.

أما كتاب «الزمرُّد الفائق في الأدب الرَّائق»، فقد حاكى في منهجه تجربة بهاء الدين العاملي في كتابيه «المِخْلاة» و«الكَشْكُول»، تفرد فيه بجمع لباب قراءاته، وخلاصة مطالعاته، التي لامست وجدانه الأدبي، فجمعها في كشكوله الخاص، الذي أصبح بعد ذلك كتابًا، طُبع في أربعة أجزاء، وليس العنوان ما يجعل من مادة الكتاب أشبه بالزمرُّد، بل مادته الشيقة، يقول في مقدمته: (لم أرتبه على أبواب متناسقة، بل أورَدْتُ ما فيه مختلفًا غير مؤتلف، يتقافى نماذج وأساليب متنوعة، ليُشرَب في القلوب حُبَّه، من تنقلاته المُتضوِّعة، كما قيل: تنقَّلْ فلذَّاتُ الهَوَى في التنقُّلِ، فقلما يطرأ الملل والسأم على القارئ المُتنقل، إلا أنه مبرأ من الكلام الغَثِّ والقول الهزل والقصص المُستقبحة).

وما يتميز به كتاب الزمرد، هو تزيينه بتلك الأدبيات العمانية، شعرًا وقصصًا وحكايات وأمثال ولطائف نحوية ولغوية وغيرها، فقد حوى: لباب العقول، وأسرار الأفئدة، ومهج القرائح، ويعرِّف القارئ بالبدائع والروائع.

وبهذين الكتابين يكون الأديب محمد بن راشد الخصيبي، قد أسهم في إثراء المكتبة العمانية، وترك بصمة رائعة، تتناقلها الأجيال، وما أروع البصمات حين تتشكَّل كتابًا، وما أروع الكتب حين تُثري ذائقة قارئها، وتدخل ضمن نسيجه الثقافي وتكوينه المعرفي.