No Image
ثقافة

أنساغ.. نحتُ المتفرِّج في الجريمة: السرد وموقع المتفرج في فيلم كوروساوا "راشومون"* (1 من 3)

19 يونيو 2022
19 يونيو 2022

"القِس: لا أريد أن أسمعها. لا مزيد من قصص الرعب.

رجل من العامة: إنها قصص مألوفة في هذه الأيام، بل إني سمعت أن الشيطان الذي كان يسكن هنا في راشومون قد فرَّ خوفاً من وحشية الإنسان".

-- من حوارات فيلم "راشومون" --

في 1950 أنجز المخرج السينمائي الياباني الأشهر (و"الأشهر" هذه كلمة إشكاليَّة دوما، إذ إنها لا تعني "الأهم" بالضرورة إنْ في الحالة السينمائية اليابانية أو سواها) أكيرا كوروساوا Akira Kurosawa إحدى تحفه السينمائية الخالدة التي حازت على واحد من أعلى الإيرادات في شباك التذاكر في بلادها في عام صدورها، بل واعتبِر الفيلم إحدى التحف الأيقونيَّة النفيسة في تاريخ الفن السابع كلِّه على الرغم من تقدم التقنيات السينمائية منذ أكثر من سبعين عامًا على إنجاز ذلك العمل المشار إليه بالبنان، وأعني بذلك فيلمه "راشومون" الذي كان الفيلم الثاني عشر في السيرة السينمائية الإنجازيَّة لمخرجه.

والفيلم اقتباس سينمائي لمزيج من قصتين قصيرتين للكاتب الياباني راينوسوكي أكوتاغاوا Ryunosuke Akutagawa هما "في بستان" و"راشومون"، وقد كتب سيناريو الفيلم كوروساوا نفسه بالاشتراك مع شِنوبو هاشِموتو Shinobu Hashimoto. شخصيات الفيلم قليلة، وتدور القصة حول جريمة اغتصاب امرأة حديثة الزواج وتنتمي لطبقة النبلاء (قامت بدورها ماشيكو تشو Maciko Kyo) وقتل زوجها المنتمي لطبقة الساموراي (قام بدوره ماسايوكي موري Masayki Mori) أثناء مرورهما في غابة حيث يُقبَضُ على قاطع طريق (قام بدوره الممثل الأثير لدى كوروساوا، توشيرو ميفوني Toshiro Mifune)، وهناك أيضاً القس (قام بدوره ليسلي دانيلز Leslie Daniels)، والحطَّاب (قام بدوره تاكاشي شيمورا Takashi Shimura)، وضابط الشرطة الذي نسمع صوته من دون أن نراه (قام بدوره دايسوكا كاتو Daisuke Kato)، ورجل من العامة (قام بدوره كيتشيجير يوإيدا Kichijir Uoeda)، حيث تعرض علينا أربع روايات متضاربة لدرجة التناقض للجريمة يرويها قاطع الطريق، والزوجة المغتصَبة، والزوج المقتول، والحطَّاب الذين يفتُرَض أن يكونوا قد شاهدوا الجريمة، بينما قاطع الطريق هو من اقترفها.

ينتمي فيلم "راشومون" إلى نوع مستقل في السينما، والمسرح، والتلفزيون الياباني، وبل وحتى في ألعاب الفيديو والألعاب الإلكترونيَّة اليابانيَّة مؤخرًا. ويعرف هذا النوع باسم "جيدايجيكي" (jedaigekeki) حيث تعني المفردة حرفيًا "دراما حدثت في عهد أو فترة معينة"، وهي عادة ما تدور حول سرديات من عهد إيدو الممتد خلال الفترة من 1603م إلى 1868م. وقد حاز الفيلم تكريمات دوليَّة التي من غيض فيضها فوزه بجائزة الأسد الذهبي في دورة مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لعام 1951 (أحد أفلام ياسوجيرو أوزو Yasujiro Ozu كان مرشحًا لتمثيل اليابان في المهرجان في الأساس)، وجائزة تكريمية من الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم السينما في دورة عام 1952. وللأمانة، قد يكون هذا الفيلم من أكبر أسباب فرط اهتمام المخرجين، والمنتجين، والاستوديوهات السينمائيَّة الأمريكية بسينما كوروساوا ودعم أفلامه بصورة متواصلة حتى وفاته، وقد حدث هذا على حساب بعض من زملائه ومجايليه اليابانيين المهمين قطعًا.

كما تنبغي الإشارة إلى إنه بالرجوع إلى الحوارات التي أجريت مع كوروساوا سيتضح أن القائمة القصيرة للمخرجين السينمائيين الأثيرين لديه تتضمن أسماء أمريكية فقط مثل وعلى رأسها جون فورد John Ford. وبالدرجة نفسها فإن "راشومون" هو الفيلم الذي جعل الغرب عمومًا "يكتشف" مخرجه ويحتفي به أيما احتفاء.

كما إنه لا تفوتني الإشارة إلى أن كوروساوا قد طلب من الموسيقي الياباني فوميو هاياساكا Fumio Hayasaka، الذي وضع الموسيقى التصويرية للفيلم، أن يضمِّن اقتباسًا من "بوليرو"، وهي مقطوعة موسيقية أوركوستراليَّة غريبة تمامًا عن الموروث الموسيقي الشرقي عموماً والياباني خصوصًا، تتكون من حركة واحدة في وتيرة متصاعدة للموسيقار الفرنسي موريس رافيل Maurice Ravel، وخاصة في الإفادة التي تقدمها الزوجة المغتصبَة، حيث أصبحت مقطوعة رافيل تلك معادلة للتدرج في الوصول إلى الذروة الجنسية في ما صلح وطلح من أفلام. وإضافة إلى ذلك فإن فيلم "راشومون" قد تسبب في إضافة مفهوم جديد إلى القاموس السينمائي، وهو "تأثير راشومون" (Rashomon effect)؛ أي الوضع الذي تقدم فيه شخصيات مختلفة أوصافًا متضاربة ومتناقضة حول حدث معين كانت شاهدة عيان عليه في نفس الزمان والمكان كما في فيلم "شجاعة تحت النيران" للمخرج الأمريكي إدوَرد زوِك Edward Zwick (1996). وإني أطمح إلى أن أقدم هنا نقاشًا موجزًا حول الطريقة التي يعمل بها الزمن، وكيفية تمثيلاته، وطرائق بوحه، وعلاقته بالسرد في الفيلم الذي يوصف بالإجماع أنه أول فيلم فلسفي حول إشكالية مفهوم الحقيقة في السينما، وقد يكون إيَن جارفي Ian Jarvie هو الاستثناء الوحيد في هذا الإجماع (1).

وفي سياق مسعاي هذا فإن ما يعنيني بصورة رئيسة استكشاف موقع المتفرج وممارساته التبادليَّة في مقابل الفيلم. وفي هذا فإني أود القول -- من دون الادعاء بأنني سأقيل العثرة المؤسفة التي سأذكرها لفوري -- إنه على الرغم من المكانة الأيقونيَّة الجديرة التي حازها الفيلم، والاحتفاء الهائل والمستحَق به في الأوساط السينمائية، والكتابات والأطروحات النقديَّة الكثيرة عنه، فإن القليل من الاهتمام قد مُنِحَ -- لغاية الآن، في حد علمي في الأقل -- لسؤال الزَّمانيَّة فيه، وهو ما أخال أنه العنصر الأكثر أهمية فيه.

خُذ، على سبيل المثال لا الحصر، ما كُتِب عن الفيلم في الكتاب "الشامل" الصادر عن سلسلة Rutgers Films in Print العتيدة؛ فهذا الأثر يتضمن سيناريو التتابع، وثلاثة عشر نصَّا انطباعيَّا وأكاديميَّا عن الفيلم، وهذا عددٌ سخيٌّ مثير للتقدير وجدير بالإعجاب، ومن هنا فإنه مفترض به أن يغطي الجوانب المختلفة التي تتبدى وتعتمل في الفيلم من عدة منظورات قرائيَّة. لكن المؤسف أن كل تلك الكتابات خُلْوٌ من الإلماح إلى بعد الزَّمانيَّة في الفيلم. وثمة مشكلة أخرى أرى أنها تستحق الذكر؛ وهي أن الكتاب لا يتضمن سوى نصٍّ يابانيٍّ واحدٍ فحسب عن الفيلم. وهذا النقص يشكل غياباً فادحاً غير مبرَّر من شأنه أن يحرم القارئ بالإنجليزية من الاطلاع على أنسقة وفضاءات الحوارات التي قاد إليها الفيلم في غير بيئة ثقافية وفكرية (لم يصدر في العربيَّة، على حد علمي، كتاب مخصص بالكامل للفيلم ترجمةً أو وضعاً في ما هو من أعراض تواضع النقد السينمائي لدينا)، بما في ذلك بيئة الفيلم نفسها؛ فالمرء واثق تمام الثقة، مثلاً، من أن النقاد السينمائيين والمثقفين اليابانيين لا بد أن يكونوا قد تأملوا في موضوع الزمانيَّة في الفيلم وفقاً لورودها وتجلياتها في الثقافة والفلسفة الشرقيَّة كما في الديانة البوذيَّة، أو الأساطير، والقصص، والمأثورات الشعبيَّة، مثلاً (2).

------------------------------------------------

*هذه المادة من كتاب في النقد السينمائي يصدر قريبا.

(1). للوقوف على محاججته السَّابحة ضد التيَّار والجريئة، أنظر:

Ian Jarvie, Philosophy of the Film: Epistemology, Ontology, Aesthetics (New York: Routledge & Kegan Paul, 1987), 295-307.

(2). أنظر:

Donald Richie, ed., Rashomon: Akira Kurosawa, Director (New Brunswick: Rutgers University Press, 1990).