ثقافة

أنساغ :الفضاء في فيلم «الأرض الصَّفراء» لِتْشِن كايغ (الحلقة الأخيرة)

21 سبتمبر 2021
21 سبتمبر 2021

تَسْرِيدُ الأرض.. الأرض بوصفها سردًا:

عبدالله حبيب

منذ بداية الفيلم فإن ثيمة الكلمات الغنائية المِلِنخوليَّة التي ترددها الصبيَّة تجمع بين الحزن الشخصي (وفي بعض الحالات: عدم القدرة على البوح بالكامل عن ذلك الحزن أو استحالة ذلك البوح من الأساس) والإحالات إلى الأرض وما يعتمل فيها:

«عندما أبدأ في الغناء أشعر أن قلبي ينفجر

في الحبوب البازلَّاء هي الأكثر استدارة

اشفقوا على الصبايا البائسات، الصبايا البائسات

الحَمامات تطير في السماء

إنني أفتقد أُمِّي»،

أو:

«الأرض في الوادي وثمار البطيخ على التل

لا أريد أن أغني بأني ضُرِبتُ...

العذاب يدوم للأبد، والعذوبة قصيرة».

منذ البداية يقرن التركيب المشهدي (mise-en-scene) للفيلم الصبيَّة بالأرض الصفراء من خلال أنشطة حياتيَّة مختلفة في البيئة الريفية، وذلك مثل جلب الماء من النهر الأصفر الذي، في نهاية الفيلم، تختفي الصبيَّة فيه حرفيًّا في الرحلة التراجيديَّة للخلاص الواهم والنجاة المستحيلة. وحقاً فإنه لَذو مغزى يُحفَلُ به أن غناء الصبيَّة يترافق مع جلب الماء من النهر الأصفر أكثر من مرة في الفيلم. وفي هذا يؤلِّف الماء، والأرض، والغناء مثلَّثًا مرئيًّا وغير مرئي في ذات الآن. ولذلك فإنه لن يكون من التهوِّر بمكان اقتراح أن الغناء الحزين الذي تشدو به الصبيَّة هو، في الحقيقة، غناء الأرض نفسها؛ فبغياب الأمِّ الطبيعيَّة (البيولوجيَّة) عبر الوفاة تُسامى الصبيَّة وتُصَعَّدُ إلى موضع تكون فيه ابنة الأرض الصفراء، والمرآة التي يتبدى في انعكاساتها تاريخ تلك الأرض، فكأنما تغنِّي الصبيَّة «مع» الأرض الصفراء و«لها» في نفس الوقت، أو أن الأرض الصفراء تعبِّر عن مراراتها، وخيباتها، وقلقها عبر صوت الصبيَّة/ ابنتها. وبهذا المعنى فإن الأرض تبوح بحقيقة مشاعرها، إن جاز القول، إلى الزائر الجديد من زوَّار السلطة: جندي جيش الخط الثامن الذي تكمن مهمة حزبه الشيوعي في «جمع» إفادات الوجدان الشعبي بالطريقة التي تعبِّر عنها بعفويَّة عميقة الأغاني الرائجة بين أهالي تلك المنطقة الجبليَّة النائية وثقافتها.

هذا، وفي إحدى تلكم الأغاني، وتحديدًا تلك التي نسمعها أثناء مغادرة الجندي للقرية عائدًا للالتحاق بموقعه العسكري والحزبي، تُطْلِقُ الصبيَّة/ الأرض الصفراء هذا السؤال الذي لا يُجابُ عنه: «متى سيتمكن الفقراء من أن يعيشوا حياة جديدة»؟. وهذا السؤال مهم للغاية ومُفارِقٌ بصورة حزينة خاصة للحزب الشيوعي؛ وذلك من حيث إن جندي جيش الخط الثامن يُنفِقُ جُلَّ الوقت الذي قضاه في القرية وهو يبشِّر بـ«الحياة الجديدة» التي سيجلبها الحزب الشيوعي إلى الناس، كل الناس، ولكن الفيلم- وخاصة نهايته- يشي بأن ذلك الوعد الجازم مبالغ فيه كثيرًا.

وفي سياق الزمان/ الفضاء فإن الطريق الذي يربط بين بيت العائلة الكهفي والنهر الأصفر يشكِّل تَنَاظُرًا (بمعنى: correlative) طوبوغرافيًّا للأول (البيت الكهفي). وهو، علاوة على ذلك، يتبدَّى في ما يسميه ستيفَن شارف Stefan Sharff «الصورة المألوفة» (familiar image) وما يدعوه ميخائيل باختين Mikhail Bakhtin «كرونوتوب» (chronotope). يعرِّف شارف «الصورة المألوفة» بأنها: «لقطةٌ حيَّة ذات بصمة قويَّة تكرِّرُ نفسها بصورة طفيفة في الفيلم. وهذا التكرار يُنْتِجُ تأثيرًا مُعَلَّى، ويخلق فكرة بصريَّة مجرَّدَة. إن الصورة المألوفة تعمل بوصفها جسرًا ترسيخيًّا للفعل « بمعنى: action»ُيوَلِّد المعنى في أثناء تقدُّم أحداث

« الفيلم» (1).

ومن ناحية أخرى فإن باختين يستعير مفهوم الـ«كرونوتوب» (والذي يعني حرفيًّا: «الزَّمَكان»، أو انصهار الزمان والمكان في كتلة واحدة يستحيل التمييز بينهما) من علوم وفروع الرياضيَّات والفيزياء. والحقيقة هي أن باختين قد ألهمته الطريقة التي استعمل بها إلبرت آينشتاين Elbert Einstein المفهوم في النظريَّة النسبيَّة؛ فباختين يسعى جاهدًا لتطويع فكرة «الكرونوتوب» في أبحاثه حول الأجناس السرديَّة مثل الرواية التَّشَرُّدِيَّة (picaresque novel). وفي أية حال فإن القدرة غير المسبوقة وغير الملحوقة التي تتمتع بها السينما في إنتاج، وإعادة إنتاج، وتمثيل (بمعنى: representation) الزمان و/في المكان تجعل منها أكثر قابليَّة من الرواية لاستيعاب وتطوير المفهوم. يقول باختين إنه تبنى فكرة «الكرونوتوب» «بوصفه مجازًا (تقريبًا ولكن ليس بالكامل). إن ما يهم.. هو أن «تلك الفكرة» تعبِّر عن عُرى لا تنفصم بين المكان والزمان « الزمان باعتباره البُعد الرابع للمكان... » وفي الكرونوتوب الفنِّي تَتَّحِدُ المُحَدِّدات المكانيَّة والزمانيَّة في كُلٍّ واحدٍ راسخ ومُفكَّر به بعناية. إن جاز القول فإن الزمن يَثْخُنُ، ويكتسي لَحْمًا وشحمًا، ويصبح مرئيًّا فَنِّيًّا. وبالمثل فإن المكان يَنْشَحِنُ ويستجيب لحركات الزمن، والحبكة، والتاريخ» (2).

يهمني هنا قول إن اللقطات التأسيسيَّة (establishing shots) لفيلم «الأرض الصفراء» تَحصُّ معنى خاصًّا للطريق مرتين في لقطتين منفصلتين، وبهذا يصبح الطريق الصورة المألوفة في الفيلم، ونحن نرى الشخصيات البشريَّة الرئيسة (الجندي، والأب، والابن، والبنت) في الفيلم وهي تقطع الطريق أو تلتقي فيه. والفلاحون المشاركون في حفلتي العرس اللتين نراهما في الفيلم يستعملون نفس الطريق إذ أن «الطريق بوصفه دربًا للحياة هو كرونوتوب راسخ» كما تقول بام مورِس Pam Morris (3). وإلى جانب هذا الاستعمال المنفعي المباشر فإن الكاميرا تعزِلُ الطريق عدة مرات، وتبرزه لصالح نفسه بغض النظر عن أدائيَّته البراغماتيَّة ونفعيَّته وبوصفه صورة زاخرة قائمة بحد ذاتها. وفي لحظة معيَّنة من الفيلم يُجاِوِرُ المونتاجُ الطريق بلقطة مقرَّبَة لوجه الأب الذي تكتسي سيماء جبهته قَسماتٍ طوبوغرافيَّة. هكذا تصبح صورة الطريق المألوفة كرونوتوب الفيلم؛ وذلك بمعنى أنها الموقع الذي تكتسي فيه صورة الماضي «لحمًا وشحمًا» وتقابل الحاضر. هذا، ولا أظن أن الفيلم يتعلق بالصين الإقطاعيَّة، أو الصين الشيوعية في ثلاثينات أو ثمانينات القرن الماضي؛ بل إنه يخص التاريخ الصيني بأكمله. بكلمات أخرى، إنه توليفة (synthesis) كرونوتوبيَّة للماضي القمعي ووعد الحاضر غير المتحقق الذي يتكفل الطريق والصبيَّة بأن يكونا شاهدَيْن على نقصانه أو تعذُّره؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، يسلك الموكب العُرسيُّ للزواج المُرَتَّب له وفق الأعراف والتقاليد الإقطاعية نفس الدرب - حرفيًّا، ومجازًا، ورمزيًّا-- التي يقتفيها الجندي المنتمي إلى الحزب الشيوعي وجيش الخط الثامن. ولذلك فإن الطريق، بوصفه كرونوتوب الفيلم، إنما يكشف للعيان بعض الميثولوجيَّات التأسيسيَّة للحزب الشيوعي الصيني إذا ما نُظر إليه من زاوية نقديَّة تحتفي بالجرح الإنساني والمآلات الشخصية أولًا؛ فالماضي المُثقل يقفز من عمق الزمن ويتَّخذ، في الحقيقة، «فضاء» في الحاضر. وهكذا فإن ذلك الطريق المعزول، في الفيلم، يصبح صورة مايكروسكوبيَّة لدرب على تاريخٍ كامل لأمَّة أن يعبره حرفيًّا ورمزيًّا نحو مصير يتعذر اجتنابه على الرغم من كل النوايا الثورية والطيبة للحزب الشيوعي الذي لا يتمكن من إنقاذ الصبيَّة من الموت غرقاً في النهر الأصفر، في الأرض الصفراء.

وفي خاتمة مختصرة لهذه الورقة المتواضعة سأقول إنني حاولت جهدي في التركيز على تمثيل (representation) الفضاء في فيلم «الأرض الصفراء». وفي ذلك التمثيل فإن الأرض نفسها هي قصة الفيلم أكثر بكثير من الشخصيات الآدميَّة التي تدبُّ على ذلك التراب. الأرض هي «البطل»، أو بالأحرى هي البطل التراجيدي للسرد الذي يتبدى بوصفه صورة راهنة للتاريخ. وبهذا المعنى فإنه يمكن اعتبار الفيلم أَلِيغوريا وطنيَّة ما بعد اشتراكيَّة للصين المعاصرة. وفي ذلك السرد الأليغوري الفاتن يشكِّل الطريق الرابط بين النهر الأصفر والبيت الكهفي للعائلة كرونوتوب الفيلم وصورته المألوفة معاً.

)1): Stefan Sharff, The Elements of Cinema: Toward a Theory of Cinesthetic Impact (New York: Columbia University Press, 1982), 177.

(2): Mikhail Bakhtin, The Dialogic Imagination, ed., Michael Holquist, trans., Caryl Emerson and Michael Holquist (Austin: University of Texas Press, 1981), 84.

(3): Pam Morris, ed., The Bakhtin Reader: Selected Writings of Bakhtin, Medvedev, Voloshinov (New York: Edward Arnold, 1994), 181.