د. حسن حنفي
د. حسن حنفي
ثقافة

أضاميم: رحيل المفكر د. حسن حنفي - مشروع فكري قائم على نقد التراث ووضع المصلحة أساساً للتشريع

23 أكتوبر 2021
23 أكتوبر 2021

عرفت الدكتور حسن حنفي من مؤلفاته التي وصلتنا قبله، ومن كتابة النُّقاد عنه، فقد وُصِف أنه يسابق الزمن بمؤلفاته، ويرى أن العمر قصير جداً، بالكاد يكفي لإتمام مشروعه الفكري، رغم ذلك امتد به العمر ليصل إلى 86 عاماً، ولد في عام 1935م، وفي مؤلفاته التي تنوعت بين الفكر والفلسفة، يكتب على مستويات ثلاثة؛ الأول خاص للمشتغلين بالدراسات الفكرية من الأكاديميين، والثاني للمثقفين وخريجي الجامعات، والثالث لعامة الناس، وفي هذه الإضمامة أحاول أن أقترب قليلاً وبتوجس من أفكار هذا المفكر الكبير، الذي رحل عن دنيانا قبل ثلاثة أيام، من خلال تفحُّصي لحوار أجريته معه، ونشرته في كتابي: «إبحار باتجاه الكلمة»، وقبل ذلك كنت قد نشرته في صفحات جريدة عُمان، لذا ما سيأتي من حديث، ما هو إلا استنطاق لذلك الحوار واستئناس به، وبالمحاضرة التي ألقاها في النادي الثقافي بمسقط، وكنت قد تابعتها ونشرتها صحفياً، يقيناً من أن الأفكار تتجدد باستمرار.

كلما تذكرت الدكتور حسن حنفي، يستيقظ في ذهني مشهد رأيته فيه وهو جالس على الكراسي الأمامية، وكان ساهي الطرف ومغمض العينين حد النوم، والقاعة غاصَّة بالحضور، في أمسية فكرية أقيمت في ما عُرِف سابقاً بنادي الصحافة بمسقط، تلك الأمسية نظمتها بلدية مسقط بتاريخ: 18 يناير 2003م، بعنوان: «آفاق المشروع والتطلعات لنقد العقل العربي»، وما تزال بعض تفاصيلها حاضرة في ذهني، يبدو أن الدكتور كان في تلك الليلة مرهقاً، حتى علمت منه أنه ينام في العادة مبكراً، ولا يحتمل السَّهر، يقول: (لقد أخذت على نفسي التزاماً صارماً، أن أنام مبكراً واستيقظ مبكراً).

في تلك المحاضرة تحدث عن نقد العقل العربي، حينها كان هذا النقد رائجاً بين مجموعة من مجايليه من المفكرين، وما يزال الطرح في شبابه، وظهرت فيه دراسات كثيرة تنقده وتحلله، مع أنه لا يؤمن بمصطلح العقل العربي، فبحسب كلامه: (العقل من الله، ولا يوجد عقل عربي أو انجليزي أو فرنسي أو أمريكي، ولكن يوجد تفكير، فهذه كلمات عنصرية)، ويضع الدكتور حنفي (المصلحة أساساً للتشريع)، لذلك هو مع الشاطبي في «الموافقات»، والغزالي في «المستصفى»، وإن كان لا يوافق الأخير في كتابه «تهافت الفلاسفة».

وعاش حنفي فترة هاجس العمر القصير، وانقضاء الزمن سريعاً، فقد ذكر الدكتور علي حرب في كتابه: «نقد النص»: (أنَّ قصر العمر يشكل هاجساً لدى حسن حنفي، يهجس به منذ بدأ التفكير بمشروعه، وقد قوي هذا الهاجس مع تقدمه في السن، وإحساسه بأنه لن يفي بما وعد به)، وهذا على صعيد التأليف، فهو صاحب الأعمال الموسوعية، وكذلك في إلقائه لمحاضراته، كان سريعاً، وكأنه يحفظها عن ظهر قلب، ويظهر أن تزاحم الأفكار عليه يجعله يحاول اللحاق بالوقت.

ويُحْمَد للدكتور حسن حنفي في مؤلفاته: أنه يراعي القارئ، ليدنو منه بتواضع، ويحاور ذائقته، ويهمه أن يؤثر فيه، ويدخل في نسيج تفكيره، ومن يقرأ له مؤلفاته يلمس فيها روحاً غنائية ولغته شعرية، فهو فنان في الكتابة، يرجع ذلك إلى ميله إلى الموسيقى، وقد كان لدى الدكتور حنفي خياران: إما أن يتخصص في دراسة الفلسفة، أو ينحو إلى الموسيقى، ولكن عمر الإنسان أقصر من أن يكون فيلسوفاً وموسيقياً في آن، وعليه أن يختار بين دراسة الفكر والفلسفة، أو التخصص في الموسيقى، فانحاز إلى الخيار الأول، مع فهمه في الموسيقى التي لم تغب عن مؤلفاته، إذ اتسم سبكه بروح غنائية شفيفة، أو كما يعبر بقوله: (من يقرأ مؤلفاتي يجد فيها حساً غنائياً، وهذا جزء من طبيعتي ومزاجي، كما هي مؤلفات فلاسفة من مثل: نيتشه وأبي حيان التوحيدي).

ومنذ أكثر من سبعين عاماً والدكتور حسن حنفي منشغل بتحصيل العلم، فقد نذر حياته له، وحدده في حديثي معه بداية بعام 1948م، بانضباط صارم لم يتنازل عنه، والتزام لم يتهاون فيه، وهذا أحد أسرار كثرة المؤلفات لديه، وتعدد أجزاء كتبه، إذ أن كبار المؤلفين لم يكن لينجزوا الموسوعات متعددة الأجزاء، ما لم ينذروا حياتهم للعلم، هو مشروع العمر كله، وكان انشغاله بالعلم يأخذ كل وقته، وحتى في اليوم الذي يَلقى فيه طلابه في الجامعة، يكون ملتزماً في حضوره وانصرافه.

وترتبط جذور التفكير لدى الدكتور حنفي بمن سبقه من الإصلاحيين، وقد قرأ بوعي لمحمد عبده، وقاسم أمين، ورشيد رضا، وحسن البنا، وسيد قطب، وأبي العلاء المودودي، ومحمد إقبال، وتأثر كثيراً بجمال الدين الأفغاني، وكتب عنه كتاباً بمناسبة مرور مائة عام على وفاته، (توفي عام 1897م)، ويراه أنه حاول تثوير المجتمع الإسلامي وتجديد ثقافته، وتحفيزه للوقوف في وجه الاستعمار، كما حاول النهوض بالدولة العثمانية، وكانت الحركات الإصلاحية هي المحرض الأول لتفكيره.

ولم ينحصر فكر الدكتور حسن حنفي في فلسفة واحدة، فقد استقى من أكثر من نبع، أهمها المعتزلة، وتمثل بها في علم الكلام، وانشغل بفلسفة ابن رشد، ويصفه بأنه: (مفكر عقلاني نقد فكر الأشعرية، ودافع عن حرية الفكر، ودافع عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي عليها).

ومن يقرأ فلسفة التفكير لديه، يلمس فيه تتابعية منهجية، تسير في خط واحد، لها مبتدأ ومنتهى، ككتابه: «من العقيدة إلى الثورة»، الذي درس فيه علم الكلام، ودرس الحكمة في كتابه: «من النقل إلى الإبداع»، وعلم الأصول في كتابه: «من الفناء إلى البقاء»، وقرأ التراث في كتابه: «من العقيدة إلى التراث»، وهذا التتابع يمثل منهجية خاصة به، استطاع من خلالها أن يؤسس لمشروعه الفكري ويسير عليه.

وفي دارسته لعلم الكلام، يرى الدكتور حنفي أن صفات العقل والسمع والبصر يعيشها الإنسان: (إذ ما قيمة أن أعلم أن الله سميع وبصير، وأنا أصم وأعمى، أليس من الأجدر أن أعبد الله، وأنا سميع وبصير بمعارفي وثقافتي ويقيني؟)، وهذه العبارات الكلامية نسمعها في محاضراته وحواراته المتلفزة.

وتتكرر زيارة الدكتور حسن حنفي لمسقط، فيلقي محاضرة فكرية في النادي الثقافي، بعنوان: «صراع الحضارات وحوار الثقافات»، بتاريخ 14 يونيو 2005م، تحدث فيها أن الصراع يراد به: (صراع بين المعسكرات، وبين الأيديولوجيات، والنظم السياسية الاشتراكية، والرأسمالية، الشرق والغرب، الشمال والجنوب، الأغنياء والفقراء، المركز والمحيط)، كما يرى أن هذا الصراع: (في ظاهره الثقافة، وفي باطنة السياسة).

وفي مقابل صراعات الحضارات، ظهر نموذج عُرِفَ بحوار الثقافات: (الذي تبناه الشرق القديم حتى ظهور الحضارة العربية الإسلامية)، وأنه: (بلغ الذروة في الحضارة العربية الإسلامية، وقد نزل الوحي بلسان عربي مبين، ولم يقض على ثقافات شبه الجزيرة العربية؛ اليهودية والنصرانية والحنيفية والوثنية، بل حاورها، ووصف تطورها التاريخي ومذاهبها، وانحراف بعضها عن الأصول الأولى)، وسيظل الصراع والحوار لازمتان متبادلتان بين البشر، مدعومتان بإقصاء فكري، وعنصرية مقيتة.

ويرحل الدكتور حسن حنفي عن 86 عاماً، قضى أكثرها مدرساً للفلسفة، ومحاضراً في الفكر، في أكثر من محفل ثقافي وأكثر من جامعة، أبرزها جامعة القاهرة، ترك قائمة من المؤلفات، بعضها بأجزاء متعددة، وحياته مقسمة بين القراءة والكتابة، فلا يمر يوم عليه دون أن يقرأ، ويختار في قراءاته أمهات الكتب، ويغوص في الماضي ليبني عليه، ويستخلص رؤيته المشرقة من تلك المنابع الثروة والعميقة، بروح فيلسوف لا يكل من البحث والكتابة وطرح الأسئلة، فهل اكتمل مشروعه الفكري؟، هل أنجز مفكرٌ ما وعد؟، وهل تحقق حلم الفيلسوف؟، لو كان حياً لأجاب: إنه ما يزال يواصل سيره حثيثاً في طريق طويل، ولكن الموت يقرِّب من الختام سريعاً، ويحيله إلى الكمال والاكتمال.

شرح الصورة:

د. حسن حنفي