ثقافة

أدب السجون الجديد في فلسطين.. ظاهرة تستحق التفكير

27 سبتمبر 2023
27 سبتمبر 2023

ثمة ظاهرة ثقافية واضحة ما زالت تثير العديد من التساؤلات، في أوساط المثقفين الفلسطينيين والأدباء والمهتمين، وهي تزايد صدور روايات تتحدث عن التجربة الحياتية والنضالية لمؤلفها في السجون الإسرائيلية، وتزايد اهتمام القراء بها، وكتابة مقالات نقدية عنها وعقد أمسيات توقيع لمؤلفيها، وما يلفت انتباه المهتمين والنقاد هو ملاحظتهم نضج الأدوات وحداثة المضمون في بعض هذه الروايات، بعيدا عن النبرة الشعارية المتشنجة واللغة العاطفية الحنينية، التي وسمت معظم روايات ودواوين أدب السجون، والتي تعّود عليها القارئ الفلسطيني. يقول الشاعر الفلسطيني طارق العربي: فرحت كثيرا وأنا أقرأ أخيرا أدب سجون فلسطيني راقيا وبعمق ونوعة تأملية عالية، لطالما تساءلت مع جيلي عن سبب غياب العمق في كتابات السجون، رغم أن تجربة السجن بتركيبها وتعقيد فكرتها وامتداداتها وهواجسها الشخصية و الوجودية تستطيع مساعدة الكاتب على الشطح والذهاب إلى مناطق جديدة في التفكير والسرد والتعامل مع الحبكات برؤية غير سطحية.

ويجيب الدكتور عادل أسطة وهو ناقد معروف، ومتابع دقيق لأدب السجون على سؤالنا بخصوص هذه الظاهرة:

(كثرت إصدارات السجناء القابعين في السجن والمحررين منهم في السنوات الأخيرة كثرة لافتة لم نعهدها في العقود الأربعة الممتدة منذ ١٩٧٠ حتى ٢٠١٠، ولم تعد مقتصرة على فن الرسائل والشعر والقصة القصيرة، وهو ما غلب منذ ٧٠ القرن ٢٠ وكتبه أدباء سجنوا.

قبل ١٩٩٠ كتب الروائيون عن السجن من خلال ما سمعوه عنه من سجناء وهو ما نلاحظه في "المتشائل" لحبيبي و "الصبار" و "عباد الشمس" لسحر خليفة.

منذ ١٩٩٠ بدأ السجناء غير الأدباء يكتبون عن تجارب سجناء في المعتقلات كما فعل السجين هشام عبد الرازق في روايته "الشمس في معتقل النقب".

لم تكن الكتابة مجرد حنين.. كانت تصويرا لعالم السجن وحياة السجناء.

منذ العام ٢٠٠٠ بدأ السجناء يكتبون عن تجاربهم الخاصة في السجن ومن أوائل من كتبوا عائشة عودة في "أحلام بالحرية" و "ثمنا للشمس" وتوالت بعد ذلك كتابة السير الذاتية والروايات التي تأتي على تجارب الكتاب السجناء، ولكن هذه الكتابة لم تقتصر دائما على تدوين التجربة الشخصية لصاحبها، فهناك من كتب الرواية التاريخية التي لا تمت لعالم السجن بصلة مثل باسم الخندقجي، وهناك من استرجع تجارب حياته خارج السجن وكتب في رواياته عنها)..

كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى انتعاش ظاهرة أدب السجون في فلسطين، وإلى نضج عوالمها ولغتها، منها السبب الأساس الذي يتفق عليه الجميع وهو هوس الفلسطيني بالتوثيق، وهو المحاصر بالمحو والإلغاء وطمس الوجود،، فكلما واجه الفلسطيني أزمة حصار أو اعتقال، يذهب فورا إلى تسجيل ما حدث سواء على شكل يوميات أو أدب، هذا ما تؤكده وقائع الانتفاضات الفلسطينية التي مرّت على الشعب الفلسطيني، فقد قرأت عشرات الكتب غير المنشورة والتي يطمح كتابها إلى نشرها، توثق لحظات المواجهة مع الإسرائيليين وهم يقتحمون قراهم ومخيماتهم ومنهم، ويفضفض فيها كاتبوها عن مشاعرهم وآرائهم، وقد فوجئت أن عديدا من طلابي في المدارس الفلسطينية وثّقوا بالقصص والمقالات والتأملات كثيرا من وقائع المواجهة مع المحتل، إذن يبدو أن ازدياد شراسة المحتل في محاولاته كسر إرادة الشعب الفلسطيني، يقابلها حماسة في تدوين الوجود الفلسطيني بكافة مستوياته، وردا على سؤالنا عما يعتقده أسبابا أخرى لتوسع ظاهرة أدب السجون، يجيب أحد أهم كتّاب أدب السجون الروائي محمد البيروتي الذي أمضى سنوات طويلة قي سجون الاحتلال وله عدة روايات:

(دون شك لوحظ ازدهار للإنتاج الأدبي وشبه الأدبي للسجناء في الفترة الأخيرة، مع أن هذا الإنتاج ليس جديدا فقد صدر العديد من الكتب بعضها تمكن من اجتياز بوابات السجن مثل روايات فاضل يونس العديدة وبعض الكتب التي تمكن كاتبوها من إخراجها ونشرها، وهناك عدد من الكتاب ممن وضعوا كتبا لكنها ضاعت في الفترات الأولى وبالذات في الفترة بين بداية السبعينات ومنتصف الثمانينات جراء المصادرة وصعوبات تهريبها.

خلال الفترة القديمة كانت الكتابة رهنا على بعض المثقفين وذوي المقدرة الكتابية ولم تكن أمرا عاما، وهذا هو الوضع الطبيعي، ما حدث في السنوات اللاحقة هو ازدهار واضح للكتابات أوجز أسبابها بالعوامل التالية:

مرتبط ببضعة عوامل أوجزها قدر المستطاع، أولها: نسبة السجناء من المتعلمين في الفترة الأخيرة كبيرة أي بعد الانتفاضة الثانية وما تلاها،

العامل الثاني انتشار التعليم الجامعي وحصول المعتقلين الفلسطينيين على فرص الحصول على الدرجة الجامعية الأولى وبعضهم حصل على الدرجة الثانية داخل السجن وبتشجيع داخلي.

العامل الثالث – ولا أعلم إذا كان هذا واقعيا أم لا، في الفترات الأولى كانت الثورة في حالة تقدم وازدهار وهذا حدث كان يطغى على أفكار المعتقلين ويرفع من معنوياتهم ويجعلهم وكأنهم في حالة انتظار. في حين أن فترة ما بعد منتصف العقد الثاني من القرن الحالي سادها الركود مما دفع المعتقلين الى الانشغال في التعلم والإنتاج.

العامل الرابع: وجود عدد من المعتقلين في مختلف السجون لهم دور كبير في حث كل من لديه تجربة تستحق الكتابة أن يقوم بكتابتها مع توفر الأدوات لذلك، مثل المساعدة اللغوية على وجه الخصوص.

العامل الأخير هو العامل الحاسم: توفر وسيلة إخراج الإنتاج إلى النور عبر الخلويات المتواجدة في مختلف السجون رغم سعي إدارات السجون إلى مصادرتها.

ربما يضاف إلى ذلك توفر آليات وموازنات الطباعة لدى بعض المؤسسات مثل اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة وهيئة شؤون الأسرى.

بقي أن أضيف إن الجانب الشكلي في معظم هذه المنتجات يعتوره الخلل، حيث يجري التركيز على المضمون وتجاهل القيم الشكلية في العمل الفني).

ينقسم أدب السجون سواء كان يوميات أو روايات أوشعر الى قسمين، الأول يكتبه الفلسطيني داخل السجن، والثاني يكتبه خارجه، وقد أجابنا الشاعر المتوكل طه الذي أمضى سنوات طويلة متقطعة داخل المعتقلات الإسرائيلية محللا بشكل دقيق وشاف الفرق الجمالي بين الأدب الذي يكتبه السجين داخل السجن والآخر الذي يكتبه بعد تحرره:

(أدب المعتقلات، عامّة، هو أقرب إلى المباشرة، وينتمي إلى كتابة الضرورة، في لحظات الاشتباك المتواصل الساخن، وقلّما تجد أدبا "تأمّلياً عميقاً" إلا في عدد قليل من الروايات، وبعض الدراسات الفكرية المعمقة.

لكن الكتابة خارج المعتقل،عن المعتقل والأسرى، بمجملها، ترى المشهد على رحابته، وتدرك العديد من التفاصيل، لم يكن يراها وهو محشور خلف القضبان، لأن شدّة القرب حجاب. والكتابة في الخارج تتحرّر من "التابوات والممنوع والمُحرّم" داخل الغرف المغلقة، ولديها القدرة لتبحث عن البلاغة والصورة، وتنجح أكثر لتشتقّ صيغا جديدة وأساليب تشكّل أرضا أكثر عافية وجمالا للكتابة.

إن الروائي، مثلا، في روايته داخل السجن، يكتبها تحقيقا لضرورة مُلحّة، واجبة الوجود، وهي إثبات الذات، وقدرتها على "الحياة" والنهوض والاستمرارية، حتى لا تذوب في الهزيمة أو تندفن تحت أسداف العتمة وتروح إلى العدم.. أما في الخارج فالكتابة تتغيّا أهدافا أوسع وأبعد، فتنطلق لتسجيل التجربة، وتستعير الجَماليات، ولو عبر استقدامها من الذاكرة، لتكون سدّاً منيعا في وجه أسئلة الحياة الأكثر شمولية.