No Image
ثقافة

«أحلام أسامة»

23 أكتوبر 2023
23 أكتوبر 2023

نشر القاص الإنجليزي جون ريفنسكروفت قصة بعنوان «أحلام أسامة» ضمن مجموعته القصصية «قتل الأرانب» الصادرة بترجمتها العربية في 2005م عن دار شرقيات بترجمة المصرية فاطمة ناعوت. تحكي القصة مأساة الحادي عشر من سبتمبر من خلال وجهات نظر متعددة تمثلها أربع شخصيات تحلم أحلاما مختلفة، غير أنها تنتهي جميعا بنهايات متشابهة عندما تلتقي الشخصيات الثلاث الأولى في مكان واحد أمام رجل نائم على سرير من الحبال في أحد الكهوف في عمق الصحراء، وليس هذا الرجل النائم سوى الشخصية الرابعة/ أسامة نفسه الذي يحلم هو الآخر حلمه الخاص.

ترسم الأحلام المختلفة صورة كاملة للمأساة من زوايا أربع، ولكنها زوايا تُقارب بين حلم وآخر: بين حلم الضحية وحلم الجلاد، وبين حلم الجلاد والجلاد المقابل. في البدء يدخلنا ريفنسكروفت في فضاء الحلم الأول لامرأة تدعى «مارسيا» فقدت زوجها في تفجيرات البرجين العالميين. تتجلى مأساة هذه المرأة «وقد انقضى زمن على الكارثة» في أحلامها/ كوابيسها التي لا تغادرها إلا نادرا، على الرغم من أنها غادرت مكان الكارثة برمته وسكنت بعيدا جدا عن نيويورك، إلا أن أحلامها ما تنفك تلاحقها فتحرمها النوم، وتجعلها رهينة لحظة الكارثة بتفاصيلها المرعبة. وكمعظم الأحلام، تجد مارسيا فجأة سكينا في يدها؛ أداة انتقام تريدها وتطلبها في الواقع، ولكنها في الحلم لا تعرف كيف وصلت إلى يدها. بيد أنها على الأرجح لن تُتِم عملية الانتقام حتى ينتهي السارد من سرد حلمها على الأقل، في انتظار أن تنضم إليها بقية الشخصيات في نهايات أحلامها. يرد نص الحلم الأول/ المقطع الأول في القصة كالآتي:

«الليلة، في مكان ما بعيدا عن نيويورك، ثمة امرأة شابة تحلم. اسمها «مارسيا». وحيدة في فراشها تحلم بالأوقات الأجمل، بلحظات المشاركة: نزهات خلوية، رحلات إلى حديقة الحيوان، عرض سينمائي، دعوة إلى العشاء. تبتسم في نومها حين تتحرك أصابع زوجها الميت فوق كفها، حين تقبّل شفتاه الميتتان النبض الحي في أسفل عنقها. هي تحلم بالذي «كان»، تحلم بحفنة السنوات التي لم تكن فيها وحيدة.

في الليالي الطيبة ترسو أحلامها عند تلك اللحظات، تلك الأمكنة. لكن الليالي الطيبة نادرة، وهذه الليلة لم تكن واحدة منها. الليلة أمام عينيها الشاخصتين، يتناثر طعام نزهتها الخلوية فوق الأرض المعشوشبة: يتعكر، يتعفن، يفور بالديدان. الليلة تتحول حيوانات الحديقة إلى حشود مزمجرة تطارد بالسياط وحوشا وتهدم أقفاصها. الليلة يرعبها الفيلم السينمائي، والوجبة التي هي مجبرة على أكلها كان لها طعم التراب في لسانها، والرماد في حلقها.

الليلة مرة أخرى، مارسيا تكافح وتتصبب عرقا وتئن، ورغم أنها قد باعت شقة نيويورك وانتقلت بعيدا، بعيدا جدا، إلا أنها تعلم أن ليس بوسعها أبدا أن تنتقل بعيدا بما يكفي للهروب من أحلامها. أحلامها تتبعها، تجدها أينما ذهبت، ليلة بعد ليلة. أحلام عن الأبراج، عن الطائرات، عن الحجارة المتكسرة المتساقطة، أحلام عن الموت.

الليلة، المرة تلو المرة تلو المرة، ترى الجثث تتبعثر من النوافذ، تسمع الأبراج تنهدم وتُدكّ على الأرض، تشعر بروحها تهوي إلى حفرة لا قاع لها من الخسران والفقد، كوة جحيم من التشوش والحيرة.

والآن، هذه الليلة، ثمة أمر جديد. الليلة، حين فتحت عينيها الحالمتين وجدت مدى صحراويا متراميا أمامها. قفرٌ، جدبٌ قاحل، وذو جمال غريب. الهواء المتحرك كان معبأ بالغبار والدعاءات. الله، الله، الله.

في الصحراء وجدت متاهة من الكهوف. وفي العمق الأقصى، في أكثر الكهوف إعتاما، وجدته يرقد مجهدا على سرير من الحبال. رجلٌ وسيم، أسود العينين، قاتم اللحية. رجل نائم، رجل أعزل غير محصّن.

ووجدت مارسيا في قلبها كراهية، وفي روحها رغبة قاتمة، وفي يدها وجدت سكينا. سكين صغيرة، نعم هذا حقيقي، لكن في مثل هكذا أوقات تستطيع السكاكين الصغيرة أن تنجز الكثير. ومن بوسعه أن يعرف حقيقة السكاكين الصغيرة أكثر من هذا الرجل؟ سكيني حادة، فكّرت مارسيا، نعم، حادة جدا.

«أنت قتلت زوجي»، تهمس. «أنت قتلت نومي»

والليلة، هذه الليلة، في صمت كهف صحراوي، تركع مارسيا بهدوء جوار سرير الحبال وتحلم بأنها تأخذ الثأر»

يظهر أن أحلام هذه المرأة قد مرّت بتحولات عدة، أو أنها تكرّرت بثلاث صياغات على الأقل، فهناك ليال طيبة ترسو عند اللحظات السعيدة، وهذه ليال نادرة. وهناك ليال أكثر تكرارا تستعيد فيها مارسيا طعم الكارثة وكأنها وقعت للتو. ولكنها هنا، في الحلم الأخير، أمام نهاية جديدة تحمل تصعيدا باتجاه الانتقام. انتقام مارسيا في الحلم الأخير ليس لأمر وقع فحسب، ولكن لأمر ما يزال يقع باستمرار منذ الكارثة، فالجلاد قد أخذ منها شيئين: زوجها، ونومها.

يثير ضرب من التناقض الوصفي اهتمامنا في هذا المقطع، ولكنه تناقض محمود تارة وملتبس حد الإرباك تارة أخرى. أما التناقض المحمود فهو وصف الجلاد النائم على سرير الحبال بالرجل الوسيم وأسود العينين وقاتم اللحية. وهو وصف يمتح من الواقع بطبيعة الحال، ولكنه وهنا أهميته - لا يغفل حقيقة أن الشر لا يحوّل بالضرورة صاحبه إلى شيطان في عين ضحيته (على مستوى الشكل على الأقل)، ما يعكس موضوعية تتجاوز العاطفة. أما التناقض المُلبس، فهو ما نحسبه بسبب الترجمة، غير أننا لا نستطيع التثبت من دقته من دون الوقوف على النص الأصلي، ولكن نستطيع أن نسوق أمثلة على ذلك في هذه العبارة مثلا: «حين فتحت عينيها الحالمتين وجدت مدى صحراويا متراميا أمامها. قفرٌ، جدبٌ قاحل، وذو جمال غريب»؛ إذ جمعت هذه العبارة الجمال والقبح في وصف الشيء نفسه؛ الصحراء: قفر/ جدب/ قاحل/ ذو جمال غريب. وفي كل الأحوال قد تجد هذه المتناقضات مساحة تبرير في عالم الأحلام، بيد أننا إذا ما نظرنا إلى بعض المفردات التي وردت في العبارة نفسها فسنرجّح أن الترجمة سبب فيها، مثاله: «حين فتحت عينيها الحالمتين»؛ فنحن نعلم أن المرأة في حلم/ منام، ولكن وصف العينين بالحالمتين في هذا السياق من شأنه أن يوحي بدلالة رومانسية معنوية، ويربك الدلالة الواقعية المطلوبة. ولنأخذ مثالا آخر في هذه العبارة: «ترى الجثث تتبعثر من النوافذ»، والشاهد فيها أن البعثرة تناسب الأشياء المتموضعة على مستوى واحد، كأن نقول تتبعثر الأوراق، تتبعثر الثياب. أما ما سقط من مستوى أعلى إلى مستوى أسفل منه فيناسبه تتناثر/ تتساقط/ تتهاوى/ تتطاير. مثال آخر: «الهواء المتحرك كان معبأ بالغبار والدعاءات»؛ إذ ما الحاجة إلى وصف الهواء بما هو من طبيعته (الحركة)؟ لأن الهواء متحرك بالضرورة حتى لو لم نحس بحركته، أما الهواء محسوس الحركة فيوصف بالنسيم والهبوب والرياح. وجاءت كلمة «الدعاءات» جمعا ثقيلا لكلمة دعاء، وكم كان أسهل لو استبدلت بها كلمة أدعية أو نداءات. هذه أمثلة لما يمكن أن يجعل نص الحلم الأول/ المقطع الأول من القصة يشكو شيئا من الإرباك. سأورد أخيرا عبارة: «تركع مارسيا بهدوء جوار سرير الحبال وتحلم بأنها تأخذ الثأر»؛ فالإشكالية التي قد يحسها القارئ تتمثل في الفعل «تركع» الذي لا يتناسب مع الرغبة في الانتقام، فضلا عن حمولاته الدينية التي تحمل معاني الطاعة والتعبد خصوصا في اللغة المترجم إليها، ولربما كان الفعل «تجثو» أكثر ملاءمة منه.

في الحلم الثاني ندخل حلم شخصية مغايرة، شخصية القس، وقد ضربت الكارثة سكينته الدينية، وهزّت أركان إيمانه الراسخ. تقول القصة في المقطع الثاني إن القس «في حلمه، كان أيضا راكعا على ركبتيه. يركع في الشوارع المتكسّرة. التراب في كل مكان حوله. شعره مبيضّ بالغبار، عيناه مكسوتان بالغبار، رئتاه محترقتان بالغبار. راكعا، أبيض، مكسوا، محترقا، كان الأب «أوو دونيل» يلعن الله.

«كيف أمكنك أن تسمح بذلك؟» يصرخ: «كيف أمكنك؟»

ورغم فداحة هذا السؤال الخارج من هول الكارثة، إلا أن هذا القس لم يكن واقفا مكتوف اليدين أمام الضحايا الذين تساقطوا من حوله، ولكنه في الوقت نفسه لم يتوقف عن طرح سؤاله راجيا أن يفهم كيف سمح الرب بحدوث ما حدث. «يحتضن رأس رجل يحتضر، يستمع إلى آخر همسة يقولها: مارسيا، مارسيا، مارسيا، مارسيا. لكن الله لا يقول شيئا. الرب صامت.

«تكلم إليّ! يهتف الأب «أوو دونيل». «دعني أفهم»

البرج الثاني يسقط. غير واقعي. تصاريف الأحلام. شيء من أفلام سبيلبرج Spielberg

الرجل يموت

الرب يتحرك بطريقة غامضة، ولا يعبأ أن يناقشه.

والليلة يتقاسم الأب «أوو دونيل» الصحراء الباردة مع مارسيا، يشاركها الكهف، يركع جوار سرير الحبال.

«هذا الرجل قتل إيماني»، يخبرها بينما عيناه مثبتتان على نصل السكين اللامع. «هذا الرجل قتل ربي»

والليلة، الأب «أوو دونيل» سوف يحلم أيضا بثأره»

مثل الحلم الأول، في هذا الحلم أيضا تتبدّل الضحية وتتحوّل من صورتها الآدمية إلى صورتها المعنوية؛ صورة الإيمان بالرب الذي تم قتله يوم سمح للكارثة كما يقول - أن تحدث وللضحايا أن يموتوا. الضحية المتحوّلة لا تموت ميتة واحدة كما هو شأن الضحية الآدمية، وإنما يتكرر موتها كل ليلة، في الأحلام كما في اليقظة. أليست الأحلام منشؤها الواقع واليقظة بعد كل شيء؟

ونحسب أن ما قلناه آنفا عن فعل الركوع ينطبق هنا أيضا، سواء في عبارة: «في حلمه، كان أيضا راكعا على ركبتيه. يركع في الشوارع المتكسّرة»، أو في عبارة «والليلة يتقاسم الأب «أوو دونيل» الصحراء الباردة مع مارسيا، يشاركها الكهف، يركع جوار سرير الحبال».

في هذا الحلم يشبّه السارد سقوط البرجين في الحلم بأفلام المخرج ستيفن سبيلبرج. رغم أن سقوطهما في الواقع لم يكن أقل غرائبية، إلا أنه قَصَر هذا التشبيه على سقوطهما في الحلم، مع أن الأحلام فيها ما يكفي من الغرائبية دون الحاجة إلى تشبيه تصاريفها بالأفلام. وهذا يقودنا إلى مقاربة لفظية بين الأحلام والأفلام، التي كثيرا ما تحيل إلى فرضية أن الأفلام منشؤها الأحلام، أو أن الأحلام ما هي إلا أفلام في عالم مواز. ولكن هنا في هذا السياق، يعزز ريفنسكروفت من حقيقة أن الواقع أكثر غرائبية من الأحلام والأفلام معا، بل إنهما قد يكونان مجرد نسخة مشوّهة من واقع غير قابل للتصديق.

فلننتقل إلى الحلم الثالث الذي يبدو إشكاليا أكثر من سابقَيه؛ إنه حلم الرئيس الأمريكي إبان الكارثة جورج بوش الابن. يقول نص الحلم/ المقطع الثالث في القصة:

«جورج، ابن جورج، يقضي الليلة بالخارج، يحلم أحلامه. البيت الأبيض ينبسط فوقه وحواليه مثل زوج من أجنحة عظيمة واقية، تحفظ وتؤمّن حياة أكثر الرجال قوة فوق الأرض. لكنه في أحلامه ليس سوى جورج الضعيف، جورج المتعب، جورج غير الآمن. في أحلامه يبحث عن شيء ما يبحث، لكن لا يجد أبدا. ومثل الأب «أوو دونيل» يركع على ركبتيه في التراب، يرفع الصخور، ينظر تحتها. لا شيء. فقط المزيد من التراب.

طائرات/ لعبة، العشرات منها، تئز حول رأسه، تشتت انتباهه، تزيد حنقه. يمد يده ويمسك واحدة، يحطمها.

«يا الله!!»

يهتف الطيار المتناهي الصغر وهو يسقط. يسحقه جورج في التراب تحت إبهامه. حين يرفع يده يجد إبهامه مصبوغا بحمرة الدم. يمسحه في جاكيت الرئاسة قبل أن يرفع صخرة أخرى.

مختبئين تحت الصخرة، يجد شخصا نائما على سرير حبال، وامرأة وقسا يركعان كأنهما يصليان.

«هل يمكن أن أنضم إليكم؟» يسأل جورج، مكرمشا جسمه، قلبه يدق بسرعة. الصخرة تغدو كهفا. يركع بهدوء جوار الكاهن، يحدق في الرجل النائم، ثم يشكر الله أن انتهى بحثه أخيرا.

«العين بالعين، والسن بالسن». يقول.

«الثأر» تهمس مارسيا.

يومئ جورج. «الثأر» يقول»

يبدو بوش الابن في حلمه هذا مساويا للمرأة والقس؛ يبحث عن الثأر بالطريقة نفسها التي يبحثان بها وقد أعجزته الحيلة وأتعبته الأحلام والكوابيس، وقلبه يدقّ بسرعة يبحث عن ثأر يريح تعبه وينهي كابوسه، وقد جثا على ركبتيه في الحلم إلى جوارهما يطلب ثأرا هو الآخر كأنه لم يستطعه في الواقع! فهل يمكن قراءة الحلم الثالث بمعزل عن الإيديولوجيا السياسية وحملاتها الإعلامية؟ لقد أظهرت الكارثة بوش الابن في الحلم هنا - ضعيفا ومكسورا رغم تحصنه بالبيت الأبيض، وبلغ به الضعف أن رأى الطائرات التي أسقطت البرجين في الواقع ليست سوى ألعاب تطير وتئز حول رأسه، ولكنها قادرة على إزعاجه وإقلاق أمانه، فيمسك بإحداها فيحطمها ويسحق طيّارها متناهي الصغر بمجرد إصبع قبل أن يمسح الدم العالق به في جاكيت الرئاسة. فهل لذلك دلالة أيضا؟ ليست الدلالة الحلمية وتأويلها بطبيعة الحال ما نطلبه هنا، وإنما تأويل النص الذي بين أيدينا.

يُقدِّم حلم بوش الابن مستويين من الخطاب وشكلين من ردود الفعل إزاء الكارثة، أحدهما جيء به منفيا في صيغته الحلمية، والآخر جيء به رغبة غير متحققة. أما المستوى الذي جيء به منفيا فهو تحطيمه الألعاب وسحقه طياريها، لأنها ليست سوى صورة حلمية مصغرة ومنزوعة القوة على عكس ما كانت عليه في الواقع. ولكننا - بعيدا عن القراءات السياسية - قد نذهب إلى أن الطائرات التي قصفت البرجين ليست سوى لعبة سياسية حقا كما كشفها الحلم في المستوى الأول، وما طيّاروها إلا أدوات جرى سحقها بمجرد انتهاء مهمتها، بدليل الدم الممسوح على جاكيت الرئاسة وإن حاول مرتديها أن يبدو ضحية.

أما المستوى الثاني، فهو المستوى الذي أرادت الآلة الإعلامية تسويقه للعالم؛ أن يظهر بوش الابن ضحية بين الضحايا، واحدا منهم؛ يعاني مثلهم، ويقف بإزائهم لتحقيق مطلب واحد وهو الثأر. هو أيضا فقدَ ضحية معنوية؛ فقدَ أمانه الذي كان يمنحه إياه البيت الأبيض بأجنحته العظيمة الواقية. وحسب بعض تحليلات السياسة، يمكن عدّ المستوى الثاني (صورة الضحية) غطاءً شرعيا لألعاب المستوى الأول، يخدمه ويبرره.

فلنترك حلم بوش الابن قليلا وندخل حلم الشخصية الرابعة/ أسامة نفسه، لنرى كيف هي معادلته في مسألة الانتقام بين الضحية والجلاد. يقول الحلم/ المقطع الرابع من القصة:

«في صحراء ما، في كهف ما، فوق سرير من الحبال، كان أسامة يحلم الليلة.

مرة أخرى يرى نصف مليون أمريكيّ ملحد ينهمرون في أراضي السعودية، مدعوين، مدعوين إلى تربة بلاده، بينما جنود جيشه الخاص من «المجاهدين» الأمجاد ممنوعون من قِبَل الحكومة الكافرة. لمرة أخرى يتذوق المهانة، ينزف ألما من جراء تدنيس الأرض المقدسة، الخيانة التاريخية التي ضربت مقدساته.

يحلم بمكة، بالمدينة وبأورشليم، يحلم بالتحرير.

يرى أطفال أشقائه ينسحقون تحت عجلات الدبابات الإسرائيلية. يرى «الأمة»، يحلم بالأمة، يحلم بعقيدة غالية جدا، يحلم بأماكن مقدسة هي فوق الدماء، وفوق الأرواح!!

«التزموا بعهدكم» يهمس لأشقائه. «سيروا على تعاليم الله وصراطه وامشوا على درب الجهاد. دماؤكم دماؤنا، شرفكم شرفنا، وأطفالكم أطفالنا».

كانت هناك خشخشة بجواره.

الليلة، مثل كل ليلة، كان أسامة يحلم بالثأر»

بدءا لا يفوتنا أن المترجمة غفلت عن ترجمة أورشليم إلى القدس؛ لأن أسامة لن يحلم بها أورشليم، وإنما يحلم بالقدس كما يعرفها ويعرفها العرب الذين تُرجمت القصة إلى لغتهم. بيد أن أول ما ينبغي أن يلفتنا - وقد اكتمل سرد الأحلام الأربعة - أن الشخصيات الثلاث الأولى تحلم بالثأر من المتسبب في الكارثة، بينما أسامة ما يزال يحلم بالثأر على الرغم من تحققه في الواقع، وكأن حلمه محض استعادة للحدث والأسباب التي دفعت إليه. تلك الأسباب التي تبدو كليشيهات رددها الإعلام وقتذاك، كما رددها أسامة نفسه في أكثر من سياق أتاح له الظهور الإعلامي.

وبصرف النظر عن الحمولات الإيديولوجية والسياسية للكارثة، وتنميطات الآلة الإعلامية (لاسيما في حلمي جورج بوش وأسامة على حد سواء)، فإن التقطيع الذي اعتمده الكاتب في سرد الأحلام أفضى إلى بناءٍ يعتمد الومضات السردية؛ فماثَلَ بين الشكل الكتابي والمحتوى الحلمي عبر النقلات السريعة التي تحدث في الأحلام عادة من دون أن تستدعي رابطا منطقيا بين الحدث والذي يليه، إلى جانب مزجه بين الواقعي العياني المتأتي من التجربة المباشرة للشخصيات، واللاوعي الثاوي في طبقات النفس البشرية وتحولاته بين الحسي والمعنوي، فضلا عن الفنتازي الحلمي العصي على التبرير. وإذا كان الثأر رابطا موضوعيا بين أحلام شخصيات القصة مجتمعة، فإن رابطا فنيا عمل على وصل ما تقطّع بينها تمثل في الخيط الواصل بين حلم وآخر، ذاك الرابط الذي أدى مهمة تشبيك الأحلام ببعضها بعد تقطيعها كتابيا؛ جاعلا منها لحمة سردية واحدة، فأقام بين أجزائها جسورا تفضي إلى تحقيق بنيتها المميزة. من تلك الروابط مثلا شخصية الرجل المحتضر في حلم القس وقد كان يهمس باسم مارسيا؛ المرأة صاحبة الحلم الأول. فضلا عن رابط المكان الأخير الذي جمع الشخصيات الثلاث أمام الشخصية الرابعة وهي على سرير الحبال تحلم حلمها الخاص. نضيف إليها الرابط الأساس الذي اختزلت القصة أسباب الكارثة المتعددة فيه، ونسبت الأحلام (بصيغة جمعها) في العنوان إليه، إنه الشخصية الرابعة أسامة.

وككل الأحلام أيضا، لم تصل شخصية منها إلى تحقيق الثأر، على الرغم من تحقق أسبابه المتمثلة في القبض على الخصم، وتوفر الوسيلة المتمثلة في السكين الصغيرة بيد مارسيا؛ لأن من طبيعة الأحلام أن تنقطع فجأة عند اللحظة الحاسمة، فانقطعت أحلام الشخصيات قبل أن نشهد تنفيذ الثأر الذي تطلبه، بما فيها حلم أسامة نفسه الذي قلنا آنفا إنه بمثابة استعادة لمجريات واقع مضى، وكأنما هو ثأر يسكن المستقبل أبدا. ويصدق هذا بنحو خاص إذا ما أخذنا في الحسبان أن اسم أسامة يتحوّل في النص من دلالة على شخص معلوم باسمه ورسمه وفعله في الواقع إلى علامة ورمز لفكرة قابلة للاستعادة في سياقات مماثلة، شأنه شأن جورج بوش على الجانب الآخر. وقد بدا أن الكاتب قد استثمر في اسم أسامة تسويقيا عندما وضعه في العنوان جاذبا إليه انتباه القارئ الأجنبي والعربي على حد سواء.

وإلى جانب كل ما سبق، تخبرنا البنية الحلمية لهذه القصة بأن حوادث الإرهاب كالأحلام (الكوابيس منها على وجه التحديد) تكون عصيّة على المنطق والتصديق، أما الخروج من مآزقها فيشبه النهايات المقطوعة التي يقوم المرء منها مفزوعا قبل بلوغ نهايتها؛ فتأتي مفتوحة غالبا لاحتمالات التكرار وسوء التأويل، متأثرة بالإيديولوجيا وبروباجندا الآلة الإعلامية.