1637106
1637106
ثقافة

أجراس: رحل جعفر حسن وبقي العم «أبو جاكوج»

09 مايو 2021
09 مايو 2021

«قبليني للمرة الأخيرة

وداعا، فأنا ذاهب نحو مصيري»

من أغنية للفنان جعفر حسن

شعر: حيدر رقابي

***

يوم الاثنين الموافق 19 أبريل أغمض الفنان العراقي الكردي جعفر حسن جفنيه للمرة الأخيرة مودعا هذا العالم الذي عاش فيه سبعة وسبعين عاما من الحب والفن والموسيقى والنضال والتشرد، تائها بين المدن والمنافي، بعيدا عن وطنه ومنازل طفولته وأحبابه.

نتذكر الفنان جعفر حسن اليوم لأكثر من سبب، ولكنّ هناك مناسبتين تعيدانه للذاكرة، وهما، أولا: عيد العمال الذي احتفل به العالم مؤخرا في الأول من شهر مايو الجاري، إذ كرس جعفر حسن جزءا كبيرا من مشروعه الفني للغناء من أجل العمال والكادحين. وثانيهما: ما يجري حاليا في فلسطين من ممارسات وحشية لدولة الاحتلال ضد الفلسطينيين وخصوصا سكان حي الشيخ جراح، في القدس الشرقية، الذين يحاول الاحتلال اقتلاعهم من جذورهم وتهجيرهم من مساكنهم على مرأى ومسمع من العالم. ويعد جعفر حسن من أوائل من لحنوا وغنوا لفلسطين وتبناها قضية مقدسة في مواقفه الفنية والسياسية والثقافية.

جعفر حسن الفنان الملتزم الذي ولد عام 1944م، تبنى منذ بداية مسريته الفنية عام 1958م قضايا الإنسان والحب والجمال والمرأة والفلاحين والبسطاء والكادحين ونضال الشعوب من أجل الكرامة ونيل الحرية، وجسد ذلك في مختلف أعماله الفنية، كما في أغنيته لقصيدة (الصمت عار) لشاعر اليمن الدكتور عبدالعزيز المقالح التي يقول مطلعها:

من نحن؟

عشاق النهارْ

نحيا، نحب

نخاصم الأشباح

نحيا في انتظارْ

سنظل نحفر في الجدارْ

إما فتحنا ثغرة للنور

أومتنا على وجه الجدارْ

لا يأس تدركه معاولنا

ولا ملل انكسارْ.

لقد آمن جعفر حسن بمبادئه الإنسانية وظل متمسكا بها إلى آخر نفس في حياته، رغم أن ذلك قد كلفه كثيرا على كافة المستويات، إذ جرى تهميشه فنيا، وملاحقته ليعيش طريدا مهاجرا من بلد إلى آخر، فمن بغداد إلى الكويت ولبنان واليمن التي غادرها بعد الحرب عام 1994م، ذاهبا إلى الإمارات العربية المتحدة، ليقضي ثلاثين عاما من عمره بين مكابدات الغربة ومحطات الرحيل الدائم، قبل أن يعود إلى مدينة أربيل في كردستان، عام 2003 إثر سقوط النظام السابق.

لقد عاد جعفر حسن إلى وطنه محملا بالكثير من الأحلام والآمال التي كان يود تحقيقها، ولكن فاجأه القدر المحتوم، إذ تلقفه الوباء ليختطف روحه ويغادر هذا الوجود، تاركا إرثا هائلا من الأعمال الموسيقية والمسرحية والغنائية الهامة التي نذكر منها: (لا تسأليني عن عنواني) و(عمي يا بو جاكوج) و(عمال نطلع الصبح) و(وديني البصرة) و(حبي يا بغداد) و(للمرأة غنوتنا) و(قبليني للمرة الأخيرة) و(اليمن نعشقها) و(يسعد صباحك يا يمن) و(يا بو علي) و(الريل وحمد) و(الغريب).

وقد جسد المرحوم جعفر حسن ترحاله وهجراته في العديد من أعماله الغنائية التي تفيض ألما وحزنا وحنينا، استطاع بعبقريته الفنية الفريدة أن يصوغ منها إبداعا خالدا، ومن أمثلة ذلك أغنية (الغريب) من كلمات الدكتورة وفاء عبدالرزاق ورسول الصغير، وأغنية (من موطن الثلج) وهي من قصائد شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري، يقول فيها:

مِنْ موطنِ الثلج زحّافاً إلى عدنِ

خبّت بي الريح في مُهرٍ بلا رَسَنِ

كأسي على صهوةٍ منه يصفِّقها

ما قيّضَ الله لي من خلقه الحسنِ

من موطن الثلج من خضر العيون به

لموطن السمر من سمراء ذي يزنِ

كما غنى في هذا السياق القصيدة الشهيرة للجواهري (يا دجلة الخير) وقد مزجها بمفردة «الدان» المستخدمة في الغناء اليمني والخليجي، وكأنما يعطي العمل الغنائي دلالة مكانية من خلال توظيفه لمفردة من مفردات الثقافة الموسيقية لليمن. إلى جانب ذلك قدم جعفر حسن عملا آخر من شعر الجواهري يتمثل في قصدة (الجبل الأشم) وهي القصيدة العصماء التي يتحدث فيها الجواهري عن الأكراد ويصف مناقبهم وبطولاتهم وتاريخهم وغير ذلك من الخصال النبيلة التي ذكرها في القصيدة الطويلة التي يقول مطلعها:

قلبي لكردستان يُهدى والـــفمُ

ولقد يجود بأصـغـريـه الـمُـعـدمُ

***

غنى جعفر حسن للعمال الكادحين، لمس آلامهم، حمل همومهم وترجم أوجاعهم، وكان صوتهم النقي الصادق والشجاع. وقد شكل جعفر حسن مع الشاعر كاظم السعدي ثنائيا بارعا قدم العديد من الأعمال الغنائية التي كان يرددها اليساريون في كافة الأقطار العربية، من بينها (يا بو علي) و(عمال نطلع الصبح)، و(ويا وياك) و(يا عمال العالم) و(عمي يا بو جاكوج). والجاكوج هو المطرقة ونسميها في بعض مناطق عمان والخليج (شاكوش)، وهي ترمز إلى العمل والكدح والبناء. تقول الأغنية:

عمي يابو جاكـوج

خذني ويــاك

خذني ويا العمــال

حلوه عيشتي هناك

عمي يا بو جاكوج

خذني ويــاك

حتى أشوف زنود سمرا

يخاف من عدها الحديد

تمر بينـا ورود حمـــرا

تبني عالمنا الجــديــد

***

يَعُدُّ جعفر حسن نفسه أنه أول من لحن للمقاومة الفلسطينية وتغنى بصمودها في وجه الاحتلال الهمجي، في فترة مبكرة من ستينيات القرن الماضي. وقد صرح بذلك في أحد لقاءاته الصحفية إذ قال: «أغني أغنيات تضامنية مع شعوب العالم من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية إلى فلسطين». وأضاف: «أنا أول من لحّن للمقاومة الفلسطينية في الستينيات، وقد بدأت مع محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، لحنت عشرات الأغاني للمقاومة الفلسطينية من ضمنها أغنية (ما دامت لي من الأرض أشبار) و(شدوا وثاقي)».

القصيدتان الأخيرتان هما لمحمود درويش. يقول في قصيدة (شدوا وثاقي):

سأقولها

في غرفة التوقيف،

في الحمام،

في الإسطبل،

تحت السوط،

تحت القيد،

في عنف السلاسلْ:

مليون عصفور

على أغصان قلبي

يخلق اللحن المقاتلْ

كما غنى لتوفيق زياد قصيدة (فلسطينية شبابتي) التي يقول فيها:

أجيبيني

أنادي جرحك المملوء ملحاً يا فلسطيني.

أناديه وأصرخُ:

ذوِّبيني فيه، صبّيني

أنا ابنك، خلّفتني ها هنا المأساةُ،

عُنقاً تحت سكينِ.

أعيش على حفيف الشوقِ،

في غابات زيتوني.

وأكتب للصعاليك القصائد سكّراً مُرًّا ،

وأكتب للمساكينِ.

ومنذ ذلك الحين بقيت فلسطين قضية كرامة وشرف ومصير في ذهن الفنان جعفر حسن، وظل يغني من أجل حريتها طوال حياته. ومن أواخر ما قدم في هذا السياق ألبومه (القدس في البال) الذي طرحه أثناء وجوده في دولة الإمارات.

***

كان جعفر حسن -رحمه الله- شعلة متوقدة من النشاط، يعمل ويؤسس ويبدع ويغني ويلحن وينجز المشاريع، ويتبنى المواهب، ويمثل أحيانا، ويقيم صروح الفن في كل مكان وأينما حل وحيثما أقام. وبعد عودته إلى أربيل بكردستان العراق أسس عام 2011م استوديو خاصا لإنتاج أعماله الموسيقية الغنائية، يسعى من خلاله إلى تقديم أعماله الجديدة إلى جانب تجديد بعض الأعمال القديمة بهدف إنقاذ أرشيفه الفني الكبير الذي تعرض للتهميش والإهمال.

من مفارقات القدر أن يهدى جعفر حسن عشاقه العام الماضي أغنيته (وصية) من كلمات الشاعرة رملة الجاسم، التي قام بتجديدها وإعادة مونتاجها، واعتبرها بارقة أمل في زمن كورونا، لتظل هذه الكلمات آخر ما قاله لهذا العالم المسكون بالخوف والدمار والحروب والجوائح والنكبات. ومما جاء في الأغنية:

إن أنا غبت يوما

وكان الرحيل حزينا طويلا.

لا تغنِّ بعد موتي رثاء.

أريد غناءك خبزا لكل الجياعْ

شوارع للعاشقين الحيارى،

زهورا لأطفال كل البلاد

زهورا وحلوى

وقلبي المتاعْ.