654654654
654654654
ترجمة

مكتبات حياتي

20 يونيو 2021
20 يونيو 2021

خورخي كاريون ترجمة - أحمد شافعي -

كان عمري ثلاثة عشر عاما حينما أردت العمل. قال لي أحدهم: إن بوسعي أن أقبض من العمل حكمًا لمباريات كرة السلة، وأخبرني بالمكان الذي يجب أن أذهب إليه لأعرف بأمر هذه الوظيفة المتاحة في الإجازة الأسبوعية. كنت بحاجة إلى دخل لدعم جمعي للطوابع ولروايات شرلوك هولمز. أتذكر صورة مشوشة لمكتب ذهبت إليه فوجدته مليئا بالمراهقين المصطفِّين أمام شاب بدا إداريا من رأسه حتى أخمص قدميه. لما حان دوري، سألني إن كانت لدي أي خبرة فكذبت. تركت ذلك المكان ومعي تفاصيل مباراة تقام بعد يومين، ووعد بسبعمائة بيسيتا نقدا. في الأيام الحالية إذا أراد مراهق في الثالثة عشرة من العمر أن يبحث عن شيء يجهله فإنه يقصد يوتيوب. أما في أصيل ذلك اليوم الذي اشتريت فيه الصافرة من متجر الأدوات الرياضية فقد ذهبت إلى المكتبة.

لم يفدني الكتابان اللذان عثرت عليهما بشيء في معرفة قواعد كرة السلة، كان في أحدهما رسوم إيضاحية، برغم ملاحظاتي وتخطيطاتي وجلسات درسي في أصيل يوم الجمعة، لكنني كنت سعيد الحظ، إذ أوضح لي مدرب كرة سلة محلي كان جالسا بجوار الملعب في صباح السبت مبادئ اللعبة التي لم أكن مارستها حتى تلك اللحظة إلا بفكرة ضئيلة تماما عن نظريتها.

نلت تدريبي العملي في الشارع وفي ملعب المدرسة. أما معارفي الأخرى، التجريدية، فكانت على رفوف مكتبة (لا كايزا لاييتانا الشعبية) الوحيدة التي كان يمكنني الوصول إليها آنذاك في مدينة ماتارو الصغيرة التي نشأت فيها. لا بد أنني بدأت الذهاب إلى غرف المطالعة فيها وأنا في بداية الدراسة الابتدائية، في الصف السادس أو السابع. إذ ذاك بدأت القراءة بانتظام. كانت لديَّ في البيت المجموعة الكاملة من «آل هولستر السعداء» و«تن تن» و«مغامرات مساجران الاستثنائية» و«آستريكس وأوبلكس» و«ألفريد هتشكوك والمحققون الثلاثة» في المكتبة. التهمت آرثر كونان دويل وأجاثا كريستي في المكان نفسه. حينما بدأ أبي العمل لحلقة القراء في الأصائل، كان أول ما فعلته أن اشتريت روايتي هركيول بويروت والآنسة ماربل اللتين لم أكن قرأتهما. ولعل رغبتي في امتلاك الكتب بدأت حينذاك.

كانت مكتبة (لا كايزا لاييتانا الشعبية) بمثابة حضانة بديلة لي. لا أحسب أن الأطفال الآن مرغمون أن يكتبوا بقدر ما كنا نكتب في الثمانينيات. مشروعات مطولة مكتوبة بالآلة الكاتبة عن اليابان والثورة الفرنسية، وعن النحل وأجزاء الزهور المختلفة، مشروعات كانت مبررًا مثاليًا للبحث في أرفف مكتبة بدت ـ آنذاك ـ بلا نهاية ولا حدود، وبدت أعظم من خيالي الراسي آنذاك في حدود الحي الذي كنا نقيم فيه والمحدود في ذلك الحين بثلاث قنوات تليفزيونية وخمسة وعشرين كتابا هي قوام مكتبة أبي الضئيلة. كنت أنتهي من واجبات المدرسة، وأبحث قليلا، ثم يتوافر لي الوقت لأقرأ كتابا مصورا كاملا أو فصلين من رواية في سلسلة الروايات البوليسية التي كان يتصادف أني أنعم بمتابعتها. بعض الأطفال كانوا يسيئون السلوك، ولم أكن منهم. فكان أمين المكتبة البالغ من العمر خمسة وعشرين عاما، اللطيف، ذا الشخصية المائلة إلى التوجيه، طويل القامة، وإن لم يكن مفرط الطول، يجعل عينه عليهم، من دوني. كنت أقصده كلما عجزت عن الحصول بنفسي على كتاب أحتاج إليه. وكنت أيضا أشاكس (كرامي)، أمينة المكتبة الشابة الأخرى، التي كانت تنقذنا من زملائها الكبار السخفاء وأسئلتهم الببليوجرافية المتذاكية: «هل من كتاب عن اللقاح لا يكتفي بتكرار ما يرد في جميع الموسوعات؟»

ذكرت مكتبة أبي شديدة الصغر. قلت «خمسة وعشرين كتابا». عليّ أن أوضح أن تحول إسبانيا من الديكتاتورية تم بقيادة بنوك التوفير. فقد فوضت الحكومات المحلية، المشغولة بالمضاربات والتنمية الحضرية، البنوك في الخدمات الثقافية والاجتماعية. وكانت مدينة ماتارو حالة نموذجية في ذلك: فأغلب المعارض والمتاحف ومراكز رعاية كبار السن، وكذلك المكتبة الوحيدة في مدينة تعدادها مائة ألف نسمة، كانت تعتمد جميعا على بنك لاييتانا للتوفير. في مستهل القرن الحالي، وفي خلال بحثي (الحقيقي حاليا) في مكتبة الأسقف جوسيب بينيت سيرّا من أجل تأليف كتابي «رحلة إلى أستراليا» فتحت لي كرامي ـ وقد باتت أمينة مكتبة استثنائية في ماتارو ـ أبواب مقتنيات ماتارو أمامي. ولم أكن واعيا بتلك الاستعارة الأساسية، فلم تكن أزمة 2008 الاقتصادية قد كشفت بعد عري الإمبراطور: لم تكن مقتنيات ماتارو الوثائقية، أي ذاكرتها التاريخية، في حوزة أرشيف البلدية، ولم تكن في المكتبة العامة، بل في قلب مكتبة الشعب التابعة لبنك لاييتانا للتوفير. إذ تولت بنوك التوفير ـ في فترة التحول الإسباني إلى الديمقراطية ـ ما يعرف بواجب رعاية الثقافة ولم ينازعها أحد في ذلك، ولم يعرف الأمر إلا حينما كان أحدها ينشر كتابا ويرسله إلى زبائنه هدية مجانية. وفي مكتبتي الشخصية الآن كتاب من هذه ورثته أو سطوت عليه من بيت أبي «بيكاسو: حياته وأعماله» لألكسندر سيريسي. يرد في صفحة العنوان أن الكتاب «هدية من بنك كتالونيا للتوفير». وهي رسالة مؤسسية فقط. وعلى صعوبة تصديق ذلك لكنه حقيقي: ما من مقدمة بقلم سياسي أو مصرفي. فلم يكن من داع لتبرير لفتة عدَّت طبيعية. أكثر من نصف كتب أبي كان هدايا من بنوك.

بعد سنين، مات صديق طفولة لأخي في حادثة مرورية. في غمار حزن أمه عليه، قالت لأمي إن امرأة في الجماعة التي تدعمها تحمل في محفظتها قصاصة صحفية. أخرجتها. وتلتها. تلك الكلمات كانت تملأها فخرا بابنها الذي كانت تفتقده بشدة منذ موته في تلك الحادثة مع زوجته وولديه. ساعدتها تلك الكلمات على الحياة دون حفيديها، ابني أمين المكتبة المتخفي في هيئة شرطي. صارت تلك الكلمات، التي طمستها بعد ذلك كل ما كتبت من كلمات، صارت ملكًا لي لفترة: وهي الآن تنتمي إلى مكتبات الجريدة التي تختفي تدريجيا، لأنه من الوارد أنها الآن ـ حتى بالنسبة إلى تلك الأم التي سوف تتغلب على بعض حزنها ـ لا تعدو ذكرى. لا أعرف هل استدعيت، في ذلك النعي، تلك الظهيرات من أيام السبت في ملعب المدرسة، حينما كنت أترك مكتبة ماتارو إلى مكتبة جامعة بومبيو فابرا في برشلونة، حيث كنت ألعب كرة السلة أنا وأصدقائي من أمناء المكتبة غير الصغار كثيرا وأصدقائي الآخرين.

*

قبل أيام ذهبت إلى مكتبة الجامعة التي أعمل فيها بحثا عن نسخة من «نادجا» لأندريه بريتون احتجت إليها لمحاضرة، ولم أتمكن من العثور عليها في مكتبتي. وهنالك، في المكان الذي لا بد أنها تشغله منذ عام 1998 حينما قرأت كل ما أمكنني العثور عليه من كتب سريالية لاهتمامي بنظرياتهم عن الحب (وممارستي لها)، وجدت رواية «المتحرك» لميشيل بوتور. ولم أكن رأيتها في الماضي. رأيتها بعد سبع سنين، في مكتبة جامعة شيكاغو، في وقت كان يتوافر لي لقراءتها شتاء كامل قادم. أحس أن متاجر الكتب تعرض ما في حوزتها من كتب عرضا مغويا، رغبة منهم في حملك على شرائها، أما المكتبات على العكس من ذلك فتخفي كتبها أو تموهها على أقل تقدير، وكأنها قانعة باكتنازها. ولكن صحيح أيضًا أن عينك هي التي تستعرض كعوب الكتب، وأن انتباهك أو هواك هو الذي يحدد ما إذا كان للعناوين أو المؤلفين أن ينكشفوا لك أم يبقوا غائبين عنك.

كانت مكتبة جامعة بومبيو فابرا جديدة للغاية حينما بدأت السنة الأولى في دراسة العلوم الإنسانية. جديدة إلى حد أن أقسامها لم تكن تحمل أسماء. وفيما تكبر المكتبة، تبدأ في تلقي التبرعات، والمجموعات، والأراشيف، فيحمل كل من ذلك اسم المتبرع أو الباحث، أو المتقاعد، أو المتوفى. ونحن في ما يتعلق بالمكتبة نربط فعل «الاستنزاف» ببورخس. وإنني شخص يستنزف متاجر الكتب والمكتبات، أحب أن أنفق الساعات في أقسامها، رفا بعد رف، وفي كعوبها، كتابا بعد كتاب. وقد فعلت ذلك في أيام ممطرة في كثير من مدن العالم. وفي أيام هطول الثلج في مدينة واحدة، هي شيكاغو. ولم أشعر قط أنني شديد الوحدة إلا في تلك الأسابيع من سنة 2005، فكنت أقضي اثنتي عشرة ساعة أو ثلاث عشرة في تلك المكتبة الهائلة. واكتشفت نظام تبادل استعاري بين المكتبات يتيح لك أي كتاب في أي مكتبة في الولايات المتحدة، قضيت ساعات كثيرة في قسم الأدب الإسباني أبحث عن كتب رحلات ومقالات لا يمكن العثور عليها إلا بتلك الطريقة، بالتجوال في متاهة الكتب في زمن ما قبل جوجل. وخيط أريدانتي هو كل تلك العناوين والصفحات، بفوضاها السرية. نبهني التردد على مكتبة وليدة هي مكتبة جامعتي ـ شيكاغو ـ وقبلها مكتبة جامعة برشلونة إلى مفهوم ثقافي أساسي: المقتنيات. تلك الذاكرة المحتملة لحالة ثقافية معينة وللعالم. تلك الشذرة التي لن تلم بها من كلٍّ كبير لا يمكن أن يعاد تجميعه. المقتنيات في العادة حفر لا قرار لها، أماكن لمخطوطات لم تنشر، توجد بها أهم الرسائل فلا يراها (أو يقرأها، وهو الأسوأ) أحد. وفي قاع هوة تاريخ جامعة شيكاغو، أو ببساطة في حجر أساس مجموعة كتبها، نعثر على الأول من أسماء كثيرة تالية: وليم ريني هاربر. كانت أنباء سعة اطلاعه وتجاربه التعليمية قد بلغت آذان روكفيلر، فوعد بمنح ستمائة ألف دولار لإنشاء مركز للتعليم العالي في الغرب الأوسط قادر على منافسة (يال). وفي النهاية جاء ثمانون مليون دولار أمريكي إلى جامعة شيكاغو لأن هاربر ـ بالإضافة إلى تأليفه كتبا دراسية باليونانية والعبرية ـ كان يضع استراتيجيات لتمكين الفقراء من التعليم العالي. كان مديرا فذا. أنشأ مطبعة الجامعة الباقية إلى اليوم. وفي المقابل، أغلقت مكتبة وليم ريني هاربر التذكارية في 2009. وما من رسالة تقبض القلب مثل تلك العبارة المكتبية:

جامعة شيكاغو ـ حالة مكتبة وليم ريني هاربر: منتهية.

النوع: مكتبة.

الموقع الإلكتروني: www.lib.uchicago.edu/e/harper/

الوصف: في 12 يونيو 2009، أغلقت مكتبة وليم ريني هاربر التذكارية، ونقلت مجموعاتها إلى مكتبة ريجنشتاين.

مكتبة منتهية. هلاك مكتبة بوصفه موتا نهائيا لفرد عاش قرابة القرن بعد وفاته الفعلية. ذلك يحملك على التفكير في أنه ما من كلمة أشد ادعاء من جامعة.

في مقالة من مقالاته عن الأدب التي باتت منسية اليوم وقرأتها أخيرا قبل أيام في مكتبة العلوم الإنسانية في الجامعة التي أعمل فيها، يكتب ميشيل بوتور: «إن المكتبة تقدم لنا عالما، لكنه عالم زائف ذلك الذي تقدمه، ففيه أحيانا صدوع، والواقع يثور على الكتب، عبر أعيننا، كلمات قليلة أو كتب معينة، شيء ما غريب يشير إلينا ويضرم شعورنا بأننا حبيسون فيه». ويخطر لي أنه على حق: متجر الكتب يعطيك شكلا ماديا للفكرة الرأسمالية الأفلاطونية عن الحرية، أما المكتبة ففي الغالب أكثر أرستقراطية وقد تتحول في بعض الأحيان إلى «سجن». ونحن في بيوتنا، بفضل متاجر الكتب أو من جرائرها، نحاكي المكتبات التي زرناها منذ الطفولة ونؤسس لأنفسنا طوبوغرافيا كتبية خاصة. يقول بوتور: «بإضافة الكتب نحاول أن نعيد تأسيس الواجهة الكاملة، وهكذا تظهر النوافذ». في الواقع نحاول أن نضيف سنتيمترات من السمك إلى جدران متاهاتنا الخاصة.*

إلى اليوم لم يتسن لي العثور في أرفف مكتبتي على الكتب غير الضرورية، التي يمكن الاستغناء عنها، لكن في اليوم الذي لم يتسن لي فيه العثور على نادجا، وهي من الروايات التي غصت فيها مرارا على مدار أكثر من عشر سنين، ومنها دون كيخوته، وقلب الظلام، ولعبة الحجلة لخوليو كورتاثار، والجبل السحري لتوماس مان، و«أطلل على الحب» لديفيد جروسمان، اضطررت إلى أن أشرع في القلق. في مقالته الشهيرة «تفكيك مكتبتي: حديث عن اقتناء الكتب»، يقول بدويُّ المدينة والتر بنيامين أن أي مجموعة [كتب] تراوح ما بين النظام واللانظام، ويضع جورج بيريك ـ وهو عقلية شبيهة ـ في «بعض الأفكار» هذا المبدأ المختلف عليه «كل مكتبة منظمة، تصبح غير منظمة: إنها المثال الذي أضربه لشرح قياس الفوضى وقد تحققت منه بالتجربة مرات عديدة». وأعترف أنني خلال أربع سنوات ونصف السنة مضت منذ انتقالي إلى شقة في (برشلونة إنسانشي) راكمت كتبا، وأرففا، ولم أعد تنظيم بنية مكتبتي الكلية، وكل شيء الآن في فوضى مريعة.

منطق العالم قائم على التقليد. كل شيء يعمل بالمحاكاة. وما أصالة شخصيتنا إلا خليط معقد من الخيارات التي استعرناها من نماذج متعددة عبر الزمن. مكتبتي هي رد على خواء بيت أبي، وفيها آثار من كل المكتبات العامة التي زرتها منذ الطفولة. قبل أيام صادفت صفحات مصورة من يوميات بول بولز تحمل خاتم لا كايزا لاييتانا الشعبية. ادخرت كذلك الكتب التي اشتريتها من مكتبة جامعة شيكاغو حيث تتخلص المكتبة دوريا من بعض الكتب إذ تتحول في إجازة أسبوعية عابرة من مكتبة إلى متجر للكتب المستعملة. في آخر مرة غيّرت فيها سكني رتبت مكتبتي بناء على التراث اللغوي وبُعد الاهتمام. احتفظ بجوار طاولتي بكتب نظرية الأدب والتواصل والسفر والمدينة. وعلى بعد قدم وراء تلك الكتب الأدب الإسباني مرتبًا وفقًا لنظام الألفبائي. وقبالته على بعد ثلاثة أقدام أو أربعة الأدب العالمي. ولا بد من السير إلى الغرفة المجاورة، غرفة الطعام، للوصول إلى التاريخ والسينما والمقالات الفلسفية والسير والمعاجم (والأخيرة زادتها نسخها الإلكترونية بعدا). وفي الطرقة الكتب المصورة وكتب الرحلات. وفي غرفة الضيوف أخيرا الأدب القطلاني ومقالات الحب وما لدي من كتب عن بول تسيلان وعدة مئات من حوليات أمريكا اللاتينية ونسختان من الكتب التي ألفتها أو اشتركت في تأليفها. يتضافر المنطق والهوى في المكتبة إن شغلت فضاءات مختلفة مع زيادة عدد الكتب والزيارات إلى أيكيا. الأرفف في المكتب من خشب صلب: اشتراها أبواي ـ اللذان لا يزالان يؤمنان بالصلابة ـ بنقودي وجاءا بها لتستضيف النموذج الأولي من هذه المكتبة حينما كنت مسافرا سنة 2003. أما بقية البيت فممتلئ بأرفف بيلي [من أيكيا] المنثنية تحت أحمالها وتتفكك تدريجيا من جراء افتقاري إلى البراعة الذي حكم عليها بالانهيار منذ لحظة تكريبي لها تركيبا شديد السوء، فلعلي أكون قارئا مؤهلا بعض الشيء، لكن صنائعي لا يرجى منها خير. ولقد كان من ألعاب طفولتي ميكروسكوب، وأدوات معدنية وفيزيائية، فضلا عن صندوق عدة: ولا أظنني بحاجة إلى قول إنني لم أنته متخصصا في النجارة أو العلوم.

كتب فيليب بلوم في كتابه «أن تملك وتقتني: تاريخ حميمي للمقتنيين والمقتنيات» أن «كل مجموعة هي مسرح ذكريات، مسرحة للماضيين الفردي والجمعي، طفولة تستدعيها الذاكرة وتذكار لما بعد الموت». وأضاف «إنها أكثر من حضور رمزي، إنما هي تحول جوهري». كل الكتب المحيطة بي كل يوم تتيح لي أن أشعر أني قريب من نفسي، لما كنت إياه، للقارئ الذي ظل ينمو، ويتغير، وتنضاف إليه الطبقات، وللمعلومات والأفكار التي تحتويها. أو التي تشير إليها وحسب. أو التي ترتبط بها، وكثير من كتبي كواكب تدور في أفلاك مفكرين، وكتاب، وشخصيات تاريخية لا أعرفها معرفة مباشرة، لكنهم أصدقاء لأصدقاء، متواطئون رغم أنوفهم، قطع متحركة في نظام معقد لمعرفة كامنة.

أصدقاء ومعارف وصلات مستقبلية. تلك هي اللافتات الثلاث التي أرتب على أساسها مكتبتي، أقرر وأنا أنهي مقالتي هذه أنني ـ حينما نرتب البيت في الشهر التالي لأسباب أسرية سعيدة ـ سوف أفككها بهدف إعادة اختراعها. سأجعل بالقرب مني من المؤلفين والكتب من هم أقرب أصدقائي. فتبقى في المكتب (أو تدخل إليه). ستحيط بي، مثلما تحيط بي ذكرياتي عنها، أو ذكرياتي عن مؤلفيها. وسأجعل المعارف في غرفة الطعام، أولئك الذين أحترمهم وأكن ولعًا بهم. أغلب ما لم أقرأه من كتب، وأعرف أنني لن أقرأه، سأخرجه أضحيات، وما يبقى منها، في الطرقة، فسوف ينتظر دوره في صبر بعيدا مثل الناس الذين لا أعرفهم، والذين قد لا أعرفهم.

لقد وضع آبي ووربرج ـ مؤسس أروع مكتبة في القرن العشرين ـ كلمة واحدة فوق المدخل: «نيمازيني» [ربة الذاكرة Mnemosyne]. كانت كتبه ومطبوعاته تتحرك وترتحل وفقًا لعلاقات ديناميكية من القرب والتعاطف، خالقة تكوينات عابرة وتاركة للقراء أن يتخيلوا الروابط بينها. ولم يكن السبب الوحيد في وجود المكتبة، في حدود ما يعنيه هو، إلا أنها مكان يتسنى فيه للمرء أن يهيم ويجول. وفي نظر الجوّال، فإن الصور والنصوص كانت تطلق سهاما خفية على بعضها بعضا، ملخصات عصبية: كهرباء تغذي تاريخ القالب والفن. «إنها ليست مجموعة كتب، بل مجموعة مشكلات» كما قالت توني كاسيرير زوجة الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر بعد زيارتها: وما لمكتبة معنى إلا إن كانت تريح بقدر ما تزعج، وتحل لكنها في المقام الأكبر تضيف ألغازا وتحديات. والتعايش مع مكتبة شخصية يعني ألا تستسلم، أن يبقى دائما ما قرأت من كتب أقل مما يبقى عليك أن تقرأه، وأن الكتب التي يرافق بعضها بعضا هي سلاسل من المعنى، والسياقات المتبدلة، والأسئلة المتغيرة وفقًا للنبرة والرد. والمكتبة لا بد أن تكون مهرطقة، فليس سوى الجمع بين العناصر المختلفة والعلاقات الإشكالية طريقًا إلى الفكر الأصيل. ولقد وصف كثير ممن رأوا مكتبة ووربرج بأنها متاهة.

في مقدمته لكتاب «ديمومة ووربرج: وصف مكتبة» يكتب فرناندو تشيكا: «إن المكتبة بوصفها مسرحًا وساحة للعلوم هي أيضا مسرح حقيقي للذاكرة». وهذا ما حاولت هذه المقالة أن تكونه. ولقد كتب بورخيس أنه «لن يوجد أبدا باب» في قصيدة عنوانها المستحق هو «المتاهة». «أنت بالداخل/ والقلعة محيطة بالكون/ لا ظاهر لها ولا باطن /لا سور لها من الخارج ولا مركز سري».

_______

الترجمة من الإسبانية إلى الإنجليزية بقلم بيتر بوش

حاز كتاب «متاجر الكتب: تاريخ قارئ» الصادر سنة 2017 لخورخي كاريون على ثناء عالمي وظهر في ثلاث عشرة لغة. له ثلاث روايات ويعيش في برشلونه. والمقال المنشور هنا منشور في موقع باريس رفيو نقلا من كتابه «ضد أمازون ومقالات أخرى».