Untitled-1
Untitled-1
ترجمة

فرانسيس فوكوياما: صواب الليبرالية «وخطؤها»

02 أبريل 2022
02 أبريل 2022

ترجمة: أحمد شافعي -

فرانسيس فوكوياما من أشهر المفكرين في العالم. لفت الأنظار للمرة الأولى بمقالته «نهاية التاريخ؟» (سنة 1989) التي تحولت لاحقا إلى كتابه الصادر سنة 1992 بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير». كان هذا الكتاب دفاعا شاملا عن النظام الديمقراطي الليبرالي الذي آمن الكثيرون بأنه المستقبل الحتمي للعالم بعد الحرب الباردة. وكتابه الجديد الصادر بعنوان «نظرة إلى الليبرالية وما عليها» [Liberalism and Its Discontents (Profile)] يذهب تحديدا إلى أن الليبرالية ـ على عيوبها ـ لم تزل الطريق الأمثل لازدهار أي مجتمع. تحدث فوكوياما إلى سمير رحيم في الثاني والعشرين من مارس الماضي في مكتب مجلة بروسبكت بلندن حول الأزمة الأوكرانية، وما تواجهه الليبرالية من أخطار، ولماذا يصعب التوجه إلى المتاريس بنداءات الاعتدال. وقد تم اختصار الحوار وتحريره لمزيد من الإيضاح.

سمير رحيم: عليّ أن أبدأ بأوكرانيا وروسيا. هل توقعت الغزو؟

فرانسيس فوكوياما: لم أتوقع هذا الغزو بنطاقه الكبير. كنت أتردد على أوكرانيا خلال السنوات السبع الماضية إذ شعرت أنا وعدد من الزملاء بعد الاستيلاء على القرم في عام 2014 أن أوكرانيا هي الجبهة في حرب كوكبية متنامية بين الاستبدادية والديمقراطية، وأردنا أن نساعد أوكرانيا. أخذنا نجري بعض برامج القيادة هناك. ولذلك فإن الكثير من خريجينا في هذه البرامج محبوسون هناك الآن. وأوكرانيا سوف تحدد النظام الأوربي في ما بعد الحرب الباردة. بوتين يريد أوكرانيا، لكنه يريد أيضا تفكيك البلاد الديمقراطية التي نشأت خروجا من حلف وارسو السابق. ذلك هو الأمر الأكبر المعني الآن. كنت أعرف أنه مجازف كبير، لكنني لم أتوقع أن يقوم بهذه المجازفة الكبيرة في نهاية المطاف.

بعد الحرب الباردة، سرى في الغرب إحساس الانتصارية، الانتصارية التي ارتبطت ـ بالحق أو بالباطل ـ باسمك أنت. هل مرت لحظة كان بالإمكان فيها إدخال روسيا إلى مجتمع الأمم الغربية، وضمُّها إلى الناتو، وتحولها إلى دولة ليبرالية. هل كان يمكن أن نفعل أي شيء على نحو أفضل؟

حسن، هذا يقودنا مباشرة إلى النقاش حول ما إذا كان الذي جرى في أوكرانيا هو بمعنى من المعاني خطأ الولايات المتحدة وبلاد أخرى كانت تدفع إلى توسيع الناتو. وقد شاركت في هذا النقاش في حينه ولم أصدق تلك القصة لأن أسباب التعاسة الروسية لم تكن تتعلق بأوكرانيا فقط، وإنما بجملة الطريقة التي انهار بها الاتحاد السوفييتي. ولقد كان بوتين في غاية الوضوح بهذا الصدد، إذ قال قولته الشهيرة بأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أفجع مأساة في القرن العشرين.

رأيت بشكل شخصي أن عرض عضوية الناتو على جورجيا وأوكرانيا في قمة بوخارسيت سنة 2008 كان خطأ. ولم يكن السبب هو أن ذلك من شأنه أن يغضب روسيا، ولكن أن جوهر الناتو هو ضمانات المادة الخامسة، ولا بد من التحلي بالواقعية حيال من تمكن حمايته ولم أعتقد أن بإمكاننا الوفاء بالتزام كذلك. وبصراحة، لو سمحنا لهما بالدخول، لكنّا الآن في حرب مع روسيا. لكنني لا أعتقد أن ذلك أبعد روسيا عن المسار غير الليبرالي الذي كانت تسلكه.

في تسعينيات القرن الماضي حققت روسيا لونا من الليبرالية الاقتصادية لكن دون المؤسسات الليبرالية اللازمة للرقابة أو السيطرة عليها.

كان هذا خطأ سياسيا وراءه حفنة من اقتصاديي السوق الحرة. كان ثمة اعتقاد بأن الأسواق عندها القدرة على التوليد الذاتي ـ وأنه ما من داع لإطار مؤسسي تعمل من خلاله الأسواق، وأنها سوف تنشأ عفويا إذا ما تم تفكيك نظام التخطيط المركزي القديم. وقد تجاهل هذا تماما دور الدولة في تمكين اقتصاد السوق. لا بد من فرض حقوق الملكية، لا بد من شفافية، لا بد من سبل لحل النزاعات، ونظام قضائي، ولم يوجد من ذلك كله شيء في ذلك الوقت. فالطريق الذي سلكه الصينيون في التحول الليبرالي، ولكن بمزيد للغاية من الحذر ودون تفكيك جهاز الدولة بالكامل، أثبت أنه مسار أحكم كثيرا. وعليه، في هذا الصدد، أعتقد أننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء، ووجهنا لروسيا نصائح سيئة للغاية.

يقول بوتين: إن الليبرالية عفا عليها الزمن ولا تناسب شعبا كشعبه. ولكن ها هي أوكرانيا، وهي ثقافيا مماثلة للغاية، وتمضي في اتجاه الليبرالية.

وهذا هو ما تدور حوله الحرب. أوكرانيا لم تمثل قط تهديدا أمنيا لروسيا. لكنها مثلت تهديدا كبيرا على المستوى السياسي، فقد كانت حجة بوتين هي أن الشعب السلافي لا يتسق ثقافيا مع الديمقراطية. وها هي أوكرانيا بجواره، وشعبها سلافي، والديمقراطية نجحت فيها، ليس نجاحا مثاليا، لكنهم جعلوها تنجح. وأعتقد أن ذلك يثير السؤال: «ولم ليس روسيا؟»

تسمع الناس في الغرب يقولون إن أوكرانيا تخوض معركتنا، تحارب من أجل الليبرالية والديمقراطية. ما مدى صدق ذلك؟ أم أنهم الذين يدافعون فعلا عن أمتنا؟

حسن، أعتقد أنه تمييز لا معنى له. كل من يحارب من أجل مجموعة من القيم، يحارب من أجلها مجسَّدة في بلد بعينه. فلا أحد يحارب من أجل مبادئ الليبرالية المجردة. إنما تبالي الشعوب بأن تكون بلادها مستقلة. لكنني أعتقد أن كثيرا من الأوكرانيين، والذين أعرفهم يقينا، يعتزون أيضا بكونهم بلدا حرا.

مما يثير القلق أن بعض البلاد غير الغربية، كالهند على سبيل المثال، أقل عزما على إدانة روسيا.

وهذا صحيح في أماكن أخرى أيضا. كنت في البلقان أخيرا وهناك الكثير من التعاطف مع بوتين. وصديق لي من تونس أخبرني أن كثيرا من الناس في شمال أفريقيا يقولون إن الولايات المتحدة غزت العراق... وحرب العراق كانت كارثة حقا لأنها شوهت الديمقراطية تشويها فبات الناس يربطون حاليا بين ترويج الديمقراطية والغزو العسكري. ومن جوانب كثيرة، أسهمت في صعود شعبوية ترامب لأنها حرب لم تحظ بدعم شعبي في الولايات المتحدة أيضا. ونالت من مصداقية النخب، النخب الدولية التي دعمتها، فنحن ندفع ثمنا باهظا لذلك الخطأ.

بالرجوع إلى أمريكا، هناك منذ 2008 خليط من الكتب المنتقدة لليبرالية. يرى نقد يساري أن الليبرالية ـ أو الليبرالية الجديدة ـ تتجاهل التضامن والتفاوت - في الدخول-. ويرى نقد يميني أنها أكثر تعددية مما ينبغي وتفرض الليبرالية المتطرفة فرضا. ما الذي يصيب فيه هذان الانتقادان؟ وما الذي يخطأن فيه؟

خصصت بنفسي فصلين في الكتاب لانتقاد الليبرالية الجديدة. وأعني بالليبرالية الجديدة تأويلا شديد التحديد لليبرالية الاقتصادية ممثلا في أشخاص من قبيل ميلتن فريدمان ومدرسة شيكاغو كلها التي أصبحت أقرب إلى أيديولوجية تحط من شأن الدولة وترى السوق حلا لكل مشكلة اجتماعية تقريبا. تلك كانت غلطة، لأن تفاوت الدخول ترك للتنامي بسرعة شديدة في هذه الفترة. استفادت بلاد معينة، مثل الصين، استفادة عظيمة، لكنها أضرت أيضا مصالح كثير من أهل الطبقة العاملة، وبخاصة في العالم الديمقراطي الثري، وأرست قواعد التمرد الشعبوي. ثمة مواضع نقد كثيرة فيها ـ النموذج التأسيسي للسلوك البشري القائم على المصلحة الشخصية، لأن ذلك غير دقيق إذ ما نظرنا إلى الحياة كما يعيشها الناس. فهم كائنات اجتماعية إلى حد أكبر من ذلك بكثير، واقتصاديات الأسواق بحاجة إلى التقعيد، والتقعيد بحزم كبير. والانتقاد اليميني بشأن الليبرالية المتطرفة؟

ثمة أمور عديدة مختلفة في هذا الانتقاد، بعضها أكثر منطقية بكثير من بعض. في الولايات المتحدة، تستمر استطلاعات الرأي في إظهار تأييد ضخم جدا للهجرة. ما كان المرء ليتوقع ذلك من كل الخطاب الذي يصدر عن أمثال ترامب، لكن الناس بشكل أساسي سعداء بها. ما لا يروق لهم هو طبيعتها غير الخاضعة للسيطرة وأعتقد أن هذا يصدق على أوربا أيضا، حيث يوجد بعض المقاومة للهجرة بناء على أسباب ثقافية. ولكن ما روَّع الناس حقا هو ظهور مليون سوري في وسط أوربا في 2014 و2015. وبالمثل، أعتقد أن لكثير من المعارضة في الولايات المتحدة علاقة بحقيقة أننا لا نسيطر على الحدود. ونحن، كما لا يخفى عليك، لا نعرف عدد المهاجرين غير الشرعيين لدينا، وهلم جرا. الأمر الآخر هو ما كتبته في كتابي الأخير «الهوية» [Identity] وهو الاستياء الثقافي لأناس يشعرون أنهم لا يلقون الاحترام ويتعرضون للتعالي من النخب المثقفة الكوزموبوليتانية. وهذا قائم في كل مكان تقريبا. وانظر في خطاب فكتور أوربان أو حزب القانون والعدالة في بولندا، فهي ظاهرة اجتماعية مشابهة للغاية.كتب تيم جارتُن آش مقالة لنا في مجلة بروسبكت ترجع إليها في كتابك. توصل إلى صيغة مفادها أننا بحاجة إلى أن نكون محافظين اشتراكيين ليبراليين ـ نريد أن ننظر في هذين الانتقادين.

لقد ناقشت هذا معه بالفعل. لأنه يتكلم عن الحاجة إلى التوزيع العادل للاحترام. ولست على يقين من قدرة أي مجتمع بالفعل على توزيع الاحترام توزيعا عادلا، لأن هناك كما تعلم فضائل معينة سوف يتعين بلوغها. فهي ليست مشاعا بين جميع الناس. رئيس تحريرك السابق ديفيد جودهارت قال مثل ذلك كثيرا حين قال إن كثيرا من الليبراليين لا يكنون احتراما للناس العاديين وهذا شيء يتسبب في استياء ومرارة.

في ما يتعلق بذلك، شهدنا أخيرا الكثير من الانتقادات للجدارة، من مايكل ساندل ودانيال ماركوفيتس. يقولان: إن الضغوط التي يفرضها مجتمع الجدارة على الناس تتسبب في كميات هائلة من التوتر. هل تعتقد أن لهذه الحجج أي قدر من الجدارة؟

كثير من هذه الانتقادات ينطوي على مبالغة. إن ما يقوله أدريان وولدريدج في كتابه «أرستقراطية الموهبة» وأتفق معه فيه هو أن الجدارة هي الطريقة التي تخترق الحواجز الطبقية. فقد سمحت للشخص الذكي النشط في الطبقة الوسطى أن يخترق الحواجز ويصل إلى النخبة. وذلك فعليا موجود في أساس الثقافة الصينية ـ بسبب الأمَّهات النمرات. أنا أعيش في بالو ألتو بكاليفورنيا في قلب وادي السيليكون. وفي كوبرتينو أعتقد أن قرابة 60% من الأسر إما من شرق آسيا أو من جنوبها. وحين ينظر المرء إلى المدارس يجد الأغلبية الكاسحة فيها لأناس يؤمنون ببذل جهد كبير في التعليم ونتيجة لذلك يؤدون أداء مبهرا.

عندنا هذه المشكلة في بالو ألتو، وهي ارتفاع نسبة الانتحار في المدارس الثانوية، وأغلبهم أولاد صينيون لهم أمهات يدفعنهم بمنتهى الشدة. فالأمر قد تكون فيه مبالغة. وحتى في الصين، طلب شي جينبنج من الناس أن يسترخوا قليلا وألا يعملوا بغاية الجدية.

يذهب كتاب باتريك دينين «لماذا تفشل الليبرالية؟» إلى أن الليبرالية لا تقدم أجوبة للأسئلة الكبرى.

هذه سمة، وليست عيبا. لقد نشأت الليبرالية لأن الناس لم يتفقوا على غرض من الحياة مثلما حدده الدين. لقد أصدر أدريان فيرميول ـ أستاذ القانون في هارفرد ـ كتابا عنوانه «دستورية الخير المشترك» وهو يرى أن بالإمكان تحديد الخير المشترك على نحو يحقق توافقا عاما داخل مجتمع متنوع مثل الولايات المتحدة. وفكرته، وهو الكاثوليكي المحافظ، عن الخير المشترك تتسق وتلك القيم. وهذا سخف ـ فليس بالإمكان الوصول إلى إجماع على شيء كهذا في أمريكا اليوم. ذلك النوع من المحافظة هو حنين إلى فترة من الماضي يتخيلون أنها شهدت كل هذا الإجماع الديني. لكن حتى في ذلك الحين لم يكن لذلك وجود في ظني.

لكن في أي نقطة يبلغ الناس من الانفصال ألا يعد بوسعهم التحاور؟ لقد تنبأ ألسادير مكنتير أننا لن نبقى قادرين على الجدال لانطلاقنا من مقدمات مختلفة.

النقطة التي تخطئ عندها سياسات الهوية تتحقق حينما تصبح نوعا من السمة الجوهرية وحيث يكون أول وأهم ما تعرفه عن امرئ هو عرقه أو سلالته أو جندره أو ميله الجنسي وليس ما يؤمن به أو وما يمثله من حيث هو فرد. وأعتقد أن السير في ذلك الطريق شديد الخطورة. فمن الافتراضات الأساسية في الليبرالية أن نحكم على الناس بما هم أفراد، وهذا المبدأ الأساسي ينتهكه في تقديري هذا النوع من جوهرية المجموعة.

الحجة الثانية هي أن جماعة مثل الأمريكيين الأفارقة تعاني أضرارا بنيوية بسبب العرق فمن أجل معادلة ذلك يكونون بحاجة إلى مزيد من الحقوق كمجموعة.

لا أعتقد أنه من الممكن أن أعارض معارضة قاطعة هذا التمييز الإيجابي لأن ما قلته أنت للتو صحيح. كل أمريكي من أصل أفريقي يعاني بالفعل من ضرر بالقياس إلى جماعات عرقية أخرى. إننا نمرُّ في كل ربيع -في جامعة ستانفورد- بهذه العملية عند القبول في مختلف البرامج الدراسية لدينا، محاولين دعم التنوع. ولا أعتذر عن ذلك. فلو أنك نظرت إلى شخص أسود من خلفية ضئيلة الامتيازات، فلن تجد لديه مثل التوصيات والدرجات والمؤهلات التي تجدها لدى شخص له وضع اجتماعي ممتاز. ولو أنك قصرت قبول ستانفورد على قاعدة الدرجات ونتائج الامتحانات، فسوف تكون دفعة المقبولين كلها من الصين. ولا أحد يريد دفعة كتلك. إنما نريد التنوع ونريد التوازن في الخلفيات وما إلى ذلك. لكن لا يمكن أن يكون محض التزام صارم بالحصص وما إليها.

الفصل الذي تتكلم فيه عن تحقيق الذات يتتبع الفكرة رجوعا إلى روسو. فكرة الحاجة إلى تخليص المجتمع من أغلاله ليتاح للشخص أن يكون كيفما يريد.

أعتقد حقا أن هذا السعي إلى الاستقلال الذاتي اللانهائي بحاجة إلى شيء من الترشيد. هو قائم على افتراض بأن كل شخص في الأساس هو فان جوخ أو بيتهوفن لولا تعرضه للكبت. وأنك إن أتحت متنفسا فسوف يتحقق ازدهار هائل للإبداع. وحقيقة الأمر هي أنه ليس الجميع كذلك. الناس بحاجة إلى أن تنتمي إلى مجتمعات. وطريقة الدخول إلى المجتمعات هي اتباع قواعد المجتمعات. ولست متأكدا من أن الناس بالفعل تكون أسعد حالا حين يقال إن لها مطلق الحرية في خلق أنفسها وأن تكون كيفما تشاء.

هل يخطر لك أننا في بعض الأحيان نطلب أكثر مما ينبغي من الليبرالية؟

هذا صحيح. وهذا ضعف في الليبرالية. هي لا تنشئ مثل هذا المجتمع المترابط القوي، فذلك ما توفره للناس الثيوقراطية أو الثقافة القومية العرقية. ولكن لهذه المجتمعات ما لا يخفي عليك من السلبيات أيضا. وإن كنت أعتقد أنه شيء يمكنك أن تناضل ضده. وأعتقد أن هذا درس مهم نتعلمه من الأوكرانيين الآن، وهو أنه لا يمكن القبول بحتمية هذه الدكتاتورية.

المحاور هو رئيس تحرير مجلة بروسبكت البريطانية