No Image
ترجمة

على آسيا رفض الناتو

08 يوليو 2021
08 يوليو 2021

حدث شيء خطِر جدا قبل أسابيع قليلة عندما عقدت منظمة معاهدة شمال الأطلسي (حلف الناتو) اجتماعها في بروكسل. ففي بيانها الختامي بعد الإجتماع يوم 14 يونيو قررت المنظمة أن الصين "مهدد منظومي" للمناطق التي لها علاقة بأمن الحلف. الرسالة الضمنية للبيان كانت واضحة وهي أن الناتو يحب أن يمدّ قرون استشعاره إلى ما وراء المحيط الأطلسي ونحو المحيط الهادي. يجب علينا نحن الذين نعيش قريبا من المحيط الهادي وخصوصا في شرق آسيا أن نشعر بالقلق العميق. فإذا جاء الناتو إلى المحيط الهادي لن يعني لنا ذلك شيئا آخر سوى المتاعب. لماذا؟ لثلاثة أسباب.

أولا، الناتو ليس منظمة حكيمة جيوسياسيا. لقد قام بعمل رائع في الحرب الباردة وشكل رادعا للتوسع السوفييتي في أوروبا. وكان أيام الحرب الباردة حذرا ومنضبطا ومشغولا ببناء قدراته العسكرية وتجنب الصراعات العسكرية المباشرة.

لكن وضعت الحرب الباردة أوزارها قبل 30 عاما مضت. ونظريا "أنجزت المهمة". وكان ينبغي أن يكف الناتو عن العمل، لكنه عمليا بحث بشدة عن مهام جديدة، وفي أثناء ذلك قوِّض إستقرار أوروبا.

ما يجدر ذكره أن العلاقات بين روسيا والناتو كانت أفضل كثيرا إلى حد أن روسيا في عام 1994 وقعت رسميا "الشراكة من أجل السلام". وهو برنامج كان يستهدف بناء الثقة بين الناتو والبلدان الأوروبية والسوفيتية السابقة الأخرى. لكن الأمور اختلَّت لأن الناتو رفض المطالب المتكررة من روسيا بالإمتناع عن قبول أعضاء جدد في "حديقتها الخلفية".

ثم في أبريل 2008 فاقم الناتو الأوضاع أكثر وفتح الباب لعضوية جورجيا وأوكرانيا في قمة بوخارست. وكما أشار المعلق الأمريكي توم فريدمان "هنالك شىء واحد من المؤكد أن المؤرخين سيذكرونه وهو فقر الخيال الذي اتسمت به السياسة الخارجية الأمريكية في أواخر تسعينات القرن الماضي. سيشير المؤرخون إلى أن الفترة بين 1998 و1992 شهدت أحد أحداث هذا القرن الذي كان له ما بعده. إنه إنهيار الإمبراطورية السوفييتية.

بفضل عزيمة الغرب وشجاعة الديموقراطيين الروس إنهارت الإمبراطورية الروسية وتولّدت عنها روسيا الديموقراطية وتحررت الجمهوريات السوفييتية السابقة. كما قاد انهيارها إلى عقد إتفاقيات غير مسبوقة للحد من التسلح مع الولايات المتحدة.

لكن ماذا كان رد أمريكا على ذلك؟ كان توسيعَ حلف الحرب الباردة (الناتو) ضد روسيا وتقريبه من حدودها. والنتيجة التي ترتبت عن ذلك كانت حتمية. لقد حاولت روسيا أن تكون صديقة لبلدان الناتو بعد نهاية الحرب الباردة. لكن بدلا عن ذلك صُفعت على وجهها بتوسيع عضوية الناتو. وتصور تقارير إعلامية غربية عديدة روسيا كقوة "عدوانية ومحبة للقتال" من دون الإشارة إلى أن تصرفات الناتو هي التي تولِّد رد الفعل هذا (من جانب روسيا).

حلَّت لحظة خطرة حقا في في عام 2014 عندما بدا أن الناتو على وشك التمدد إلى أوكرانيا مع إطاحة الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش بواسطة متظاهرين يساندهم الغرب. بالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير. فسرعان ما أعقب ذلك الإستيلاء على القرم التي يعتبرها الروس جزءا من قلب موطنهم الثقافي.

أخطار التوسع الغربي في أوكرانيا معروفة جيدا. لقد سبق أن أشار الدكتور هنري كيسنجر إلى أن الأوكرانيين "يعيشون في بلد له تاريخ معقد وتركيبة تعددية. ضُمَّ الجزء الغربي إلى الإتحاد السوفييتي عام 1939 عندما اقتسم ستالين وهتلر غنائم الحرب. وصارت شبه جزيرة القرم التي يشكل الروس 60% من سكانها جزءا من أوكرانيا في عام 1954 فقط عندما أهداها لها نيكيتا خروتشوف الأوكراني بالميلاد وذلك كجزء من الإحتفال بمرور 300 عاما على إتفاقية روسية مع القوزاق. غرب أوكرانيا في معظمه كاثوليكي وشرقها أغلبه يعتنق المذهب الأرثوذكسي الروسي. ويتحدث الغرب اللغة الأوكرانية فيما الشرق في معظمه ناطق باللغة الروسية. وأية محاولة من أحد جناحي أوكرانيا للهيمنة على الآخر ستقود في النهاية إلى الحرب الأهلية وتفكيك البلد. والتعامل مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب ستقضي لعقود قادمة على أي احتمال لإدراج روسيا والغرب وخصوصا روسيا وأوروبا في نظام عالمي تعاوني" .

ومن المحزن أن أوكرانيا منذ عام 2014 صارت بلدا منقسما. ولو كان الناتو قد أبدى وقتها قدرا أكبر من الحذر الجيوسياسي لصار من الممكن تجنب هذه المشاكل.

الضعف الكبير الثاني لحلف الناتو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة يتمثل في حقيقة أن تصرفاته تعكس القول المأثور: إذا كنتَ مطرقة ستبدو كل مشكلة لك مسمارا.

وما يثير الفضول أن الناتو خلال الحرب الباردة أسقط عددا قليلا جدا من القنابل على البلدان الأجنبية. لكن منذ نهاية الحرب الباردة أسقط الناتو عددا ضخما من القنابل على بلدان عديدة. ففي الفترة بين مارس ويونيو 1999 كانت التقديرات ان حملات قصف الناتو قتلت 500 مدنيا في يوغسلافيا السابقة. وأسقط عدة آلاف من القنابل العنقودية هناك على الرغم من أن استخدامها غير شرعي بموجب معاهدة 2010 الخاصة بحظر الذخائر العنقودية.

ونتج عن الضربات الجوية لحلف الناتو في ليبيا عام 2011 إسقاط 7700 قنبلة قتلت ما يقدر بحوالي 70 مدنيا.

لقد كانت العديد من الضربات الجوية غير شرعية وفقا للقانون الدولي. وأتذكر بوضوح أنني كنت أتناول العشاء في منزل دبلوماسي كندي سابق في أوتاوا عندما قرر الناتو قصف القوات اليوغسلافية في عام 1999. إنتاب ذلك الدبلوماسي الغربي قلق شديد. فبما أن تلك الحملة العسكرية لم تكن فعلا يتعلق بالدفاع عن النفس أو مصادق عليها من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كان من الواضح ومن الناحية الفنية أنها غير شرعية بحسب القانون الدولي.

وفي الحقيقة حاولت كارلا ديل بونتي وهي مدعية سابقة في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا إجراء تحقيقات حول احتمال إرتكاب الناتو جرائم حرب في يوغسلافيا السابقة. وعلى الرغم من أن معظم بلدان الناتو تؤمن بقدسية القانون الدولي إلا أنها مارست ضغوطا سياسية كبيرة حالت دون إجراء دي بونتي تحقيقاتها.

ما هو أسوأ من ذلك أن الناتو كثيرا ما يشرع في تنفيذ حملة عسكرية ثم يهرب من عواقبها الكارثية. وتشكل ليبيا مثالا كلاسيكيا لذلك.

كانت بلدان الناتو مبتهجة عندما أطيح معمر القذافي من الحكم. لكن بعد تشظي ليبيا ودخولها حرب أهلية ابتعد عنها الناتو.

وبعد عدة سنوات لاحقا حذر وزير خارجية سابق للولايات المتحدة اتصف بالحكمة وهو كولين باول من مثل هذه التدخلات العسكرية. وأشار إلى العبارة التحذيرية المعهودة في متاجر منتجات الكريستال "إذا كسرتها فأنت مالكها". لقد أخفق الناتو في إمتلاك (مسئولية) الحطام الذي خلفه وراءه (في ليبيا أو سواها).

هذا يقودنا إلى الخطر الثالث. طوَّر شرق آسيا بمساعدة الآسيان (رابطة بلدان جنوب شرق آسيا) ثقافة جيوسياسية نفعية وحذرة جدا. في الأعوام الثلاثين التي انصرمت منذ نهاية الحرب الباردة أسقط الناتو آلاف القنابل على بلدان عديدة. بالمقارنة وفي نفس الفترة لم تسقط أية قنابل في أي بلد في شرق آسيا. لذلك هذا يشكل أكبر خطر نواجهه عندما يمدّ الناتو قرون استشعاره من الأطلسي إلى المحيط الهادي. فقد ينتهي به الأمر إلى تصدير ثقافته العسكرية الكارثية إلى بيئة سلمية نسبيا طوَّرناها في شرق آسيا.

في الواقع إذا كان حلف الناتو منظمة حكيمة تفكر وتتعلم سيتوجب عليها دراسة سجل شرق آسيا، خصوصا سجل رابطة الآسيان في المحافظة على السلام وتعلم الدروس منه. لكن الناتو بدلا عن ذلك يفعل العكس. وهو بذلك يوجد أخطارا حقيقية لمنطقتنا.

نظرا للمخاطر التي يواجهها شرق آسيا من خلال التوسع المحتمل لثقافة الناتو، على شرق آسيا كله أن يتحدث بصوت واحد ويقول لا للناتو.

الكاتب زميل متميز بمعهد أبحاث آسيا - جامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتابي "هل خسرها الغرب؟" و"هل فازت الصين؟".