1651979
1651979
ترجمة

رحلة بيتر بينارت من دعم الصهيونية إلى مناصرة القضية الفلسطينية

29 مايو 2021
29 مايو 2021

بنجامين والس ويلس -

ترجمة - أحمد شافعي -

في الصراعات على مستقبل إسرائيل وفلسطين، حيث تبدو العداوات عتيقة وأبدية، يبرز «بيتر بينارت» بوصفه ذلك الشخص النادر الذي انفصل واستقل. لقد حقق بينارت شهرته بوصفه الشخصية الصلبة في الصهيونية الليبرالية والمناصر البارز لحرب العراق في يسار الوسط، سواء كمحرر لمجلة «ذي نيوريببليك» أو كوجه مألوف في النشرات الإخبارية التلفزيونية، ولكنه قضى أغلب العقد الماضي يعيد النظر في هذه المواقف. وفي الصيف الماضي أعلن قطيعته واضحة. فقد كتب في مقالة طويلة نشرت في مجلة جويش كارنتس -Jewish Currents، أي تيارات يهودية- يقول «إن الحقيقة الأليمة هي أن المشروع الذي كرَّس له الصهيونيون الليبراليون من أمثالي أنفسهم على مدار عقود ـ وهو إقامة دولة للفلسطينيين منفصلة عن دولة لليهود ـ قد فشل». ودعا الأطراف المعنية إلى العمل من أجل دولة واحدة في الشرق الأوسط تحمي حقوق اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء. وفي الحادي عشر من مايو، مع تصاعد العنف في إسرائيل وغزة، نشر بينارت مقالة ثانية ذهب فيها إلى أن حق العودة اليهودي يجب أن ينطبق أيضا على الفلسطينيين، فكتب أنه «إذا لم يحصل الفلسطينيون على حق العودة إلى أرض وطنهم، فلا يجب أن نحصل نحن أيضا على هذا الحق». وبعد يومين استشهَدت رشيدة طالب -عضوة الكونجرس الفلسطينية اليسارية- ببينارت حينما قادت العديد من زملائها التقدميين إلى أرض مجلس النواب لإدانة أحدث الأعمال الإسرائيلية، فلم يغب عن المشاركين في تلك النقاشات ما ينطوي عليه ذلك الاستشهاد من معانٍ: فها هو أكبر الصهيونيين الليبراليين نفوذا في جيله لم يعد يؤمن باستثنائية الدولة اليهودية في الشرق الأوسط. ها هو بيتر بينارت وقد غيَّر خندقه.

عاش بينارت -الذي بلغ الخمسين هذا العام- على مدار عقد من الزمن في وسط يهودي أرثوذكسي واضح في منطقة الجانب الغربي العليا -من منهاتن-. ولم يزل يبدو كما كان عندما أصبح شخصية عامة للمرة الأولى، عند قرابة بداية القرن -فلم يزل يقصِّر شعره، ولم تزل بشرته ملساء، وقسماته واضحة- ولم يزل يحتفظ بالطريقة الجادة التي لا تخلو من الرسمية المعهودة في شخص درج منذ صغره على مناقشة الأمور شديدة الجدية. ولأنه في مرحلة الحداد على أبيه -اليهودي الجنوب إفريقي المناهض للأبارتيد- الذي مات قبل فترة غير طويلة، فإن بينارت يتردد على المعبد مرتين في اليوم، ويقضي ساعة من صباح كل يوم في دراسة التلمود. وهو في هذا الوسط، يبدو ملائما من الناحية الدينية أكثر من ملاءمته من الناحية السياسية. ولقد حدث ذات يوم غير بعيد أنه كان يسير في طريقه إلى المعبد حينما أقبل عليه رجل وسأله إن كان هو بيتر بينارت. «وكأي أحمق تام الحماقة خطر لي أن أقول له -أوه، نعم، ما ألطف أن تتعرفني- فقال لي الرجل -أفكارك السياسية هراء».

قبل بضع سنوات كان بينارت باحثا مقيما ضمن برنامج باسوفر -أي الفصح اليهودي- وهو برنامج يسافر من خلاله اليهود الأرثوذكس في الغالب للإقامة في فنادق بأماكن من قبيل يوكتان أو ويستلر تستأجر لذلك الغرض ولحضور محاضرات وطقوس دينية. قال بينارت: إن الأمر «أشبه بخروج اليهود إلى البرية. وكل ما يفعله الناس هو الصلاة والأكل والحديث عما سوف يأكلونه. أعجبني كثيرا. أراه مذهلا». أشيع في إحدى الفعاليات أن إيفانكا ترامب حاضرة. وفي سنة أخرى، صدر كتاب لبينارت يفصِّل فيه ما يعتبره أزمة داخل الصهيونية. وانتشر الخبر. وعلم بينارت أن شخصا ما قد أطلق صافرة إنذار. «قال -لو أن بينارت سوف يحضر، وتريدون ألا أنسحب، فاضمنوا لي ألا تقع عيناي عليه-. كنت فعليا بمثابة سبب ينفر الناس من الحضور». وبات بينارت عاطفيا بعض الشيء وهو يقول «بوسعهم أن يكرهوني كيف يشاءون، لكنهم لا يزالون قومي».حتى بموجب المعايير الإسرائيلية، جرى التصعيد الأخير في العداوة في جغرافية حميمية على نحو غير معتاد. بدأت الأزمة في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، على مسألة قضائية هددت بإجلاء ست عائلات فلسطينية، ثم لم تنتشر فقط إلى الخارج، حتى بلغت السماوات والمناطق المحتلة، بل وإلى الداخل، إلى مدن إسرائيل المختلطة. ففي ضاحية اللد بتل أبيب، رمى عرب إسرائيل الحجارة وأضرموا النيران في مدرسة يهودية، ومعبد، ومواقع تجارية، فلقي يهودي مصرعه مصابا بحجر وهو يسوق ومات أحد عرب إسرائيل بطلقة رصاص. ودعا عمدة المدينة إلى حالة طوارئ قائلا: إن البلد على شفا حرب أهلية. وفي بات يام، ضرب حشد من المتطرفين اليهود سائق سيارة عربيًا أرغموه على الخروج من سيارته في واقعة رصدتها النشرات الإخبارية الإسرائيلية. ووقعت حوادث أخرى في الرملة والخليل. إذ هاجمت حشود مدنيين أو شرطة أو فريقا إخباريا تابعًا للتلفزيون العام كما في إحدى الحالات. وفي يوم الجمعة أنهت اتفاقية هدنة -توسطت فيها مصر- أعمال العنف، مؤقتا على الأقل. ولكن حقيقة عدم احتواء العنف في غزة أو في الضفة الغربية وانتشاره بسلاسة إلى الداخل الإسرائيلي جعل جميع عقود الجهد السياسي للتخطيط لدولتين بينهما خط أخضر تبدو بغتة بعيدة المنال. قال لي بينارت قبل يومين في لقاء عبر زووم: إن «حقيقة انتشار هذا العنف في كل هذه المدن المختلطة الواقعة داخل الخط الأخضر صادمة في تقديري لكثير من اليهود، لكنها كانت أقل صدمة للفلسطينيين، لأنها لم تزد عن كونها تذكيرا بوجود شعب فلسطيني».

يمثل التخلي عن حل الدولتين موقفا متشائما. فهو يعني اتخاذ قرار بأن مشروعًا أوجد حكومة لشعب واحد (أي الفلسطينيين) وحدَّد وجهة تاريخ شعب آخر (أي الإسرائيليين)، واستثمر فيه ملايين الناس ودول كثيرة على مدار عقود، لا يعدو قضية خاسرة. يحكي بينارت أنه لم يستقر على ذلك الموقف إلا في الربيع الماضي، في فترة ركود وباء 2020. كان يتأمل بالفعل في جدوى حل الدولتين، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير في بديل. «فبدأت أقرأ» لكثير من الكتاب والمؤرخين الفلسطينيين: علي أبو نعمة، ومحمود درويش وإدوارد سعيد. وصادف حوارًا أجري في عام 2000 قال فيه سعيد -الذي ولد في فلسطين الواقعة تحت الانتداب قبل أكثر من عقد من تأسيس إسرائيل: إنه آخر مثقف يهودي، مميزا نفسه عن سكان الضواحي الهانئين في إسرائيل وأمريكا ممن فقدوا إحساس اللادولة والتهميش. (قال بينارت «يا لها من لطمة عقلية!»). تبين لبينارت أن أولئك المثقفين الفلسطينيين «قراء عميقو التفكير» للصراع، وأن أفكارهم شبيهة بالأفكار التي أدخلها الكتاب الأمريكيون السود إلى التاريخ الأمريكي. «بهذه الطريقة المعهودة النمطية فكر الليبراليون البيض بأننا لا يمكن أن ننتخب ترامب، وفكر الأمريكيون السود بأننا يمكن أن نفعل - الأمر كهذا بالضبط، إذا تكلمت مع كثير من اليهود عن فكرة نكبة أخرى -حيث طرد سبعمائة ألف فلسطيني من بيوتهم سنة 1948- فسوف يقولون -يا لها من فرية- أما الفلسطينيون فسيقولون -يااه، بالتأكيد».حبيس الجانب الغربي من منهاتن مع كتبه، أمكن بينارت أن يقابل القضية الفلسطينية مقابلة أكثر هدوءا. لاحظ ما لدى أولئك الكتَّاب من «سماحة» وما أبدوه من تعاطف مع تجربتهم اليهودية. لكنه لاحظ أيضًا أن رواية أولئك الكتاب للتاريخ الفلسطيني تنطوي على استمرارية عميقة. قال بينارت «إنهم يرون أن النكبة لم تنته قط». في هذا الصيف كان يصلي في «ذكرى خراب الهيكل» -Tisha B-Av-، وهو يوم يدعى فيه اليهود إلى تخيل أنفسهم راحلين عن القدس وقد أضرمت فيها النار، وتخيل أنفسهم وهم يتمنون استردادها. جعلته تلك التجربة يفكر في مدى النفاق الذي يتسم به يهودي حينما يطالب فلسطينيا بالتخلي عن العودة إلى الوطن. لديك من جهة الهيكل، ومن جهة النكبة. في غزة لا يجب على أحد أن يرتد بعقله آلاف السنين ليتخيل نفسه لاجئا. قال بينارت «ثمة عبث واضح في فكرة استهانتنا الشديدة بالفلسطينيين فلا نتصور أنهم يعرفون كيف يعلمون أبناءهم أن يتذكروا الحوادث».يظهر في بعض الأحيان توتر تام في تفكير بينارت. قال: إن قليلا جدا من اليهود الأمريكيين هم الذين يدركون الخدمة التي تقدمها السلطة الفلسطينية لليهود بفرضها نظاما نسبيا بتكلفة ضئيلة نسبيا. «أعتقد كثيرًا بأننا في طريقنا إلى حقبة سوف تشهد انهيار السلطة الفلسطينية في النهاية، لترتفع تكلفة سيطرة إسرائيل على ملايين البشر المفتقرين إلى الحقوق الأساسية، وهذا يملأني رعبا». وحكى لي عن صديق من فترة الكلية لقي مصرعه في حافلة فجرتها حماس. «آخر ما أريد أن أراه للإسرائيليين، لليهود، هو أن يلقوا مصرعهم. لكنني أعتقد بأنه من غير الواقعي أن أفكر إن بالإمكان الاستمرار في السيطرة على مليونين من الناس المفتقرين إلى الحقوق الأساسية بتكلفة ضئيلة إلى الأبد. لقد ارتفعت التكلفة. ومن السيناريوهات المحتملة في ظني أن التكلفة لن تقل إلى ما كانت عليه من ذي قبل». حكى أن جنوب إفريقيا أعلنت في عام 1985 حالة طوارئ جزئية بسبب مقاومة الأبارتيد. «كانت في أساسها نوعا من الانتفاضة في جنوب إفريقيا، لكنها لم تنته أبدا. وهكذا فقد كنت في الأغلب أفكر: ماذا يحدث إذا لم ينته هذا أبدا؟»

تدور كتابة بينارت -موضوعيا- في فلك السياسة. وكذلك حياته. وبرغم أنه في طفولته ومراهقته كان كثير التردد على كيبتاون -التي تنحدر منها عائلته، فقد نشأ في كمبريدج بولاية مساتشوستس، حيث كان والده أستاذًا للعمارة بمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا، وبعد طلاق والديه، تزوجت والدته -وهي من عائلة من اليهود السفرديم من منطقة المتوسط- بروبرت بروشتاين مؤسس كل من مسرح ريبرتوار ييل ومسرح الريبرتوار الأمريكي. ووفقًا حتى لمعايير كمبريدج الرفيعة، كان مسار بينارت الأكاديمي مبهرا: من مدرسة باكنجهام براون آند نيكولاس، إلى جامعة ييل، ثم منحة رودس، لينتقل بعدها إلى واشنطن فيعمل في مجلة «ذي ريببليك» التي كان فيها الكبيران المناضلان مارتي بيريز وليون فيزلتيير يكرسان نفسيهما بعمق للتجربة اليهودية وقضية إسرائيل. في غضون سنوات قليلة، ولما يبلغ الثلاثين بعد، أصبح بينارت رئيس تحرير المجلة ووريثًا لنهجها التفاوضي الفريد بين القضايا الإنسانية والمحلية. «كانت على نحو ما مجلة يهودية، قد تضاهيها بمجلة ناشيونال ريفيو التي كانت دائما مجلة كاثوليكية، ولكنها كانت بالطبع في الوقت نفسه مجلة عامة مهمة للفنون والسياسة، وباحتوائها ذلك كله في وقت واحد، مع هوية يهودية تتصدر الواجهة والمركز، مثلما كانت مع مارتي وليون، فإنها تبين -بالنسبة لي- إلى أين وصل اليهود».ولكن مع انتهاء فترة كلينتن ومجيء إدارة بوش، احتلت المجلة -وكذلك بينارت نفسه- مكانة أرفع بوصفها مناصرة مرموقة للتدخل ومدافعة عن حرب العراق. في 2006، عندما نشر بينارت «القتال الحميد: لماذا يمكن لليبراليين، والليبراليين فقط، أن يفوزوا بالحرب على الإرهاب ويعيدوا مجد أمريكا» -The Good Fight: Why Liberals-and Only Liberals-Can Win the War on Terror and Make America Great Again-، وحسبما يتذكر بينارت «حضر كل من بيل وهيلاري كلينتن حفلة الكتاب. ولم يكن ذلك لأن الكتاب عظيم. فالكتاب ليس عظيما. ولكن لأنني كنت في ذلك الوقت أقول شيئًا مفيدًا للساسة الديمقراطيين». قال: إن أولئك الساسة «كانوا خائفين من أن الحزب الديمقراطي يعاني من أعراض فيتنام حيث كان الحزب ضعيفا في السياسة الخارجية، وكان موضوع كتابي هو استرداد ليبرالية الحرب الباردة».

لاحظ بينارت في الرسائل الإخبارية خلال الشتاء الماضي أن العديد من معاصريه في هذا الوقت -وهم المستحقون تمامًا للوصف بليبراليي الجيل إكس- هم الذين يديرون حاليًا السياسة الخارجية الأمريكية. توني بلينكين، الذي بدأ من ذي نيوريببليك قبل بينارت بسنتين هو الآن وزير خارجية أمريكا. وجاكي سوليفان -الذي حصل هو الآخر على منحة رودز- هو مستشار الأمن الوطني. حدث مرة أن أجرى بينارت مقابلة لتولي منصب في مركز نيو أمريكان سكيوريتي، وهو المركز البحثي الذي أسسه ميشيل فلورني الذي كان مرشحًا لأن يكون وزيرًا لدفاع في إدارة بايدن. لم يكن ابتعاد بينارت عن مسار مماثل قدرا محتوما ـ فقد تقدم للعمل في إدارة أوباما، ولعله كان ليبقى مقيما في واشنطن. ولكن التوقيت لم يكن مناسبا. فمع تدهور التدخل في العراق، خلال ولاية جورج دبليو بوش الثانية، قرر بينارت بأن الإطار الفكري الكامل لرؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية «قد ضل تماما». وفي ما يتعلق بإسرائيل لم يكن الوضع أفضل. فجهود باراك أوباما الأولية لتحدي بنيامين نتانياهو في مسألة المستوطنات لم تكن فعالة، حتى داخل حزبه، واللوبي اليهودي اليساري الوليد الملتف حول جيه ستريت لم يكن يبلغ من القوة ما يكفي لدعمه. قال بينارت «إن أوباما استسلم مبكرا». كان يعمل آنذاك على كتاب حول سمات الغطرسة في السياسة الخارجية الأمريكية منتقدا مواقفه الخاصة من حرب العراق فكان ذلك في ذاته انشقاقا عن واشنطن. في 2009 حصل بينارت على وظيفة في قسم الصحافة بجامعة ولاية نيويورك وانتقل بأسرته إلى المدينة. وفي زمرة شباب ليبراليي واشنطن الذين بدوا في مواقع إدارة العالم، كان هو الشخص الذي غادر الجماعة.نوعية الساسة التي ينتمي إليها بينارت -ممن صُنعوا في مؤسسات واشنطن-غالبا ما يدانون بتقلبهم. ولكن عند إمعان النظر تتكشف لهم فضائل أيضا. فهم قادرون على احتمال النقد. لقد بدأ اغتراب بينارت عن التيار الأساسي في المؤسسة اليهودية الأمريكية بنشر كتابه «أزمة الصهيونية» -The Crisis of Zionism- سنة 2012 الذي تنبأ فيه بانشقاق قادم بين المجتمع الأرثوذكسي المتشدد -الذي يتضاعف عدده بسبب ارتفاع معدلات المواليد- والليبراليين الأكثر اندماجًا والماضين إلى مزيد من الانفصال عن إسرائيل. (ولقد كان بينارت ـ أرثوذكسي المجتمع تقدمي السياسات هو اليهودي النادر الذي يضع قدميه في كلا المعسكرين). ولكن إعلانه تغيير رأيه في حرب العراق أكسبه بعض المصداقية في إدارة أوباما. حكى لي بين رودس ـ وهو الذي عمل طويلًا مساعدًا لأوباما في شؤون السياسة الخارجية ـ فقال «حينما كنت في الحكومة، أدت بي رؤية بيتر الكلية إلى التشكك في أهمية اللغة التي نستعملها في وصف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وجدوى الإيمان بالمفاوضات مع شخص مثل بيبي نتانياهو ليس لديه اهتمام بحل هذا الصراع، والأسئلة الأخلاقية التي كانت تثيرها مساعدة الولايات المتحدة التي يمكن استخدامها في أغراض كان يجب أن يتزايد عدم ارتياحنا إليها». حكى لي رودس أنه شارك أخيرا في بودكاست لبينارت وقال بعض التعليقات المنتقدة لإسرائيل مما حدا بمايك بومبيو وزير خارجية ترامب إلى اتهام رودس -نصف اليهودي- بتبني رؤى معادية للسامية. تواصل رودس مع بينارت، وقال: إنه «لم يكن متعاطفا بوضوح. بدا كمن يقول -هذا هو الثمن-».

في الصراع الراهن ينظر بينارت باعتزاز -متوقع من الجيل إكس- إلى مواليد فترة الازدهار baby boomers الذين حددوا التزام المؤسسة اليهودية الأمريكية بإسرائيل، وينظر باحتقار إلى يهود الألفية الجديدة التقدميين الذين يرون في القضية الفلسطينية مسألة من مسائل حقوق الإنسان. في وقت سابق من الأسبوع الحالي، قال لي رشيد خالد -المؤرخ وأستاذ كرسي إدوارد سعيد للدراسات العربية الحديثة في جامعة كولمبيا: إنه يرى تطور بينارت متصلا باهتمام اليساريين الشباب وبعض الساسة التقدميين بطرح تفكير مختلف في ما يتعلق بالصهيونية. طلبة خالد الجامعيون أنفسهم، وخاصة ذوي الخلفية اليهودية أو الإسلامية، «أكثر انتقادًا لإسرائيل، وأكثر انفتاحا على وجهات النظر الفلسطينية» مما سبق أن رأى من قبل. (وخالدي في مطلع السبعينيات من العمر). قال «إنهم لا يقرأون جويش كارنتس. بل يشاهدون الصور». وذكر أخًا وأختًا من حي الشيخ جراح تداول العالم فيديو لكارثة حيهم (قال «إنهم شديدو الفعالية إعلاميا»). بحسب خالدي، إن ما أظهره بينارت هو أن الليبراليين الأكبر سنا قد لاحظوا بدورهم. «كثير من الأقاويل الممجوجة والأحاديث المبتذلة التي استطاعت إسرائيل أن تدعم بها نفسها مع الأجيال الأكبر سنًا لم تعد تنطلي على أحد، وتحوُّل بينارت يعكس ذلك».بعد دقائق قليلة من خروج خالدي من تطبيق زووم، دخله الخبير السياسي الإسرائيلي دانيال جورديس، وقد بدا عليه من الإعياء مثل ما بدا من قبل على المؤرخ، وجلس هو الآخر ومن ورائه مكتبة هائلة أيضا. (فبجانب الحرب الساخنة في إسرائيل هذا الشهر كانت هناك أخرى باردة خاضها المثقفون المنهكون في غرف مكاتبهم المنزلية المكدسة بالكتب) كان جورديس -الذي يقع سياسيًا إلى اليمين من بينارت- قد شارك في الظهور معه في بودكاست سنة 2017، تبارزا فيه حول الصراع ومستقبل إسرائيل، قبل أن يدين تحول بينارت الأخير. «يمكن أن نتناظر في السياسة، ويمكن أن نتناظر في الطرف المخطئ، ولكن اللحظة التي تقول فيها: إن الدولة اليهودية غير مشروعة، فأنت بذلك قد تجاوزت الحد» كذلك قال لي جورديس وهو يهز كتفه في حسم. ومع ذلك فكلامه عن بينارت لا يخلو من طرافة. «إذا أردت في أي مجتمع صغير أن تدعى إلى بضع كؤوس فإنك تتكلم عن اختلالات الكون، وتتساءل إن كان هناك إله؟» وقال جورديس: إن الناس في مجتمع بينارت سوف يقولون «هل بيتر بينارت يؤمن بهذا حقا؟» يعتقد جورديس بأن بينارت ربما يتوقع حدوث تغير سياسي، يمكنك أن تسمي ذلك أثر ألكسندريا أوكاسيا كورتز -وهي سياسية أمريكية اشتهرت بانتقادها للعنف الإسرائيلي في السنوات القليلة الأخيرة-، ولهذا السبب يعدل أفكاره بحيث توافق السوق. قال جورديس «إنني أعتقد بأن بيتر يعتمد على عالم شديد التقدمية شديد الاستقرار، لكنني لا أعتقد بأن هذا العالم موجود فعليا». أبناء جورديس نفسه في الثلاثينيات من العمر «حينما أنظر إلى جيل أبنائي، أو من يصغرونهم في أمريكا، لا أجد أنهم يبالون كثيرا».

حينما اتصلت ببينارت في ظهيرة الجمعة، بدا في عالم آخر ناء عن هذه الدراسات المحتدمة. كان في غرفة الضيوف مع زوجته -المحامية التي تعمل في الجانب الآخر من الشقة. بدت الغرفة ساطعة الإضاءة، والشباك مفتوحًا، والنسيم يتسلل عبر ستائر بادية الفخامة. كان بينارت يتهيأ للابتعاد عن الإنترنت لمدة يومي إجازة الشفوعوت -Shavuot-. خطر لي أنه على مدار العام الماضي كان يعمل في مزاج كتابي جديد: فالمقالتان اللتان نشرهما في جويش كارنتس لم تكونا عبارة عن حجج سياسية مفصلة لنجاح دولة واحدة، فهذا على نحو منطقي لم يزل بعيد المنال، ولكنه دافع فيهما عن جوهرية هذا الحل من الناحية الأخلاقية. بدا بينارت مستريحًا إلى هذا. قال: إن مقالة «قضية التعويضات» لتا نيهيسي كوتس في ذي أطلنطك لم تتطرق كثيرًا إلى كيفية دفع التعويضات أو إلى كيفية إقناع الأمريكيين البيض، فـ»ذلك ليس نهجه» كما قال بينارت «إنما هو يعرض قضية صواب ما يدعو إليه». ولقد كان مما شد عزمه أنه اكتشف أن إدوارد سعيد في أواخر حياته استشرف دولة مزدوجة الجنسية تمثل الهوية اليهودية جانبا مهما فيها. قال بينارت «إنني لا أكتب أي شيء عن الصراع أو عن الوضع لم يكتبه الكثير والكثير للغاية من الفلسطينيين منذ وقت طويل. أعتقد أن في ما أقوم به شيئا مختلفا، هو محاولة العثور على لغة يهودية تحكى بها هذه القصص وتنشر هذه الحقائق» قال بينارت: إن أغلب اليهود ليس لديهم وقت كثير لمثل هذه الأفكار. فلو كان مقدرًا لهذه الأفكار أن تؤثر، فالأرجح أن يكون تأثيرها على اليهود الأمريكيين الأصغر سنًا والأكثر تقدمية من الملتفين حول إسرائيل».

على السطح، تبدو آفاق هذا التحول معتمة. وصور الصراع الوطنية التي رآها أخيرا عبر وسائل الإعلام الاجتماعي قد تكون إيذانا بمستقبل يهودي أمريكي يميني يقود مؤسساته -الإعلامي المحافظ- «أمثال بن شابيرو». الرئيس بايدن شخصيا، في رد فعل على العنف في الأسبوع الماضي، أكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. فلم يكن ذلك مفاجئًا لبينارت بصفة خاصة. فخلال الحملة الانتخابية الرئاسية في 2020، ذهب بينارت إلى أن لبايدن سجلا «منذرا» في ما يتعلق بإسرائيل، من وجهة النظر التقدمية. (ولم يقلقه مثل هذا القلق إلا -رجل الأعمال والسياسي الأمريكي- مايكل بلومبرج) قال لي بينارت «إن بايدن يرى إسرائيل بالدرجة الأساسية بوصفها قضية سياسية داخلية». لم تزد خيبته إلا قليلا في بلينكن وسوليفان. (قال لي رودس إنه ظن أن بعض الناس العاملين في إدارة بايدن لديهم رؤى مختلفة لكنهم ملتزمون باتباع رئيسهم). وعن أنداده الذين صاروا الآن مساعدين للرئيس قال بينارت «لا أعرف ما إذا كانوا يخوضون هذا الصراع أو ما إذا كانوا يشعرون بالذنب. لكنني أعتقد بأنهم يوما ما سوف يحاكمون بقسوة على مساعدتهم في إدامة قمع الفلسطينيين».قال بينارت: إن المؤسسة اليهودية الأمريكية تبدو من بعيد أشبه بقلعة. واستدعى صورة من مؤتمر آيباك السياسي السنوي حيث «نصف الكونجرس حاضر، ويلقون جميعًا الخطبة نفسها بصورة أساسية، وكلهم يأكلون طعام الكوشر اليهودي، فكأنها احتفال بوصولنا». لقد حضر بينارت في كثير من الغرف المغلقة داخل المنظمات اليهودية الأمريكية بما يكفيه ليؤمن بوجود شكوك خاصة مزمنة في أخلاقية السلوك الإسرائيلي. قال «إن القلعة التي تبدو من خارجها هائلة، إنما أعتقد بأنها في الواقع أضعف كثيرا مما يتصور الناس في العادة». والشيء الذي لم يزل يحتفظ لها بتماسكها -في رأي بينارت- هو الإحساس بالخوف الأبدي. تذكر اليقين الذي تحدثت به جدته من جهة أمه -وهي اليهودية التي ولدت في الإسكندرية ثم انتهى بها المطاف يهودية جنوب إفريقية في كيب تاون- وهي تقول له إن في العالم مكانًا واحدًا آمنًا لليهود: هو إسرائيل. قال «في هذه الحكاية الكثير للغاية في ما أعتقد من المأساوية، وذلك لأن كلًا من الهولوكوست وإسرائيل في نظر اليهود الأمريكيين تجربة تخص الآخرين».لقد كانت السمة المحددة للجيل الأكبر هي الحجة العاطفية المتعلقة بالسلطة، وهي حجة يرى بينارت أنها مستلهمة من سفر إستير في العهد القديم. «إستير ملكة في قصر الملك، ومن ثم فهي قريبة من السلطة. ويتعرض قومها لإبادة جماعية، فتستعمل ما لها من سلطة وحظوة لتنقذ شعبها. ولذلك أعتقد بأن السردية اليهودية المهيمنة هي أننا إستير، على مقربة من السلطة، من أذن الملك، أي القوة العظمى الأمريكية. ونضفي المعنى على نجاحنا في الولايات المتحدة من خلال استعمال السلطة لضمان عدم وقوع هولوكوست مرة أخرى».

هذه العواطف دامت بعد زوال الأزمة التي أفرزتها. وما تبقي، حسبما قال بينارت، هو «هذا الوضع الذي نعيشه منذ عام 1938». ومضى يقول: إن المشكلة هنا تتمثل في أنه «إذا كنا دائما على شفا الهولوكوست، فإن التزام المرء الوحيد هو النجاة. ليس عليه أن ينشغل بالالتزامات الأخلاقية الخاصة بالتعامل مع الأقوام الأخرى. وهذا يمنح المرء رخصة هائلة لفعل ما يشاء، لأن الفلسطينيين في الأساس مجرد نازيين أصليين». لقد رأى بينارت، الذي قضى أغلب عمره يصارع مثل هذه العواطف، مدى صعوبة تخفيفها. قال لي «هناك هذه الرواية الراسخة، عمن يتخلى عن السلطة فيهوي من حالق، وأنا أيضًا أشعر بهذه المخاوف».

* نشر المقال في مجلة نيويوركر الأمريكية