No Image
ترجمة

السلام في فلسطين ومكوناته الغائبة

27 نوفمبر 2025
عبد الله جول
27 نوفمبر 2025

بعد عامين من عمليات القتل الجماعي التي ارتكبتها إسرائيل في واحدة من أشد الحملات العسكرية وحشية في التاريخ الحديث، كان وقف إطلاق النار في غزة الذي تم الاتفاق عليه في أكتوبر خطوة تستحق الترحيب بلا شك. ولكن حتى لو صمد هذا الاتفاق، فمن الأهمية بمكان معالجة الأسباب الجذرية وراء المشكلة من أجل تحقيق سلام عادل ودائم. وإلا فإن تجدد إراقة الدماء والمعاناة في المنطقة أمر حتمي.

من اللافت للنظر أن وقف إطلاق النار الحالي مشروع شخصي من بنات أفكار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، وليس استمرارا لعقود من الجهود الدولية لحل المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية. فهو لا يتضمن الإشارات الضرورية إلى قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة التي تشير إلى حل الدولتين وفقا لحدود ما قبل عام 1967 والقدس الشرقية باعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينية. وعلى هذا فإن تقديم اتفاق السلام الحالي على أنه "بداية جديدة" يهدد بخلق وهم الحل. ففي حين أضفى قرار مجلس الأمن الدولي الجديد (2803) الشرعية على خطة ترمب، فإن إشاراته إلى التوقعات الفلسطينية الشرعية المستحقة تظل غير كافية (على عكس ما ورد في المسودة الروسية). يتمثل خطر مُلِح بشكل خاص في تطبيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية.

وفقا لتقرير صادر مؤخرا عن مجموعة الأزمات الدولية، تتزايد أعداد البؤر الاستيطانية الإسرائيلية وتتحول إلى مستوطنات دائمة. على نحو مماثل، يزيد استحداث "الخط الأصفر" في غزة من احتمال التقسيم، حيث تحتل إسرائيل بشكل دائم أكثر من نصف القطاع. والأسباب التي تدعو إلى الشك في نية إسرائيل الانسحاب من هذه الأراضي وفيرة. لا يجوز لنا أن نتعامل مع الأمر بسذاجة: إن وقف إطلاق النار مجرد بداية. وكما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، فإن الأحداث في فلسطين من غير الممكن النظر إليها في فراغ، بمعزل عن سياقها الماضي والحالي.

لقد اتخذت دول أوروبية عديدة خطوة الاعتراف بدولة فلسطين أخيرا، ويرجع هذا في الأساس إلى الضغوط الداخلية المتزايدة. وبرغم أن هذه قد تكون خطوة سطحية، فإنها تشير إلى تحول مهم في النهج العالمي تجاه القضية الفلسطينية. وتظل إسرائيل معزولة بسبب سياساتها المتطرفة، في حين أصبحت المشاعر الدولية المؤيدة للحل العادل أشد وضوحا من أي وقت مضى. صحيح أن برنامج السلام الذي تطرحه خطة ترمب جديد، لكن المشكلة القائمة، وحلولها الرئيسية، كانت واضحة منذ أمد بعيد. يجب أن ينتهي الغزو الإسرائيلي والمستوطنات غير القانونية، ويجب أن تتحقق الدولة الفلسطينية بالقدر الواجب من الكرامة.

لكي يُـفضي وقف إطلاق النار إلى سلام دائم، يجب أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية الدفع بإسرائيل في الاتجاه الصحيح. إن حل الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط سيكون خدمة هائلة للبشرية. وسوف تعزز الولايات المتحدة هيبتها، في حين تضمن سلامة وازدهار أقرب حلفائها في المنطقة.

ومخاوف إسرائيل المتعلقة بوجودها مفهومة أيضا: فهي تقع في وسط المشرق العربي، بين دول عديدة معادية لها. ولكن ينبغي لها أن تدرك ما فهمه معظم المثقفين اليهود والنخب اليهودية في مختلف أنحاء العالم منذ أمد بعيد: إسرائيل في احتياج إلى علاقات طبيعية مع الفلسطينيين وجيرانها الآخرين. وإذا كان البديل هو فرض دولة فصل عنصري أو نزع السيادة الفلسطينية، فسوف يؤجل الصراع ويتضخم، كما كانت الحال في الماضي.

ما دام الاجتياح مستمرا، فسوف تستمر المقاومة أيضا. إن مجرد تدمير حماس لن يضمن أمن إسرائيل. ففي غياب السلام العادل، ستحل محلها حتما جماعة أخرى متماثلة معها في الفِكر. الحل الوحيد هو معالجة سبب التطرف الفلسطيني، والذي يبدأ بالسماح للفلسطينيين بالعيش بكرامة على أرضهم. السلام في فلسطين لابد وأن يخلف تأثيرات تتجاوز المنطقة المجاورة مباشرة. ذلك أن أغلب التطرف في العالم الإسلامي يستغل مزاعم مرتبطة بالقضية الفلسطينية. وإذا حُـلّ الصراع، فإن هذه المزاعم ستفقد ثِقَلها بكل تأكيد.

من ناحية أخرى، يجب أن يعكف الفلسطينيون على ترتيب بيتهم الداخلي، من خلال تصعيد قادة ملتزمين تماما بالديمقراطية وسيادة القانون. فهذا النوع من القيادة هو وحده القادر على تمثيل الشعب الفلسطيني تمثيلا حقيقيا كمحاور دولي شرعي. وقد أصبح هذا الأمر أشد أهمية منذ السابع من أكتوبر 2023. يجب أن تتحلى القيادة الفلسطينية بالمصداقية، والشرعية، والاحترام. نظرا للدمار والمصاعب التي يواجهها الفلسطينيون على كل المستويات، لن يكون من السهل تحقيق مثل هذه الأهداف السياسية. والمجتمع الدولي يجب أن يكون داعما ومتفهما للجهود الأولية الرامية إلى إيجاد قيادة مقبولة.

إسرائيل أيضا يجب أن تدعم هذه الجهود إذا كانت راغبة في إضعاف دور حماس وتحقيق التطبيع الإقليمي بشكل نهائي. في عام 2006، وبصفتي وزيرا للخارجية التركية آنذاك، كنتُ أول من استقبل قادة حركة حماس واجتمع بهم في أنقرة بعد فوزها في الانتخابات. وقد نصحتهم بشدة بتبني سياسات جديدة والتصرف على النحو الذي يليق بقوة سياسية منتخبة ديمقراطيا: كان عليهم أن يتبعوا الدبلوماسية، وأن يتبنوا تكتيكات أكثر اعتدالا في نضالهم، وأن يصبحوا الممثلين المعترف بهم دوليا للفلسطينيين. وقد أظهروا في مستهل الأمر علامات تدل على استعدادهم للقيام بذلك. وقد أخبرت نظيريّ الإسرائيلي والأمريكي أيضا أن القيادة الفلسطينية المنتخبة حديثا في غزة يجب أن تُـمنَح الفرصة. ولكن بدلا من ذلك، جرى نبذها على الفور وفرض العقوبات عليها.

اليوم، تسنح فرصة مماثلة. ما زلت مقتنعا بأن القيادة الفلسطينية الديمقراطية التي تضمن الحكم الرشيد، وتخلص نفسها من الفساد، وتنبذ العنف هي وحدها القادرة على الحصول على الدعم الكامل من شعبها والعمل كممثل شرعي له على المستوى الدولي.

لقد تحدثت إلى شخصيات بارزة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، واعتبر كثيرون منهم السياسي الفلسطيني السجين مروان البرغوثي مثالا لمرشح واعد للقيادة. ولكن يتعين على إسرائيل أن تثبت أنها راغبة حقا في السلام بإطلاق سراحه هو وغيره من السجناء السياسيين.

لقد سئم العالم من مشاهدة العنف والمعاناة في فلسطين بلا حول ولا قوة.

قد يكون وقف إطلاق النار الذي أعلنه ترمب الخطوة الأولى نحو السلام، ولكن فقط إذا تطور إلى خطة مكتملة تعترف بالنضال الفلسطيني الذي دام عقودا من الزمن وتقدره. خلافا لذلك، ستستمر معاناة الفلسطينيين وانعدام أمن الإسرائيليين.

عبد الله جول الرئيس السابق للجمهورية التركية.

خدمة بروجيكيت سنديكيت