No Image
ترجمة

الأزمة الحقيقية في النظام الدولي (1-2)

29 ديسمبر 2021
29 ديسمبر 2021

ألكسندر كولي ـ دانيال نكسون

ترجمة: أحمد شافعي

• الولايات المتحدة بحاجة أولا إلى حل مشكلاتها للمنافسة بفعالية مع القوى العظمى الاستبدادية وتعزيز قضية الديمقراطية على المسرح العالمي

• من ينتقدون فكرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة يبرزون اختلافات أساسية بين عالم اليوم وعالم العقود الأولى من الحرب الباردة

• تواجه الديمقراطيات الليبرالية تهديدات حقيقية للغاية من صعود الشعبوية الرجعية، والاستبدادية المحافظة، وغيرهما من الحركات المناهضة للديمقراطية

• تستطيع الصين وروسيا من خلال تأسيس منظمات أمنية واقتصادية إقليمية جديدة أن تكررا أجنداتهما الإقليمية عبر مؤسسات ترفض صراحة نشر الأعراف والقيم الليبرالية السياسية

أثار انتخاب دونالد ترامب في عام 2016 شرارة جدل كبير حول طبيعة النظام الدولي الليبرالي ومصيره بعدما بدا أنه وقع بغتة بين مطرقة المناهضين غير الليبراليين للقوة العظمى وسندان رئيس أمريكي معاد. وقد يكون ترامب قد خسر انتخابات 2020، لكن النظام الليبرالي يبقى مهددا، ولئن كانت الحوادث الأخيرة أبرزت شيئا فهو حجم التحديات التي يواجهها، والأهم أن هذه التحديات ليست سوى تجل واحد لأزمة أكبر كثيرا تهدد الليبرالية ذاتها.

على مدار عقود بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الفصائل المسيطرة في كل من الحزبين الأمريكيين الديمقراطي والجمهوري ملتزمة بمشروع خلق نظام دولي ليبرالي بقيادة أمريكية. وكانت ترى أن واشنطن مركزية في إقامة عالم يكون على أقل تقدير منظما جزئيا حول التبادلات السوقية والملكية الخاصة وحماية الحقوق السياسية والمدنية والإنسانية، والتفوق المعياري للديمقراطية التمثيلية، والدول ذات السيادة المتساوية رسميا والعاملة غالبا من خلال مؤسسات متعددة الأطراف. ومهما تكن عيوب النظام العالمي الناشئ في غداة الحرب الباردة فإنه أخرج ملايين البشر من ربقة الفقر وأدى إلى نسبة استثنائية من العيش الإنساني في ظل حكومات ديمقراطية. لكن هذا النظام أيضا أزال المصدات التي كانت تزيد من صعوبة انتشار الاضطرابات السياسية من مستوى سياسي إلى آخر بالقفز على سبيل المثال من المستوى دون الوطني إلى الوطني إلى الإقليمي وأخيرا إلى المستوى العالمي.

لقد افترض اللاعبون الأساسيون في الديمقراطيات الراسخة ـ وبخاصة في أوربا وأمريكا الشمالية ـ أن من شأن تقليل الحواجز الدولية أن ييسر انتشار الحركات والقيم الليبرالية. والحق أنه فعل ذلك لفترة، لكن النظام الدولي الناجم بات الآن يحابي نطاقا متنوعا من القوى غير الليبرالية ـ ومنها دول استبدادية كالصين ـ التي ترفض الديمقراطية الليبرالية جملة، ومن شعبويين رجعيين وطغاة محافظين يقدمون أنفسهم بوصفهم حماة القيم التي يصفونها بالموروثة والثقافة الوطنية في حين أنهم يدمرون تدريجيا المؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون. ويرى كثير من الأمريكيين في اليمين وأمثال لهم في الخارج أن اللاليبرالية الغربيةilliberalism تبدو ديمقراطية لا ينقصها شيء.

بُعيد تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدأ يتكلم عن "معركة بين منفعة الدول الديمقراطية والدول الاستبدادية في القرن الحادي والعشرين". فكان في موقفه ذلك صدى لرؤية منتشرة مفادها أن الليبرالية الديمقراطية تواجه تهديدات من الداخل ومن الخارج. فالقوى الاستبدادية والديمقراطيات غير الليبرالية تسعى إلى تقويض جوانب أساسية من النظام الدولي الليبرالي. وتواجه الأعمدة المفترضة في هذا النظام ـ وبخاصة الولايات المتحدة ـ خطر الاستسلام للاليبرالية في الداخل.

ويبدو أن جميع المحللين الأمريكيين ـ سواء منهم (الديمقراطيون) الراغبون في "إعادة البناء بشكل أفضل" أم (الجمهوريون) الراغبون في "إعادة عظمة أمريكا من جديد" ـ يتفقون على أن الولايات المتحدة بحاجة أولا إلى حل مشكلاتها للمنافسة بفعالية مع القوى العظمى الاستبدادية وتعزيز قضية الديمقراطية على المسرح العالمي. لكن الحزبين السياسيين الكبيرين يفهمان بنحوين مختلفين تماما ما يقتضيه هذا المشروع الإحيائي. فهذه الهوة أكبر كثيرا من الخلافات حول التنظيم الاقتصادي والاستثمار العام. وكل فريق يرى في الفريق المقابل خطرا وجوديا يهدد بقاء الولايات المتحدة ذاته بوصفها جمهوريةً ديمقراطية.

إن الولايات المتحدة إحدى أشد الدول الديمقراطية الغربية استقطابية، ولكن صراعاتها وتوتراتها السياسية ليست سوى تجليات لعملية دولية أوسع. فاليمين الرجعي الأمريكي على سبيل المثال مرتبط بتنويعة من الشبكات العالمية تضم حركات سياسية معارضة وأنظمة حكم على حد سواء. ومن ثم فإن الجهود المبذولة لدعم الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة سوف تؤدي إلى آثار لاحقة وغير متوقعة على النظام الليبرالي الأوسع، وفي الوقت نفسه لا يستطيع صناع السياسات أن يديروا شؤون البلد وينظموها دونما تعامل مع التحديات الدولية والعابرة للحدود.

يتجاوز ذلك كله محض طلاء الديمقراطية الأمريكية بطلاء جديد وتغيير ديكورات المطبخ. فليس من الممكن التعامل مع الأزمة من خلال الاكتفاء بتجديد التزام الولايات المتحدة بالمؤسسات متعددة الأطراف وبالمعاهدات وبالتحالفات. لأن للأزمة جذورا بنيوية. ولأن طبيعة النظام الدولي الليبرالي المعاصر تجعل البلاد الديمقراطية ضعيفة أمام الضغوط المناهضة لليبرالية في كل من الداخل والخارج.

ولا تستطيع المؤسسات الليبرالية ـ بشكلها الحالي ـ أن توقف مد مناهضة الليبرالية الصاعد، إذ يصعب على الحكومات أن تمنع انتشار الأيديولوجيات والتكتيكات المناهضة للديمقراطية، سواء منها الناشئ محليا أم المستورد. ولا بد أن تكيف البلاد الديمقراطية أنفسها لصد التهديدات على مستويات عدة. لكن لذلك ثمنه. لأن أي محاولة تبذل للتعامل مع هذه الأزمة إما أنها سوف تستوجب قرارات سياسية سافرة في عدم ليبراليتها أو أنها سوف تفرض نسخة جديدة من النظام الليبرالي.

الانفتاح للاضطراب

إن من ينتقدون فكرة الحرب الباردة الجديدة بين الصين والولايات المتحدة يبرزون اختلافات أساسية بين عالم اليوم وعالم العقود الأولى من الحرب الباردة. فلقد كان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يشكلان مركزي كتلتين جيوسياسيتين متمايزتين. أما بكين وواشنطن في المقابل، فتعملان في فضائين جيوسياسيين متصلين ومتداخلين. والساسة في واشنطن يتجادلون على مدار سنين حول كم القيود الواجب فرضها على الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة. ولم يكن لقلق كهذا وجود، بل ولم تكن من حاجة إليه، حينما كان الأمر يتعلق بالاتحاد السوفييتي. إذ لم تكن الشركات الأمريكية تسند مهام تصنيع من الباطن إلى مصانع سوفييتية، ولم يكن الاتحاد السوفييتي قط مورِّدا كبيرا للسلع إلى الولايات المتحدة أو من حلفائها الأساسيين في معاهدات.

لقد أدى نطاق كبير من التطورات ـ التي تسارعت على مدار العقود الثلاثة الأخيرة ـ إلى زيادة كثافة تدفق المعرفة والتجارة في العالم، ومن ذلك توسع الأسواق وإلغاء القيود الاقتصادية وسلاسة حركة رأس المال، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ووسائل الإعلام الرقمية. وبات الناس الآن أكثر وعيا بما يجري في أجزاء مختلفة من العالم، لأن الشبكات السياسية الرسمية وغير الرسمية العابرة للحدود تطورت جميعا، واكتسبت أهمية، واتسعت نطاقا، بعد أن كانت محدودة خلال الحرب الباردة بالحدود الجيوسياسية الجامدة كما كانت وسائل الاتصالات البعيدة أقل عددا وأكثر تكلفة.

أدت هذه التغيرات الجارية إلى إحداث خلط في الأفق الجيوسياسي الناشئ بعد الانهيار الداخلي الذي مني به الاتحاد السوفييتي. فلم يحلَّ نظام دولي موحد وحيد محل النظام الدولي المتشعب السائد خلال الحرب الباردة، إذ لم يصبح العالم ـ برغم آمال الساسة النيوليبراليين ـ "مسطحا" قط. وبدلا من ذلك، كان النظام الدولي الذي تشكَّل عند منعطف القرن شديد التلون. فكثير من أنظمة الحكم الديمقراطية التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين لم تكن ديمقراطية إلا لماما، وأخطأ المتفائلون حينما صرفوا النظر عن مؤشرات مبكرة تنم عن ضعف المؤسسات الديمقراطية الليبرالية إذ اعتبروها محض عثرات على الطريق إلى الدمقرطة الكاملة. وباتجاه الشرق عبر أوروآسيا أصبح التنظيم الليبرالي مرقعا أكثر فأكثر. وتمكنت بعض الدول ـ ومنها الصين ـ أن تستفيد من منافع النظام الاقتصادي الليبرالي دون القبول بمتطلبات الليبرالية السياسية.

وعدنا الكثير من المحللين في هذه السنين بأن ينتج توسع السوق طبقات وسطى نشطة تطالب بدورها بتحرر سياسي. وذهبوا إلى أن نشأة مجتمع مدني عالمي ـ يرتكز على حقوق الإنسان وسيادة القانون والمنظمات غير الحكومية العاملة في مجال البيئة ـ سوف يساعد في تنمية وحشد قوى مناصرة للديمقراطية، وبخاصة في الفضاء ما بعد السوفييتي. كما ستؤدي الإنترنت ـ التي عُدَّت على نطاق واسع قوة لا يمكن إيقافها من قوى الحرية ـ دورها في نشر جاذبية كاسحة لكل من مبادئ الاقتصاد الليبرالي والحريات السياسية الليبرالية.

ولم يزل بوسع المرء أن يدافع عن قضية التفاؤل حتى ما بعد 2005، وهو العام الأخير الذي شهد زيادة في صافي الديمقراطية العالمية بحسب مجموعة فريدم هاوس المناصرة للديمقراطية. ولكن ذلك، بأثر رجعي، يبدو سذاجة مؤسية.

في عام 2001، قبل أشهر قليلة من دخول الصين رسميا منظمة التجارة العالمية، ساقت هجمات الحادي عشر من سبتمبر الولايات المتحدة إلى شن حرب عالمية على الإرهاب. فتبنت إدارة بوش جملة من الممارسات غير الليبرالية أو توسعت فيها، وكان من هذه الممارسات تعذيب "المقاتلين الخارجين على القانون" من خلال تقنيات "الاستجواب المعزز" ومن خلال "التسليم الاستثنائي" لحكومات أخرى، وتبنت نسخة معسكرة من ترويج الديمقراطية. وجاء غزو العراق وما صاحبه من عقيدة استباقية فتسبب في مزيد من التوتر بين الولايات المتحدة والحلفاء الأوربيين مثل فرنسا وألمانيا. وجاءت اضطرابات "الثورات الملونة" ـ وهي الانتفاضات الليبرالية في البلاد ما بعد السوفييتية (في جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004) ـ والربيع العربي الذي اندلع في 2010 فأبرزت التهديدات التي يمثلها عملاء النظام الليبرالي من قبيل المؤسسات الدولية، والمنظمات غير الحكومية الغربية، ووسائل الإعلام الاجتماعي. وأمعنت أنظمة الحكم الاستبدادية وغير الليبرالية في اتباع استراتيجيات لتحصين أنفسها من هذه التهديدات الليبرالية العابرة للحدود.

كانت النتيجة التراكمية للابتكارات التكنولوجية، والخيارات السياسية التي ذهبت إليها القوى الليبرالية، وتطور الممارسات الاستبدادية، "انفتاحا غير متزن"، بمعنى أن النتيجة كانت واقعا غريبا جعل النظام الليبرالي المعاصر أنفع للأنظمة الاستبدادية منه للديمقراطيات الليبرالية. فبوسع الدول الاستبدادية أن تحد من أثر المجتمع المدني الدولي والشركات متعددة الجنسيات والتدفقات الاقتصادية بل والإنترنت نفسه على شعوبها بفعالية تفوق الديمقراطيات الليبرالية. وبوسع الطغاة أن يستعملوا حرية التدفقات العالمية ـ كالتي توفرها السياسات الليبرالية اقتصادية كانت أم سياسية ـ لزيادة تأثيرهم غير الليبرالي. وهم يفعلون ذلك بينما يمنعون ويقصون ويسيطرون على التدفقات العابرة للحدود من الأفكار والمنظمات والمعلومات والنقود التي قد تهدد قبضاتهم على السلطة.

ميزة الاستبداد

أصبح انفتاح البلاد الليبرالية ـ وهو من المبادئ الجوهرية في هذه المجتمعات ـ عبئا. فمن المشكلات الأساسية التي تواجه صناع السياسة الأمريكيين ـ وتمثل تحديا خاصا للافتراضات التي صاغها الحكم خلال تسعينيات القرن الماضي وأولى سنوات القرن الحالي حينما مارست الولايات المتحدة الهيمنة ـ مشكلة براعة الدول غير الليبرالية والحركات السياسية في إساءة استغلال النظام العالمي المترابط.

ولا ينتج الانفتاح وسائل إعلام وبيئة معلوماتية أكثر ليبرالية فالطغاة يقيمون حواجز أمام الإعلام الغربي في بلادهم في حين أنهم يصلون إلى المنصات الغربية لدعم أجنداتهم الخاصة. فعلى سبيل المثال تنعم الدول الاستبدادية الآن بتوسع وصول الإعلام إلى العالم الديمقراطي. إذ تتلقي المنصات الإعلاية العالمية التي تديرها دول، من قبيل (سي جي تي إن) التابعة للصين و(آر تي) التابعة لروسيا، دعما حكوميا بمليارات الدولارات، ولها أعداد ضخمة من المكاتب الخارجية والمراسلين، وبعضها في البلاد الديمقراطية الغربية، برغم أن أنظمة الحكم الاستبدادية تمعن في إقصاء الإعلام الغربي. إذ طردت الصين مراسلين لهيئة الإذاعة البريطانية ومنعت الشبكة البريطانية من البث داخل البلد في عام 2021 بسبب تغطيتها لانتهاكات شينجيانج.

وبالمثل، تستمر المنظمات وجماعات الضغط المدعومة من المستبدين في أنشطتها داخل المجتمعات المنفتحة حتى في ظل حظر الصين وروسيا للمسؤولين والأكاديميين والباحثين الغربيين. ولأن الطغاة المعاصرين واعون بأهمية الصورة فهم يستعملون التقنيات الجديدة ومنصات الإعلام الاجتماعي لصياغة صورهم العالمية ورفع مكانتهم لدى الجماهير المحلية والدولية. وهم يتعاقدون دائما للحصول على خدمات شركات العلاقات العامة في الغرب التي تصور القادة بوصفهم أصحاب شعبية في الوطن وتؤكد أهميتهم الاستراتيجية وتغسل تواريخهم مع القهر والفساد. كما يسعى الطغاة إلى التأثير على صناع السياسة في البلاد الديمقراطية الليبرالية بتمويل مراكز الأبحاث ورعاية "الجولات الدراسية" وغير ذلك. وتقوم شركات إدارة السمعة ـ التي تستعين بها الحكومات غير الليبرالية والحكام الطغاة ـ بمسح الإعلام العالمي بعناية وتهدد باللجوء إلى القضاء لمنع أي تغطية سلبية أو لردع أي استقصاء.

تيسر التقنيات الرقمية أدوات جديدة للقمع الداخلي والعابر للحدود. حيث تمكِّن الجهات الأمنية في كل من البلاد القوية (من قبيل الصين وروسيا وتركيا) والضعيفة (من قبيل روسيا البيضاء ورواندا وطاجيكستان) من تشديد حملاتها لمراقبة وتخويف وإسكات الخصوم السياسيين في المنافي والنشطاء في المهاجر ـ حتى المقيمين في بلاد تعد طبيعيا ملاذات آمنة من قبيل كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. ومثلما أبرزت التحقيقات الأخيرة في أعمال شركة (مجموعة إن إس أو) الإسرائيلية للتكنولوجيا وبرنامجها التجسسي بيجاسوس، فإن الحكومات الاستبدادية منخرطة في رقابة رقمية كثيفة للمنشقين والصحفيين من بلاد أخرى، بعونٍ في الغالب من شركات تقع مقراتها في دول ديمقراطية.

لقد كانت شركات التكنولوجيا الغربية تعلن ذات يوم عن أنفسها بوصفها نصيرة للانفتاح. والآن يستسلم كثير منها لضغوط الدول التي تستضيفها لإزالة محتوى وأدوات يمكن استعمالها لتيسير الحشد ضد النظام الحاكم. فقبيل انتخابات روسيا البرلمانية في سبتمبر 2021، أقنع الكرملين كلا من آبل وجوجول بإزالة تطبيق أنشأه وصمَّمه داعمون لزعيم المعارضة المسجون ألكسي نفلاني للمساعدة على التنسيق بين المعارضة في التصويت. وقد اتهم نفلاني عملاقي التكنولوجيا بـ"التواطؤ" مع الكرملين.

كما تنحني المؤسسات الدولية أمام إرادة الطغاة. فالصين في ظل قيادة شي شينجيانح سعت بعنف إلى تقييد النقد الموجه للبلد في منتديات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. ووفقا لهيومان رايتس ووتش المناصرة لحقوق الإنسان، سعت الصين إلى "تحييد قدرة ذلك النظام على محاسبة أي حكومة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان". وقد تجمعت الدول الاستبدادية في تحالفات مثل (مجموعة التفكير المتماثل) Like-Minded Group لمعارضة نقد ممارسات حقوق الإنسان في بلاد منفردة، والتمتع بامتياز سيادة الدولة، وعرقلة اعتماد المنظمات غير الحكومية وتقليص دورها في الأعمال المرخصة من الأمم المتحدة مثل (المراجعة الدورية العالمية). وتقود الصين الآن أربعا من وكالات الأمم المتحدة وتدفع بمرشحيها المفضلين في وكالات أخرى ومنها منظمة الصحة العالمية. وفي سبتمبر، ألغت مجموعة البنك الدولي دراستها السنوية المهمة التي تصدر بعنوان "ممارسة الأعمال" إثر توصل تقرير استقصائي خارجي إلى أن قيادات الدراسة مارست لأسباب سياسية "ضغوطا غير لازمة" على فرق العمل لتحسين وضع الصين في تصنيف عام 2018.

والدول الاستبدادية لا تستطيع فقط أن تعمل بحرية في المؤسسات العالمية المندرجة ضمن النظام الدولي الليبرالي، لكنها أيضا تقيم بيئة مواتية لمؤسسات تنظيمية بديلة يمكنها من خلالها إقصاء أو فرض قيود جسيمة على تأثير البلاد الديمقراطية الليبرالية. ومن خلال تأسيس منظمات أمنية واقتصادية إقليمية جديدة، تستطيع الصين وروسيا أن تكررا أجنداتهما الإقليمية عبر مؤسسات ترفض صراحة نشر الأعراف والقيم الليبرالية السياسية، وأن تستعملا هذه المؤسسات للمساعدة في تنظيم كتل غير ليبرالية داخل المنظمات الدولية الأكثر ضعفا، وأن تحافظا على خيارات خروج إذا ما أصبحت مؤسسات التنظيم الليبرالية أقل ترحابا بالطغاة.

العفن من الداخل

تتعرض البلاد الديمقراطية الليبرالية لتهديدات من الداخل أيضا. فالنظام الليبرالي يقوم على اتحادين كبيرين: هما الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. وكلاهما أيضا موطن لبعض أقوى القوى المناهضة لليبرالية وأقواها تأثيرا محتملا. وبصفة عامة تأخذ هذه القوى أحد شكلين: الأفعال المناهضة لليبرالية التي تقوم بها الحكومات الديمقراطية اليبرالية نفسها سعيا إلى مواجهة التهديدات المحتملة، والقوى المناهضة للديمقراطية التي تظهر في الحركات السياسية والأحزاب والساسة المناهضين لليبرالية.

طالما صارعت الحكومات الديمقراطية في المفاضلة بين الحرية والأمن، وتواجه الليبرالية دائما مآزق حيال مدى التسامح مع الفاعلين غير الليبراليين. لقد تغاضت الولايات المتحدة عن استبدادية قوانين جيم كرو العرقية دون الوطنية والتفرقة العنصرية طوال أغلبية القرن العشرين، فكانت لذلك عواقب وخيمة. وأسهمت السياسة الأمنية الوطنية الأمريكية في ما بعد 11/9 في أزمة النظام الليبرالي الراهنة بعدة طرق منها نشر عقيدة الحرب الاستباقية وعسكرة ترويج الديمقراطية. وأدى اعتناق الولايات المتحدة لرأسمالية المضارية ونظامها الاقتصادي القائم بإفراط على التمويل في أن أصبحت مركزا لزلزال الأزمة المالية في عام 2008. وفي وقت قريب أدى الوباء العالمي إلى تطبيع القيود المشددة على الحدود والسياسات المقيدة المفروضة على الهجرة وتقويض شرعية حماية اللاجئين.

من أجل صد القوى المناهضة لليبرالية، وأبرزها الصين، تبنت الحكومات الديمقراطية سياسات تعارض الانفتاح الذي يسم النظام الليبرالي المعاصر. إذ استعملت واشنطن أدوات قسرية للتدخل في الأسواق العالمية سعيا إلى حماية امتلاك أمريكا للتكنولوجيا ذات الأهمية الاستراتيجية والتفوق فيها. وأدت المخاوف الأمنية المتصلة بالمراقبة الصينية المحتملة واسعة النطاق لمسارات الاتصالات الغربية ـ على سبيل المثال ـ إلى أن تفرض إدارة ترامب ضغوطا كبيرة على حلفائها لرفض تكنولوجيا الجيل الخامس الصينية. بل إن كثيرا من الساسة ومسؤولي السياسة الخارجية الأمريكيين الملتزمين ـ خلافا لترامب ـ بالليبرالية يعتبرون هذه سياسة ناجحة.

مخاطرة الليبرالية بتدمير نفسها

لا يزال الدعم الحقيقي للانفكاك الواسع عن الصين محدودا، لكن التنافس المتنامي بين بكين وواشنطن أثمر ابتعادات أخرى ـ وإن تكن جزئية ـ عن ليبرالية السوق باسم التنافسية والاستقلال الذاتي الاستراتيجي. ويمثل القانون الأمريكي للمنافسة والابتكار ـ الواقع عند كتابة هذه السطور في شرك عملية مصالحة ـ أول تشريع ذي شأن من الحزبين منذ سنين لتبني سياسة وطنية للصناعة، وهو في هذا الصدد يمثل انقلابا شديد المحدودية على الليبرالية المنفتحة، أو النيوليبرالية في فترة ما بعد الحرب الباردة.

لقد أدت النسخة النيوليبرالية من ليبرالية السوق ـ أي الدفع منذ سبعينيات القرن العشرين باتجاه المزيد من إلغاء القواعد والخصخصة وحركة رأس المال ـ إلى تآكل الحمايات الاجتماعية وزيادة التفاوت، من خلال إعادة صياغة القانون الضريبي لمنفعة أصحاب الدخول المرتفعة والشركات في أمريكا. لكن بدلا من مراجعة هذه السياسات، يفضل الكثير من الساسة الأمريكيين إلقاء اللوم على الممارسات التجارية الصينية. والمحافظة على التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية يلقى قبولا لدى المشاعر الشعبوية ويفيد عددا محدودا من العاملين في صناعات تنافس الواردات الصينية مثل الحديد الصلب. لكن الضرر الذي يلحقه بالصناعات التصديرية والمستهلكين أكبر. وحتى الآن لا يبدو أن التعريفات الجمركية أدت إلى ترتيبات تبادل تجاري أفضل مع الصين.

كما أن القوى المبذولة لمواجهة القوى المحلية المعادية للديمقراطية تهدد بتقويض الأعراف والقيم الليبرالية. ففي الولايات المتحدة، ينادي الليبراليون والتقدميون بتغييرات في القواعد الإجرائية لمنع الارتداد عن الديمقراطية. وينادون باتخاذ موقف عنيف ضد الميلشيات اليمينية والمنظمات شبه العسكرية، وتكديس المحكمة العليا بالقضاة الليبراليين، والتخلي عن الممارسات التشريعية القديمة مثل المماطلة. وهذه إجراءات حينما تتخذ أنظمة حكم غير ليبرالية مثيلا لها يتهمها المعلقون محقين بتقويض الديمقراطية.

ويبقى أن الديمقراطيات الليبرالية تواجه بالفعل تهديدات حقيقية للغاية من صعود الشعبوية الرجعية، والاستبدادية المحافظة، وغيرهما من الحركات المناهضة للديمقراطية. ففي الولايات المتحدة، يظل أحد الحزبين السياسيين الكبيرين مدينا بالفضل لديماجوجيٍّ استبداي. فبدافع من "الكذبة الكبيرة" (وهي موضوعيا زعم زائف بأن الديمقراطيين سرقوا الانتخاب من ترامب من خلال تزوير انتخابي ممنهج)، يجري الحزب الجمهوري حملة تطهير على المسؤولين الذين وقفوا في طريق جهوده للانقلاب على انتخابات 2020 الرئاسية. وتتسارع الجهود الجمهورية لقمع الناخبين. كما أحال التلاعب الحاد في تقسيم الدوائر الانتخابية بعض الولايات ـ من قبيل ميريلاتد وكارولينا الشمالية ووسكونسن ـ إلى أشباه ديمقراطيات تشريعية حقيقية، أو أنظمة حكم تخلط بين سمات ديمقراطية وأخرى أوتقراطية. وفي حال استمرار هذه النزعات، قد يتبين أن تغييرات إجرائية هي السبيل الوحيد للحيلولة دون تفكك الديمقراطية في الولايات المتحدة.

• ألكسندر كولي مدير معهد هاريمان في جامعة كولمبيا وأستاذ كلير تاو للعلوم السياسية في كلية برنارد

• دانيال إتش نكسون أستاذ في قسم الحكم بمدرسة وولش للخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون