إشراقات

نوافذ على الهجرة النبوية الشريفة

20 يوليو 2023
20 يوليو 2023

عندما يجتمع المسلمون على توثيق حدث ما ليبنوا عليه حسابهم الفلكي للأعوام ويأرخون به أحداثهم ويعلمون من خلاله عدد السنين والحساب، فإن ذلك الحدث الذي بدأ به هذا التقويم هو حدث بالغ الأهمية، ونقطة فاصلة في مسار التاريخ، فلذلك كان اختيار المسلمين لحدث الهجرة هو فاتحة حسابهم، ولا يعني هذا أن العرب قديما لم يكن عندهم حساب فلكي للأشهر والأيام بل كانوا يعرفون الأشهر ولكن ليست بأسمائها الحالية، وقد تم تغييرها إلى الأسماء التي نعرفها اليوم في عهد كلاب بن مرة الجد الخامس للرسول صـلى الله عليه وسلم، وقد اشتقوا أسماءها من الدلالات التي كانت تتوافق مع أعمالهم ومع ما يشعرون به من حر وبرد في تلك السنوات، ولكن لم يكن هنالك حساب للسنوات، وإنما كانوا يؤرخون تلك الأعوام بالأحداث الكبيرة التي وقعت فيها، مثل عام حرب الفجار، وعام الفيل.

وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما توسعت الدولة الإسلامية وأصبح لها نظام يتعلق بالدواوين والتنظيمات الإدارية، كانت المراسلات تؤرخ بالأشهر دون السنوات، فكان يكتب شهر شوال ولكن لا يعلم في أي سنة يقصد به، مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يجتمع مع أصحابه ليخلصوا إلى أن يقترحوا حساب السنوات منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلـم، فكانت السنة الهجرية الأولى هي التي هاجر فيها الرسول صـلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة والتي وافقت سنة 622 بالتاريخ الميلادي.

ولو أتينا إلى هذا الحدث المهم الذي بدأ به هذا الحساب الفلكي للأمة الإسلامية، وتأملنا دلالاته وتفاصيله وأحداثه وما سبقه من تخطيط وتجهيز لهذه الرحلة التاريخية المشوقة، لوجدنا أنه لا يزال ناضحا بالعضات والعبر والدروس والتأملات، فبعد أن اشتد أذى المشركين على أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلـم وقاطعوهم وعذبوهم أمر الرسول صـلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة لأن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، كما وصفه النبي صـلى الله عليه وسلم وهو النجاشي، فهذه الهجرة هي هجرة نجاة في المقام الأول، وفرار بالنفس بعد أن اشتد عليهم العذاب، فكانت فكرة الهجرة حاضرة عند المسلمين.

وكان الرسول صـلى الله عليه وسلم يدعوا قبائل العرب عندما يأتون في موسم الحج، فيعرض عليهم الإسلام ومن أولئك الذين التقى بهم قوم من الخزرج الذين يسكنون المدينة المنورة، فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فآمن منهم 6 أشخاص، وعندما قدموا في العام المقبل أقبل من الأوس والخزرج 12 رجلا دخلوا في الإسلام وبايعوا الرسول صلى الله عليهم وسلم بيعة العقبة الأولى، على أنهم لا يشركون بالله ولا يسرقون ولا يزنون ولا يقتلون أولادهم، وألا يعصون الله ورسوله، وقد أرسل معهم الرسول صلى الله عليهم وسلم مصعب بن عمير يعلمهم أمور دينهم ويؤمهم في الصلاة ويدعوا قومهم إلى الإسلام، وفي العام الذي سبق الهجرة جاء إلى موسم الحج 73 رجلا وامرأتان من الأوس والخزرج لمبايعة الرسول صـلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية.

التخطيط للهجرة

كل هذه الأمور هي بمثابة التخطيط والتهيئة للهجرة فقد أمر الرسول صـلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة التي جعلها وجهة لتثمير وتنمية الدعوة الجديدة ولأجل الانطلاق في الدعوة إلى فضاء أرحب، فبعد أن أكمل الرسول صـلى الله عليه وسلم 13 عاما في مكة داعيا قومه إلى الإسلام وبعد أن استخدم معهم وسائل متنوعة للدعوة، ووصلت دعوته إلى كل فرد في مكة المكرمة، قامت قريش بالتضييق عليه، واستعر عداؤهم عليه لما يرونه من إقبال الناس على هذا الدين الجديد، وكل من يدخل في هذا الدين فإنه لا يخرج منه حتى وإن تم تعذيبه، فأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، بعد اجتماعهم في دار الندوة، وعزموا على أن يأخذوا من كل قبيلة قرشية رجلا يشترك في قتل الرسول صلى الله عليه وسلـم فيتفرق دمه بين القبائل ولا تقدر قبيلة بني هاشم على أن يحاربوا كل هذه القبائل فيرضوا بالدية، وقد أخبر الله عز وجل رسوله بهذا الأمر وأمره بالهجرة، فقال الله تعالى في سورة الأنفال: " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".

اختيار الصاحب

عندما جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلـم أن يهاجر اختار له الله صاحبا يرافقه في هذه الهجرة الفاصلة التي أسست لقيام الدولة الإسلامية، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلـم يبشره بأن الله أذن له بالهجرة وأن أبا بكر سيكون صاحبه فبكى الصديق بكاء شديدا من شدة الفرح بهذا الأمر، وقد اختار الله أبا بكر الصديق لهذه المهمة جزاء لصدقه مع الله ورسوله، وتتويجا لأعماله الكبيرة في خدمة الدعوة المحمدية، فقد صدع بتصديقه للنبي الكريم في حادثة الإسراء والمعراج ومن تلك الحادثة سمي بالصديق، وكذلك محاولته الدائمة في حماية المسلمين من أذى الكفار، فقد اشترى بلال بن رباح الذي كان يعذبه أمية بن خلف ليستنقذه من ذلك العذاب ومن ثم أعتقه لوجه الله، وكذلك فعل مجموعة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وكان أبو بكر الصديق مسابقا في الخيرات، ولهذا كله تم تتويجه بهذا الشرف العظيم.

وكان الصديق نعم الصاحب في السفر، فكان يبذل نفسه وماله لحماية ورعاية الرسول صلى الله عليه وسلـم، فقبل دخولهما غار ثور طلب أبو بكر الصديق من الرسول صلى الله عليه وسلـم أن يمكن في الخارج حتى يتأكد من خلو هذا الغار من السباع والأفاعي والعقارب، فدخل الصديق وسد كل الثغرات والثقوب بقطع من ملابسه، وبقيت فتحتان سدهما بقدمين وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلـم أن يدخل، وقد لسعت عقرب قدم أبي بكر واختمل ألمها وعندما لمح الرسول صلى الله عليه وسلـم هذا الأمر تفل على مكان اللسعة فشفيت.

ومن شدة حرصه على الرسول صلى الله عليه وسلـم عندما اقترب جماعة من قريش من فم غار ثور، كان أبو بكر رضي الله عنه خائفا من أن يتم العثور على الرسول صلى الله عليه وسلـم فقال لرسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا فقال له الرسول صلى الله عليه وسلـم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، فقد كانا في عناية الله ورعايته وحفظه، ولذلك أنزل الله تعالى فيهما في سورة التوبة قوله: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

المعجزات

وقد ظهرت في هذه الرحلة الكثير من المعجزات للرسول صلى الله عليه وسلـم منها ما وقع مع سراقة بن مالك المدلجي الذي غاصت قوائم فرسه في أرض صلبة عندما حاول الاقتراب من الرسول صلى الله عليه وسلـم وصاحبه فأيقن أن الله منعه بهذا الأمر العجب، فأذعن للأمر، وطلب السلامة، وعرض عليهما الطعام فلم يأكلا منه، وقالا له خذل عنا الطلب، ووعده الرسول صلى الله عليه وسلـم بمعجزة مستقبلية أن يلبس سواري كسرى فقال للنبي صلى الله عليه وسلـم اكتب لي بذلك فأمر أبا بكر أن يكتب له هذا الأمر في رقعة، فسلمه إياها، وتحققت هذه المعجزة في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتح بلاد فارس.

ومن تلك المعجزات قصتهما مع أم معبد وشاتها الضعيفة التي مسح النبي صلى الله عليه وسلـم على ضرعها فأدرت الحليب فشرب منه الرسول وأصحابه وملأ الوعاء حليبا ثم ارتحل عنها، وعندما جاء أبو معبد ووجد الحليب فسأل أم معبد من أين لها هذا، فقالت مر بنا رجل مبارك، فقال صفيه لي، فوصفته أم معبد بوصف يقول فيه المؤرخون انه أبلغ وصف وأحسنه للرسول صلى الله عليه وسلـم فقالت: "رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، مبتلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل أرج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطح، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق فصل لا نذر ولا هذر. أجهر الناس وأجملهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، ربعة، لا تشنؤه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا له رفقاء يخصون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابث ولا منفذ.

فقال أبو معبد: "هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً".

وقد أصبحت الهجرة مطلبا شرعيا للمسلم إذا غلب على دينه وضيق عليه في عبادته وأصبح لا يستطيع أن يعبد الله فقال الله تعالى في سورة النساء : "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"